69
تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج2

مؤلف لها في الأجسام المركّبة حتى خلع منها صورة مفردة ، هي المزاج ، ألا ترى أنّه جمع الحارّ والبارد والرطب واليابس، فمزجه مَزْجا مخصوصا حتى انتزع منه طبيعة مفردة،ليست حارّة مطلقة، ولا باردة مطلقة، ولا رطبة مطلقة، ولا يابسة مطلقة، وهي المِزاج ، وهو محدود عند الحكماء بأنّه كيفيّة حاصلة من كيفيّات متضادة ، وهذا هو محصول كلامه عليه السلام بعينه .
والعَجب من فصاحته في ضمْن حكمته ، كيف أعطى كلّ لفظةٍ من هذه اللّفظات ما يناسبُها ويليق بها ، فأعطى المتباعدات لفظة «مقرّب» ؛ لأنّ البعد بإزاء القرب ، وأعطى المتباينات لفظة «مقارن» ؛ لأنّ البينونة بإزاء المقارنة ، وأعطى المتعاديات لفظة «مؤلّف» ؛ لأنّ الائتلاف بإزاء التعادي .
ثم عاد عليه السلام فعكس المعنى ، فقال : «مفرّق بين متدانياتِها» ، فجعل الفساد بإزاء الكوْن ، وهذا من دقيق حكمته عليه السلام ؛ وذلك لأنّ كلّ كائن فاسد ، فلما أوضح ما أوضح في الكَوْن والتركيب والإيجاد ، أعقبه بذكر الفساد والعدم ، فقال : «مفرّق بين متدانياتها» ؛ وذلك لأنّ كلّ جسم مركّبٌ من العناصر المختلفة الكيفيّات المتضادّة الطبائع ، فإنه سيؤول إلى الانحلال والتفرّق . ثم قال : «لا يُشمَل بحدّ» ؛ وذلك لأنّ الحدّ الشامل ما كان مركَّباً من جنس وفصل ، والبارئ تعالى منزّه عن ذلك ؛ لأنّه لو شمِله الحدّ على هذا الوجه يكون مركَّبا ، فلم يكن واجب الوجود ، وقد ثبت أنّه واجب الوجود ، ويجوز أن يعني به أنّه ليس بذي نهاية ، فتحويه الأقطار وتحدّه . «ولا يحسب بعدّ» ، يحتمل أن يريد : لا تحسب أزليّته بعدّ ، أي لا يقال له : منذ وُجد كذا وكذا ، كما يقال للأشياء المتقاربة العهد ، ويحتمل أن يريد به أنّه ليس مماثلاً للأشياء فيدخل تحت العدد ، كما تعدّ الجواهر ، وكما تعدّ الأُمور المحسوسة . «وإنّما تحدّ الأدوات أنفسها ، وتشير الآلات إلى نظائرها» ، هذا يؤكّد معنى التفسير الثاني ؛ وذلك لأنّ الأدواتِ كالجوارح ، إنّما تحدّ وتقدر ما كان مثلها من ذوات المقادير ، وكذلك إنّما تشير الآلات ـ وهي الحواسّ ـ إلى ما كان نظيراً لها في الجسمية ولوازمها ، والبارئ تعالى ليس بذي مقدار ولا جسم ، ولا حالّ في جسم ، فاستحال أن تحدّه الأدوات وتشير إليه الآلات .

الأصْلُ:

۰.مَنَعتْهَا مُنْذُ الْقِدْمَةَ ، وَحَمَتْهَا قَدُ الْأَزَلِيَّةَ ، وَجَنَّبَتْهَا لَوْلاَ التَّكْمِلَةَ ! بِهَا تَجَلَّى صَانِعُهَا لِلْعُقُولِ ، وَبِهَا امْتَنَعَ عَنْ نَظَرِ الْعُيُونِ ، وَلاَ تَجْرِي عَلَيْهِ الْحَرَكَةُ وَالسُّكُونُ ، وَكَيْفَ


تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج2
68

وَالْجُمُودَ بِالْبَلَلِ ، وَالْحَرُورَ بِالصَّرَدِ . مُؤَلِّفٌ بَيْنَ مُتَعَادِيَاتِهَا ، مُقَارِنٌ بَيْنَ مُتَبَايِنَاتِهَا ، مُقَرِّبٌ بَيْنَ مُتَبَاعِدَاتِهَا ، مُفَرِّقٌ بَيْنَ مُتَدَانِيَاتِهَا . لاَ يُشْمَلُ بِحَدٍّ ، وَلاَ يُحْسَبُ بِعَدٍّ ، وَإِنَّمَا تَحُدُّ الْأَدَوَاتُ أَنْفُسَهَا ؛ وَتُشِيرُ الاْلاَتُ إِلَى نَظَائِرِهَا .

الشّرْحُ:

المشاعر : الحواسّ ، قال بَلْعاء بن قَيس :

والرّأسُ مُرْتَفِعٌ فيهِ مشاعِرُهُيَهْدِي السّبيلَ له سَمعٌ وعَيْنَانِ
قال : بجعله تعالى المشاعر عُرِف أن لا مشعرَ له ؛ وذلك لأنّ الجسم لا يصحّ منه فعل الأجسام ، وهذا هو الدليل الذي يعوِّل عليه المتكلّمون في أنّه تعالى ليس بجسم .
ثم قال : «وبمضادّته بين الأُمور عرف أن لا ضدّ له» ؛ وذلك لأنّه تعالى لما دلّنا بالعقل على أن الأُمور المتضادة إنّما تتضادّ على موضوع تقوم به وتحلّه كان قد دلّنا على أنّه تعالى لاضد له ؛ لأنّه يستحيل أن يكون قائماً بموضوع يحلّه كما تقوم المتضادّات بموضوعاتها . ثم قال : «وبمقارنته بين الأشياء عُرِف أن لا قرين له» ؛ وذلك لأنّه تعالى قَرن بين العَرض والجوْهر ، بمعنى استحالة انفكاك أحدهما عن الآخر ، وقَرَن بين كثير من الأعراض ، واستحالة انفكاك أحد الأمرين عن الآخر ، علمنا أنه لا قرينَ له سبحانه ؛ لأنّه لو قارن شيئاً على حسب هذه المقارنة لاستحالة انفكاكه عنه ، فكان محتاجا في تحقق ذاته تعالى إليه ، وكلّ محتاج ممكن ، فواجب الوجود ممكن ! هذا محال .
ثم شرع في تفصيل المتضادات ، فقال : «ضاد النّورَ بالظُّلْمة» ، وهما عَرَضان عند كثير من النّاس ، وفيهم مَنْ يجعل الظلمة عدميّة . قال : «والوضوحَ بالبُهْمة» ، يعني البياض والسواد . قال : «والجمودَ بالبَلَل» ، يعني اليبوسة والرطوبة . قال : «والحَرورَ بالصَّرْد» ، يعني الحرارة والبرودة ، والحرور هاهنا مفتوح الحاء ، يقال : إني لأجد لهذا الطعام حَروراً وحَرورة في فمي ، أي حرارة ، ويجوز أن يكون في الكلام مضاف محذوف ، أي وحَرارة الحَرور بالصَّرْد ؛ والحرور هاهنا يكون الريح الحارّة ، وهي بالليل كالسَّموم بالنهار ، والصَّرْد : البرْد .
ثم قال : وإنّه تعالى مؤلِّف بين هذه المتباعدات . المتعاديات : المتباينات ، وليس المراد من تأليفه بينهما جمعه إيّاها في مكان واحد ، كيف وذلك مستحيل في نفسِه ، بل هو سبحانه

  • نام منبع :
    تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج2
    تعداد جلد :
    2
    ناشر :
    دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1384
    نوبت چاپ :
    الاولی
تعداد بازدید : 249980
صفحه از 800
پرینت  ارسال به