87
تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج2

جعله عليه السلام عواري بين القلوب والصدور ؛ لأنهُ دون الثاني ، فلم يجعلهُ حالاًّ في القلب ، وجعلهُ مع كونه عارية حالاًّ بين القلب والصدر . فيكون أضعف مما قبله .
فإن قلت : فما معنى قوله : «إلى أجل معلوم»؟
قلت : إنه يرجع إلى القسمين الأخيرين ؛ لأنّ من لا يكون إيمانُه ثابتا بالبرهان القطعيّ قد ينتقل إيمانه إلى أن يصير قطعيا ، بأن ينعم النّظر ويرتّب البرهان ترتيبا مخصوصا ، فينتج له النتيجة اليقينيّة ، وقد يصير إيمان المقلّد إيمانا جدليّا فيرتقي إلى ما فوقه مرتبته ، وقد يصير إيمان الجدليّ إيماناً تقليديا بأن يضعف في نظره ذلك القياس الجدليّ ، ولا يكون عالما بالبرهان ، فيؤول حالُ إيمانه إلى أن يصير تقليديّا ، فهذا هو فائدة قوله : «إلى أجل معلوم» في هذين القسمين .
فأمّا صاحب القسم الأوّل فلا يمكن أن يكون إيمانه إلى أجل معلوم ؛ لأنّ مَنْ ظفر بالبرهان استحال أن ينتقل عن اعتقاده ، لا صاعداً ولا هابطاً ؛ أمّا لا صاعداً ، فلأنّه ليس فوق البرهان مقام آخر ، وأمّا لا هابطا ، فلأنّ مادّة البرهان هي المقدّمات البديهيّة والمقدّمات البديهيّة يستحيل أن تضعف عند الإنسان حتى يصير إيمانه جدليّا أو تقليديا .
وثانيها : قوله عليه السلام : «فإذا كانت لكم براءة» ، فنقول : إنّه عليه السلام نهى عن البراءة من أحدٍ ما دام حيّا ، لأنّه وإن كان مخطئا في اعتقاده ، لكن يجوز أن يعتقد الحقّ فيما بعد ، وإن كان مخطئا في أفعاله ، لكن يجوز أن يتوبَ . فلا تحلّ البراءة من أحد حتى يموت على أمرٍ ؛ فإذا مات على اعتقادٍ قبيح أو فعل قبيح جازت البراءة منه .
وثالثها : قوله : «والهجرة قائمة على حدّها الأوّل» ، فنقول : هذا كلام يختصّ به أميرالمؤمنين عليه السلام ، وهو من أسرار الوصيّة ، لأنّ الناس يروُون عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم أنه قال : «لا هجرة بعد الفتح» ۱ ، فشفع عمّه العباس في نعيم بن مسعود الأشجعيّ أن يستثنيَه ، فاستثناه ، وهذه الهجرة التي يشيرُ إليها أمير المؤمنين عليه السلام ليست تلك الهجرة ، بل هي الهجرة إلى الإمام ، قال : إنها قائمة على حدها الأوّل مادام التكليف باقياً ۲ ، وهو معنى قوله : «ما

1.صحيح البخاري ۲:۱۳۴ ، ومسلم ۳:۱۴۸۹ ح۸۵ . وسنن الترمذي ۴:۱۴۸ ، ح۱۵۹۰ وغيرهم ووسائل الشيعة ، الحرّ العاملي ۵:۱۰۲ . وقيل : إن المراد منه ، لا هجرة بعد فتح مكّة لأنها صارت دار الإسلام أبداً .

2.صرّح كثير من فقهائنا ؛ بأنّ الهجرة باقية مادام الكفر باقياً ، أو الشرك قائماً ، واستدلّ له بعدة أدلة منها قوله عليه السلام : « لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة ، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها » . انظر : شرايع الإسلام ، للمحقق الحلي ۱:۲۳۴ ، والمبسوط ، للطوسي ۳:۴ ، مجمع الفائدة ، ۷:۴۴۷ مسند أحمد ۱:۱۹۲ .


تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج2
86

الْمَوْتُ ، فَعِنْدَ ذلِكَ يَقَعُ حَدُّ الْبَرَاءَةِ .
وَالْهِجْرَةُ قَائِمَةٌ عَلَى حَدِّهَا الْأَوَّلِ ، مَا كَانَ لِلّهِ فِي أَهْلِ الْأَرْضِ حَاجَةٌ مِنْ مُسْتَسِرِّ الاْءِمَّةِ وَمُعْلِنِهَا . لاَ يَقَعُ اسْمُ الْهِجْرَةِ عَلى أَحَدٍ الاّ بِمَعْرِفَةِ الْحُجَّةِ فِي الْأَرْضِ ، فَمَنْ عَرَفَهَا وَأَقَرَّ بِهَا فَهُوَ مُهَاجِرٌ ، وَلاَ يَقَعُ اسْمُ الاِسْتِضْعَافِ عَلَى مَنْ بَلَغَتْهُ الْحُجَّةُ فَسَمِعْتْهَا أُذُ نُهُ وَوَعَاهَا قَلْبُهُ .
إِنَّ أَمْرَنا صَعْبٌ مُسْتَصْعَبٌ ، لاَ يَحْمِلُهُ إِلاَّ عَبْدٌ مُؤْمِنٌ امْتَحَنَ اللّهُ قَلْبَهُ لِلإِيمَانِ ، وَلاَ يَعِي حَدِيثَنَا إِلاَّ صُدُورٌ أَمِينَةٌ ، وَأَحْلاَمٌ رَزِينَةٌ .
أَيُّهَا النَّاسُ ، سَلُونِي قَبْلَ أَنْ تَفْقِدُونِي ، فَلَأَنَا بِطُرُقِ السَّماءِ أَعْلَمُ مِنِّي بِطُرُقِ الْأَرْضِ ؛ قَبْلَ أَنْ تَشْغَرَ بِرِجْلِهَا فِتْنَةٌ تَطَأُ فِي خِطَامِهَا وَتَذْهَبُ بِأَحْلاَمِ قَوْمِهَا ۱ .

الشّرْحُ:

هذا الفصل يُحمَل على عدّة مباحث :
أوّلها : قوله عليه السلام : فمن الإيمان ما يكون كذا . فنقول : إنه قسّم الإيمان إلى ثلاثة أقسام :
أحدها : الإيمان الحقيقيّ ، وهو الثابت المستقرّ في القلوب بالبرهان اليقينيّ .
الثاني : ما ليس ثابتا بالبرهان اليقينيّ بل بالدليل الجدَليّ ، كإيمان كثير ممن لم يحقّق العلوم العقلية ، ويعتقد ما يعتقده عن أقيِسة جدليّة لا تبلغ إلى درجة البرهان ، وقد سمّى عليه السلام هذا القسم باسم مفرد ، فقال : إنه عواري في القلوب ، والعواري : جمع عاريّة ، أي هو وإن كان في القلب وفي محل الايمان الحقيقيّ ، إلاّ أنّ حكمه حكم العارية في البيت ، فإنها بعرضة الخروج منه ؛ لأنّها ليست أصلية كائنة في بيت صاحبها .
والثالث : ما ليس مستندا إلى برهان ولا إلى قياس جدلي ، بل على سبيل التقليد ، وحسن الظن بالأسلاف ، وبمن يحسن ظنّ الإنسان فيه من عابد أو زاهد أو ذي ورع ، وقد

1.عواري : جمع عارية . أي ما تعطيه غيرك شرط أن يردّه لك . فقفوه : أوقفوا الحكم عليه . المستسر : من استسرّ الأمر إذا كتمه . الإِمة ، بكسر الهمزة : الحالة . الأحلام : هنا العقول . الرزينة : الوقرة . الرزين : أصيل الرأي . شغر برجله : رفعها . الخطام : مقود البعير . الخطم : الأنف وما يليه .

  • نام منبع :
    تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج2
    تعداد جلد :
    2
    ناشر :
    دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1384
    نوبت چاپ :
    الاولی
تعداد بازدید : 213121
صفحه از 800
پرینت  ارسال به