77
تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج2

منّا لابدّ أن يحتذِيَ في الصّنعة ، كالبنّاء والنّجّار والصّانع وغيرها .
قال عليه السلام : «ولم يستعنْ على خلْقها بأحدٍ من خلقه» ؛ لأنّه تعالى قادر لذاته لا يُعجِزه شيء . ثم ذكر إنشاءه تعالى الأرض ، وأنه أمسكها من غير اشتغال منه بإمساكها ، وغير ذلك من أفعاله ومخلوقاته ، ليس كالواحد منّا يمسك الثقيل فيشتغل بإمساكه عن كثير من أُموره . قال : «وأرساها» ، جعلها راسية على غير قرار تتمكّن عليه ، بل واقفة بإرادته التي اقتضت وقوفها . والأوَد : الاعوجاج ، وكرّر لاختلاف اللفظ . والتّهافت : التساقط . والأسداد : جمع سَدّ ، وهو الجبل ، ويجوز ضمّ السين . واستفاض عيونَها ، بمعنى أفاض ، أي جعلها فائضة . وخدّ أودَيتها ، أي شقّها . فلم يَهُنْ ما بناه ، أي لم يضعف .

الأصْلُ:

۰.هُوَ الظَّاهِرُ عَلَيْهَا بِسُلْطَانِهِ وَعَظَمَتِهِ ، وَهُوَ الْبَاطِنُ لَهَا بِعِلْمِهِ وَمَعْرِفَتِهِ ، وَالْعَالِي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مِنْهَا بِجَلاَلِهِ وَعِزَّتِهِ . لاَ يُعْجِزُهُ شَيْءٌ مِنْهَا طَلَبَهُ ، وَلاَ يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ فَيَغْلِبَهُ ، وَلاَ يَفُوتُهُ السَّرِيعُ مِنْهَا فَيَسْبِقَهُ ، وَلاَ يَحْتَاجُ إِلَى ذِي مَالٍ فَيَرْزُقَهُ .
خَضَعَتِ الْأَشْيَاءُ لَهُ ، وذَلَّتْ مُسْتَكِينَةً لِعَظَمَتِهِ ، لاَ تَسْتَطِيعُ الْهَرَبَ مِنْ سُلْطَانِهِ إِلَى غَيْرِهِ فَتَمْتَنِعَ مِنْ نَفْعِهِ وَضُرِّهِ ، وَلاَ كُفْ ءَ لَهُ فَيُكَافِئَهُ ، وَلاَ نَظِيرَ لَهُ فَيُسَاوِيَهُ . هُوَ الْمُفْنِي لَهَا بَعْدَ وُجُودِهَا ، حَتَّى يَصِيرَ مَوْجُودُهَا كَمَفْقُودِهَا .
وَلَيْسَ فَنَاءُ الدُّنْيَا بَعْدَ ابْتِدَاعِهَا بِأَعْجَبَ مِنْ إِنْشَائِهَا وَاخْتِرَاعِهَا . وَكَيْفَ وَلَوِ اجْتَمَعَ جَمِيعُ حَيَوَانِهَا ـ مِنْ طَيْرِهَا وَبَهَائِمِهَا ، وَمَا كَانَ مِنْ مُرَاحِهَا وَسَائِمِهَا ، وَأَصْنَافِ أَسْنَاخِهَا وَأَجْنَاسِهَا ، وَمُتَبَلِّدَةِ أُمَمِهَا وَأَكْيَاسِهَا ـ عَلَى إِحْدَاثِ بَعُوضَةٍ ، مَا قَدَرَتْ عَلَى إِحْدَاثِهَا ، وَلاَ عَرَفَتْ كَيْفَ السَّبِيلُ إِلَى إِيجَادِهَا ، وَلَتَحَيَّرَتْ عُقُولُهَا فِي عِلْمِ ذلِكَ وَتَاهَتْ ، وَعَجِزَتْ قُوَاهَا وَتَنَاهَتْ ، وَرَجَعَتْ خَاسِئَةً حَسِيرَةً ، عَارِفَةً بِأَ نَّهَا مَقْهُورَةٌ ، مُقِرَّةً بِالْعَجْزِ عَنْ إِنْشَائِهَا ، مُذْعِنَةً بِالضَّعْفِ عَنْ إِفْنَائِهَا !


تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج2
76

فإن قلت : ما معنى قوله عليه السلام «ومثّله»؟
قلت : يقال : مثّلت له كذا تمثيلاً ، إذا صوّرتَ له مثاله بالكتابة أو بغيرها ، فالبارئ مثّل القرآنَ لجبريل عليه السلام بالكتابة في اللّوْح المحفوظ فأنزله على محمّد صلى الله عليه و آله وسلم . وأيضا يقال : مثل زيد بحضرتي إذا حضر قائما ، ومثّلته بين يدي زيد أي أحضرته منتصبا ، فلمّا كان اللّه تعالى فعل القرآن واضحا بيّنا كان قد مثّله للمكلّفين .

الأصْلُ:

۰.لاَ يُقَالُ كَانَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ ، فَتَجْرِيَ عَلَيْهِ الصِّفَاتُ الْمُحْدَثَاتُ ، وَلاَ يَكُونُ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ فَصْلٌ ، وَلاَ لَهُ عَلَيْهَا فَضْلٌ ، فَيَسْتَوِيَ الصَّانِعُ وَالْمَصْنُوعُ ، وَيَتَكَافَأَ الْمُبْتَدَعُ وَالْبَدِيعُ .
خَلَقَ الْخَلاَئِقَ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ خَلاَ مِنْ غَيْرِهِ ، وَلَمْ يَسْتَعِنْ عَلَى خَلْقِهَا بِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ ، وَأَنْشَأَ الْأَرْضَ فَأَمْسَكَهَا مِنْ غَيْرِ اشْتِغَالٍ ، وَأَرْسَاهَا عَلَى غَيْرِ قَرَارٍ ، وَأَقَامَهَا بِغَيْرِ قَوَائِمَ ، وَرَفَعَهَا بِغَيْرِ دَعَائِمَ ، وَحَصَّنَهَا مِنَ الْأَوَدِ وَالاِْعْوِجَاجِ ، وَمَنَعَهَا مِنَ التَّهَافُتِ وَالاِنْفِرَاجِ . أَرْسَى أَوْتَادَهَا ، وَضَرَبَ أَسْدَادَهَا ، وَاسْتَفَاضَ عُيُونَهَا ، وَخَدَّ أَوْدِيَتَهَا ؛ فَلَمْ يَهِنْ مَا بَنَاهُ ، وَلاَ ضَعُفَ مَا قَوَّاهُ .

الشّرْحُ:

عاد عليه السلام إلى تنزيه البارئ تعالى عن الحدُوث ، فقال : لا يجوز أن يوصَف به فتجري عليه الصّفات المحدَثات كما تجري على كلّ محدَث ، وروي : «فتجري عليه صفات المحدَثات» وهو أليَق ، ليعود إلى المحدَثات ذوات الصفات ما بعده ؛ وهو قوله عليه السلام : «ولا يكون بينه وبينها فصل» ، لأنّه لا يحسن أن يعود الضمير في قوله : «وبينها» إلى «الصفات» بل إلى «ذوات الصفات» . قال : لو كان محدَثاً لجرت عليه صفات الأجسام المحدَثة ، فلم يكن بينه وبين الأجسام المحدَثة فرْق ، فكان يستوي الصانع والمصنوع ، وهذا محال . ثم ذكر أنّه خلق الخلْق غير محتذٍ لمثال ، ولا مستفيد من غيره كيفيّة الصنعة ، بخلاف الواحد منّا ، فإنّ الواحد

  • نام منبع :
    تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج2
    تعداد جلد :
    2
    ناشر :
    دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1384
    نوبت چاپ :
    الاولی
تعداد بازدید : 249788
صفحه از 800
پرینت  ارسال به