61
تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج2

الأبصار ؛ لأنّها شهدت بوجود الأبصار لحضورها فيها . وأمّا شهادتها بوجود الباري فليستْ بهذه الطريق ، بل بما ذكرناه . والأولى أن يكون «المرائي» هاهنا جمع «مَرْآة» بفتح الميم ،
من قولهم : هو حسن في مَرآة عيني ، يقول : إنّ جنس الرؤية يشهد بوجود البارئ من غير محاضرة منه للحواس .
قوله عليه السلام : «لم تُحط به الأوهام» إلى قوله عليه السلام «وإليها حاكَمَها» ، هذا الكلام دقيق ولطيف ، والأوهام هاهنا هي العقول ، يقول : إنّه سبحانه لم تحط به العقول ، أي لم تتصوّر كنهَ ذاته ، ولكنه تجلّى للعقول بالعقول ، وتجلّيه هاهنا هو كشف ما يمكن أن تصل إليه العقول من صفاته الإضافية والسلبيّة لا غير ، وكشف ما يمكن أن تصل إليه العقول من أسرار مخلوقاته، فأمّا غير ذلك فلا ؛ وذلك لأنّ البحث النظريّ قد دلّ على أنّا لم نعلم منه سبحانه إلاّ الإضافة والسلب ، أما الإضافة فكقولنا : عالم قادر ، وأمّا السّلب فكقولنا : ليس بجسم ولا عرَض ولا يُرى ، فأمّا حقيقة الذات المقدسة المخصوصة من حيث هي هي ، فإنّ العقل لا يتصوّرها ، وهذا مذهب الحكماء وبعض المتكلّمين من أصحابنا ومن غيرهم .
ثم قال : «وبالعقول امتنع من العقول» ، أي وبالعقول وبالنظر ، علمنا أنه تعالى يمتنع أن تدركه العقول . ثم قال : «وإلى العقول حاكَم العقول» ، أي جعل العقول المدعية أنها أحاطت به وأدركته كالخصم له سبحانه ، ثم حاكمها إلى العقول السليمة الصحيحة النظر ، فحكمت له سبحانه على العقول المدّعية لما ليست أهلاً له .
واعلم أنّ القول بالحيرة في جلال ذات البارئ والوقوف عند حدٍّ محدود لا يتجاوزه العقل قولٌ ما زال فضلاء العقلاء قائلين به .
قوله عليه السلام : «ليس بذي كِبَرٍ» إلى قوله «وعظُم سلطاناً» ، معناه أنه تعالى يطلق عليه من أسمائه الكبير والعظيم ، وقد ورد بهما القرآن العزيز ، وليس المراد بهما ما يستعمله الجمهور من قولهم : هذا الجسم أعظم وأكبر مقدارا من هذا الجسم ، بل المراد عِظمُ شأنه وجلالة سلطانه .
والفَلج : النُّصرة ، وأصله سكون العين ، وإنّما حرّكه ليوازن بين الألفاظ ، وذلك لأنّ الماضي منه فَلَج الرجلُ على خَصمه بالفتح ، ومصدره الفَلْج بالسكون ، فأما من روى : « وظهور الفُلُج» بضمتين فقد سقط عنه التأويل ؛ لأنّ الاسم من هذا اللفظ : «الفُلج» بضم أول الكلمة ، فإذا استعملها الكاتب أو الخطيب جاز له ضمّ الحرف الثاني . وصادعا بهما : مظهرا مجاهدا ، وأصله الشقّ . والأمراس : الحِبال ، والواحد مَرَس ؛ بفتح الميم والراء .


تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج2
60

قوله عليه السلام : «وباشتباههم على أن لا شبَه له» هذا دليل صحيح ، وذلك لأنّه إذا ثبت أن جسماً ما محدَث ، ثبت أنّ سائر الأجسام محدَثة ؛ لأنّ الأجسام متماثلة ، وكلّ ما صحّ على
الشيء صحّ على مثله ، وكذلك إذا ثبت أنّ سوادا ما أو بياضا ما محدَث ، ثبت أن سائر السوادات والبياضات محدَثة ؛ لأنّ حكم الشيء حكم مثله ، والسّواد في معنى كونه سواداً غير مختلف ، وكذلك البياض ، فصارت الدلالة هكذا الذوات التي عندنا يُشبِه بعضها بعضا ، وهي محدَثة ؛ فلو كان البارئ سبحانه يشبه شيئا منها لكان مثلها ، ولكان محدَثاً ؛ لأنّ حكم الشيء حكم مثله ، لكنه تعالى ليس بمحدَث ، فليس بمشابه لشيء منها ، فقد صحّ إذا قوله عليه السلام : « وباشتباههم على أن لا شبه له» .
قوله عليه السلام : «الّذي صدق في ميعاده» ، لا يجوز ألاّ يصدق ؛ لأنّ الكذب قبيحٌ عقلاً ، والبارئ تعالى يستحيل منه من جهة الدّاعي والصارف أن يفعل القبيح . «وارتفع عن ظلم عباده» ، هذا هو مذهب أصحابنا المعتزلة ، وعن أمير المؤمنين عليه السلام أخذوه .
ثم أعاد الكلام الأول في التوحيد تأكيداً ، فقال : حدوث الأشياء دليل على قدمه ، وكونها عاجزة عن كثير من الأفعال دليل على قدرته ، وكونها فانية دليل على بقائه .
ثم قال : «واحد لا بعدد» لأنّ وحدته ذاتيّة ، وليست صفة زائدة عليه ، وهذا من الأبحاث الدقيقة في علم الحكمة . ثم قال : «دائم لا بأمَد» ؛ لأنهُ تعالى ليس بزمانيّ ولا داخل تحت الحركة والزمان ، وهذا أيضا من دقائق العلم الإلهيّ ، والعرب دون أن تفهم هذا أو تنطق به ، ولكن هذا الرجل كان ممنوحا من اللّه تعالى بالفيْض المقدّس والأنوار الربانيّة . «وقائم لا بِعَمَد» ؛ لأنّه لما كان في الشاهد كلّ قائم فله عماد يعتمِد عليه ، أبان عليه السلام تنزيهه تعالى عن المكان ، وعمّا يتوهمه الجهلاء من أنه مستقرٌّ على عرشه بهذه اللفظة . ومعنى القائم هاهنا ليس ما يسبق إلى الذهن من أنه المنتصب . بل ، ما تفهمه من قولك : فلان قائم بتدبير البلد ، وقائم بالقسط . «تتلقاه الأذهان لا بمشاعرة» ، أي تتلقاه تلقّيا عقلياً ، ليس كما يتلقى الجسم الجسمَ بمشاعره وحواسّه وجوارحه ، وذلك لأنّ تعقّل الأشياء وهو حصول صورها في العقل بريئة من المادة ، والمراد بتلقّيه سبحانه هاهنا تلقى صفاته ، لا تلقى ذاته تعالى ؛ لأنّ ذاته تعالى لا تتصوّرها العقول . ثم قال : «وتشهد له المرائى لا بمُحاضرة» ، المرائي : جمع مرئيّ ، وهو الشيء المدرَك بالبَصر ، يقول : المرئيّات تشهدُ بوجود البارئ ؛ لأنّه لولا وجوده لما وُجدت ، ولو لم توجد لم تكن مرئيّات ، وهي شاهدة بوجوده لا كشهادتها بوجود

  • نام منبع :
    تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج2
    تعداد جلد :
    2
    ناشر :
    دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1384
    نوبت چاپ :
    الاولی
تعداد بازدید : 213158
صفحه از 800
پرینت  ارسال به