71
تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج2

الحَال ، ولفظة «لولا» لا تطلق إلاّ على ناقص ، فيكون المقصد والمنحَى بهذا الكلام على هذه الرواية بيان قِدَم الباري تعالى وكماله ، وأنّه لا يصحّ أن يطلق عليه ألفاظ تدلّ على الحدوث والنَّقص .
قوله عليه السلام : «بها تجلّى صانعُها للعقول ، وبها امتنع عن نظر العيون» ، أي بهذه الآلات والأدوات التي هي حواسّنا ومشاعرنا ، وبخلْقِه إياها ، وتصويرِه لها ، تجلّى للعقول وعُرِف ؛ لأنّه لو لم يخلقها لم يعرف ، وبها امتنع عن نظر العيون ، أي بها استنبطنا استحالة كونه مرئيّا بالعيون ؛ لأنّا بالمشاعر والحواسّ كملت عقولنا ، وبعقولنا استخرجنا الدلالة على أنّه لا تصحّ رؤيته ، فإذن بخلقه الآلات والأدوات لنا عرفناه عقلاً ، وبذلك أيضاً عرفنا أنّه يستحيل أن يعرَف بغير العقل ، وأنّ قول من قال : إنا سنعرفه رؤيةً ومشافهة بالحاسّة ، باطل .
قوله عليه السلام : «لا تجرى عليه الحركة والسكون» ، هذا دليلٌ أخذَه المتكلّمون عنه عليه السلام فنظموه في كتبهم وقرروه ، وهو أنّ الحركة والسكون معانٍ محدَثة ، فلو حلّت فيه لم يخلُ منها ، وما لم يخل من المحدَث فهو محدث . ثم قال عليه السلام : «إذَاً لتفاوتت ذاتُه ، ولتجزّأ كُنهه ، ولامتنع من الأزَل معناه» ، هذا تأكيد لبيان استحالة جَرَيان الحركة والسّكون عليه ، تقول : لو صحّ عليه ذلك لكان محدَثا ، وهو معنى قوله : «لامتنع من الأزَل معناه» ، وأيضا كان ينبغي أن تكون ذاته منقسمة ؛ لأنّ المتحرّك الساكن لابدّ أن يكون متحيّزا ، وكلّ متحيّز جسم ، وكلّ جسم منقسم أبداً ، وفي هذا إشارة إلى نفي الجوْهر الفرد .
ثم قال عليه السلام : «ولكان له وراء إذ وُجِد له أمام» ، هذا يؤكّد ما قلناه إنه إشارة إلى نفي الجوْهر الفرْد ، يقول : لو حلّته الحَركة لكان جرْما وحَجْما ؛ ولكان أحدُ وجهيه غيرَ الوجه الآخر لا محالة ، فكان منقسما ، وهذا الكلام لا يستقيم إلاّ مع نفي الجوهر الفرد ، لأنّ مَنْ أثبته يقول : يصحّ أن تحلّه الحركة ، ولا يكون أحد وجهيْه غير الآخر ، فلا يلزم أن يكون له وراء وأمام . ثم قال عليه السلام : «ولا التمس التمام إذ لزمه النقصان» ، هذا إشارة إلى ما يقوله الحكماء ، منْ أنّ الكوْن عدم ونقْص ، والحركة وجود وكمال ، فلو كان سبحانه يتحرّك ويسكن لكان حال السكون ناقصا قد عدم عنه كماله ، فكان ملتَمسا كمالُه بالحرَكة الطارئة على السّكون ، وواجب الوجود ، يستحيل أن يكون له حالة نقصان ، وأن يكون له حالة بالقوّة وأُخرى بالفعل .
قوله عليه السلام : «إذاً لقامت آية المصنوع فيه» ، وذلك لأنّ آية المصنوع كونه متغيّرا منتقلاً من حال إلى حال ، لأنّا بذلك استدللنا على حدوث الأجسام ، فلو كان تعالى متغيرا متحرّكا


تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج2
70

يَجْرِي عَلَيْهِ مَا هُوَ أَجْرَاهُ ، وَيَعُودُ فِيهِ مَا هُوَ أَبْدَاهُ ، وَيَحْدُثُ فِيهِ مَا هُوَ أَحْدَثَهُ ! إِذاً لَتَفَاوَتَتْ ذَاتُهُ ، وَلَتجَزَّأَ كُنْهُهُ ، وَلاَمْتَنَعَ مِنَ الْأَزَلِ مَعْنَاهُ ، وَلَكَانَ لَهُ وَرَاءٌ إِذْ وُجِدَ لَهُ أَمَامٌ ، وَلاَلْتَمَسَ التََّمامَ إِذْ لَزِمَهُ الْنُّقْصَانُ ؛ وَإِذاً لَقَامَتْ آيَةُ الْمَصْنُوعِ فِيهِ ، وَلَتَحَوَّلَ دَلِيلاً بَعْدَ أَنْ كَانَ مَدْلُولاً عَلَيْهِ ، وَخَرَجَ بِسُلْطَانِ الاِْمْتِنَاعِ مِنْ أَنْ يُؤَثِّرَ فِيهِ مَا يُؤثِّرُ فِي غَيْرِهِ .

الشّرْحُ:

قد اختلف الرواة في هذا الموضع من وجهين :
أحدهما : قول مَنْ نصب «القِدمة» و «الأزليّة» و «التكملة» فيكون نصبها عنده على أنّها مفعول ثانٍ ، والمفعول الأوّل الضمائر المتصلة بالأفعال ، وتكون « منذ » و «قد» و «لولا» في موضع رفع بأنّها فاعلة ، وتقدير الكلام : إنّ إطلاق لفظة «منذ» على الآلات والأدوات يمنعها عن كونها قديمة ؛ لأنّ لفظة « منذ » وضعت لابتداء الزمان كلفظة «من» لابتداء المكان ، والقديم لا ابتداء له ، وكذلك إطلاق لفظة «قد» على الآلات ، والأدوات تحميها وتمنعها من كونها أزليّة ؛ لأنّ «قد» لتقريب الماضي من الحال ، تقول : قد قام زيد ، فقد دلّ على أن قيامه قريب من الحال التي أخبرت فيها بقيامه ، والأزليّ لا يصحّ ذلك فيه ، وكذلك إطلاق لفظة « لولا» على الأدوات والآلات يجنّبها التكملة ، ويمنعها من التمام المطلق ؛ لأنّ لفظة «لولا» وضعت لامتناع الشيء لوجود غيره ، كقولك : لولا زيد لقام عمرو ، فامتناع قيام عمرو إنّما هو لوجود زيد ، وأنت تقول في الأدوات والآلات وكلّ جسم : ما أحسنه لولا أنه فانٍ ! وما أتمّه لولا كذا ! فيكون المقصد والمنحَى بهذا الكلام على هذه الرواية بيان أنّ الأدوات والآلات محدَثة ناقصة ، والمراد بالآلات والأدوات أربابُها .
الوجه الثاني : قول مَنْ رفع «القِدمة» و «الأزلية» و «التكملة» فيكون كلّ واحد منها عنده فاعلا ، وتكون الضمائر المتّصلة بالأفعال مفعولاً أوّلاً ، و «منذ» و «قد» و «لولا» مفعولاً ثانيا ، ويكون المعنى أنّ قِدَم الباري وأزليّته وكماله منعت الأدوات والآلات من إطلاق لفظة «منذ» و «قد» و «لولا» عليه سبحانه ؛ لأنّه تعالى قديم كامل ، ولفظتا «منذ» و «قد» لا يطلقان إلاّ على محدَث ؛ لأنّ إحدَاهما لابتداء الزمان والأُخرى لتقريب الماضي من

  • نام منبع :
    تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج2
    تعداد جلد :
    2
    ناشر :
    دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1384
    نوبت چاپ :
    الاولی
تعداد بازدید : 249949
صفحه از 800
پرینت  ارسال به