المعنى :
لما كان نبينا صلى الله عليه و آله أشرفَ الأنبياء و سيَّدهم ، و لذا صار بحسب الترتيب عقيبهم ، لئلا يُنسخ شرعه ، و لأنّ السلف كمقدمة الجيش يُعِدُّون الخلق لقبول الفيوضات الإلهية ، و كأنهم مبشِّرون بقدومه ، كما قال الشاعر بالفارسية :
من آن ستاره صبحم كه در محل طلوعهميشه پيشروى آفتاب مى باشم
و هذا ما قال في الدعاء « إلى أن انتهيت بالأمر » ، يعني : إنّ بعث الأنبياء و نصب الأوصياء قد استمرّ و امتدّ إلى زمان بعثة الرسول صلى الله عليه و آله ، و ما بقي الدهر خاليا من الحجة .
و حيث إنّ نبيَّنا كان أفقههم ـ على ما صرح بقوله « سيد من خلقته » ـ و كان من المرسلين مبعوثا إلى الجن و الإنس و مرسلاً إلى عموم الخلائق كما اُشير إليه بلفظ « الثقلين » أي الإنس و الجن ، و كذا بقوله « و أوطأته مشارقك و مغاربك » ؛ فإنه كناية عن وطئه تمام الكرة؛ لأن الأرض منقسمة بخط الجنوب و الشمال إلى القسمين المشرق و المغرب، و التعبير بالجمع بملاحظة الممالك أو البلدان أو مطالع الشمسين باعتبار الفصول بل الأيام أيضا.
و من جملة فضائله و امتيازاته صلى الله عليه و آله معراجه ؛ فإنّ بعض الأنبياء ـ كإدريس و عيسى ـ على نبينا و آله و عليهماالسلام ، و إن كان لهما أيضا عروج و معراج ، كما قال اللّه تعالى في حق إدريس في سورة مريم : «وَ اذْكُرْ فِى الْكِتَـبِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا * وَ رَفَعْنَـهُ مَكَانًا عَلِيًّا»۱ .
وفي الصافي۲عن الكافي۳عن الباقر عليه السلام قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : أخبرني جبرئيل أنّ ملكا من
الملائكة كانت له عند اللّه منزلة عظيمة ، فعتب عليه ، فأهبطه من السماء إلى الأرض ، فأتى إدريس عليه السلام فقال له : إن لك عند اللّه منزلة ، فاشفع لي عند ربك . فصلّى ثلاث ليال لا يفتر ، و صام أيامها لا يفتر ، ثم طلب إلى اللّه عز و جل في السَّحَر في الملَك ، فقال الملك : إنك قد اُعطيت سؤلك ، و قد أطلق اللّه لي جناحي ، و أنا أُحبّ أن اُكافئك ، فاطلب إليّ حاجة . فقال : تريني ملكَ الموت لعلّي آنس به ؛ فإنه ليس يهنأ مع ذكره شيء . فبسط جناحيه ثم قال : إركب . فصعد به ، فطلب ملك الموت في السماء الدنيا ، فقيل له اصعد ، فاستقبله بين السماء الرابعة و الخامسة ، فقال الملك : يا ملك الموت ، ما لي أراك قاطبا ؟ قال : العجب إني تحت ظل العرش حيث أمرت أن أقبض روح آدمي بين السماء الرابعة و الخامسة . فسمع إدريس عليه السلام ، فامتعض ، فخرّ من جناح الملك ، فقُبض روحُه مكانَه ، و قال اللّه :«وَ رَفَعْنَـهُ مَكَانًا عَلِيًّا»۴. انتهى .
و قال في حق عيسى : «وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَـكِن شُبِّهَ لَهُمْ» إلى قوله : «بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ»۵ ] أي رفعه] إلى السماء الرابعة .
و في الخبر : ضجّت الملائكة لما رأوه لابسا لثياب خشنة عارية في الدنيا عن العلائق الدنيوية من المال و العيال و الأولاد و المسكن و غيرها ، فأوحى إليهم ؛ أن : فتِّشوه . فلما فتشوا وجدوا معه إبرة ليخيط بها قدّ قميصه ، فقال اللّه تعالى : لو لا أن له علاقة بالدنيا بقدر الإبرة لرفعته إلى السماء السابعة ۶ .
أقول : و حيث إنّ لنا علائق بالدنيا من الثرى إلى السماء السابعة فلا نرفع بقدر الإبرة ، و أما نبينا صلى الله عليه و آله خاتم الأنبياء فلم يتعلق قلبه الشريف بعلائق الدنيا ذرّة ، فخصَّه اللّه تعالى بفضيلة المعراج ، كما أشار إليه في سورة الإسراء : «سُبْحَانَ الَّذي أسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلى المَسْجِدِ الأقْصَى الَّذي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا»۷ الآية .
و قد اختلفوا في معراجه صلى الله عليه و آله من حيث الكم و الكيف و الوضع و الأين و المتى و الجدة :
فالاختلاف الكمي من حيث وقوع المعراج مرّة واحدة كما هو المتيقَّن؟ أو مرتين كما ورد في الخبر المروي في الكافي ۸ عن الصادق عليه السلام ، حيث سُئل : كم عُرج برسول اللّه صلى الله عليه و آله ؟
فقال : مرّتين .
و في الكيف : هل كان راجلاً؟ أو راكبا للبراق إلى محل و للرفرف في محل آخر ؛ كما هو المشهور المستفاد من أكثر الأخبار ۹ ؟ .
و في الوضع : من حيث كونه يقظانا كما هو معتقَد أكثر الإمامية و جمع من غيرهم ، أو نائما كما يُستفاد من جمع من رواة العامة ، و هو مروي عن اُمّ المؤمنين عائشة ۱۰ ؟.
وفي الأين: هل هو في مكة أو فيالمدينة من بيت اُمّ هانئ¨، أم من المسجد الحرام أو غيرها؟
و كذا في الحركة الأينية : من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى كما هو ظاهر الآية ، أو إلى السماوات العلى و فوق العرش الأعلى إلى السدرة المنتهى و الحجب العليا كما هو منصوص أكثر الأخبار المروية عن أهل بيت النبوة صلوات اللّه عليهم أجمعين ۱۱ ؟
و في المتى : من حيث وقوعه في ليلة القدر ، أو السابع و العشرين من رجب في عام البعثة ، أو الثاني عشر منها أو غيرها؟
وفي الجِدَة : من حيث كون المعراج جسمانيا ، أي الجسم مع الروح كما هو معتقَد أغلب الإمامية ، أو روحانيا كما يقوله القائلون بكونه في حالة النوم ، أو بين النوم و اليقظة ؟ و بعبارة اُخرى : فهل المالك لهذه الحركة هو الجسم متعلقا به الروح أو الروح وحده . و بهذا الاعتبار قد عبّرنا عنه بـ « الجدة » المرادف للملك .
و منهم من قال بكون معراجه بقالبه المثالي ، كما أنّ المعاد قد اختلف فيه : هل هو معاد جسماني أو روحاني أو بقالب المثال ؟ و منشأ الاختلاف هو النظر إلى استحالة إعادة المعدوم ، كما أن منشأ الاختلاف في المعراج استحالة الخرق و الإلتيام في عوالم الأفلاك ، فكيف يكون النبيّ صلى الله عليه و آله ببدنه العنصري صاعدا إلى السماوات بل ما فوقها ، مع أن الامتداد كثير جدا؟
فعلى المستفاد من الخبر المروي في الاحتجاج ۱۲ عن أمير المؤمنين عليه السلام في ذكر النبي قال : اُسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى مسيرة شهر ، و عُرج به في ملكوت
السماوات مسيرة خمسين ألف عام أقل من ثلث ليلة ، حتى انتهى إلى ساق العرش . انتهى . و هو الموافق للآية في سورة المعارج : «تَعْرُجُ الْمَلَئِكَةُ وَ الرُّوحُ إِلَيْهِ فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ»۱۳ .
و لأجل هذه الاستبعادات التزم جمع بعدم كون المعراج جسمانيا ، حتى قال أعرابيهم : «ألقى النبي عنصره الترابي في كرة التراب ، و المائي في الماء ، و الناري و الهوائي في الهواء و النار ، و صعد بروحه!» . و قد أثبت هذا القائل من أمثال ذلك المعراج الروحاني لنفسه آلاف اُلوف .
و لعل المتوهِّم يتوهم صحة هذا الاعتقاد من بعض نسخ دعاء الندبة كما في زاد المعاد ، حيث قال : و عرجت بروحه ۱۴ .
هذا ، و لكن الإنصاف أن القول بمعراج النبيّ مرتين أو مرة من هذا القبيل ، و إثباته آلاف اُلوف للأعرابي بل لكل نائم على ما قاله تعالى في الآية : «اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَ الَّتِى لَمْ تَمُتْ فِى مَنَامِهَا»۱۵ الآية . بل الصلاة معراج المؤمن كل يوم خمس مرات [ . . . ]و مقرون بالاعتساف .
و أما الاستبعادات فما لم تصر بحدّ الاستحالة العقلية فليست مانعة ، كما أن معتقدنا في المعاد أنه جسماني ، و الثواب و العقاب في القيامة على هذا البدن العنصري .
و القول بأنه مستلزم لإعادة المعدوم و هو محال ، كما اُشير إليه في الآية : «وَ ضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَ نَسِىَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحْىِ الْعِظَـمَ وَ هِىَ رَمِيمٌ»۱۶ ، قد أجاب ذاته الأقدس عن هذه الشبهة ـ بعد التعريض أوّلاً بقوله « و نسي خلقه » ـ قال في الآية اللاحقة : «قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِى أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ هُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ»۱۷ .
و محصّل الجواب بعد التوضيح : أن إعادة المعدوم لا نسلِّم بطلانه و استحالته أوّلاً ؛ إذ لم يقم برهان يقنعنا على ذلك ، قد كان اللّه تعالى خلقه في الأوّل لا من شيء . و لو سُلِّم بطلانه فليس المقام من هذا القبيل ؛ فإنّ الهيولى باقية و الصور متبدلة ، حتى أن العظام لو ترممت
و صارت بالية و استحالت ترابا ، فهذه تبدل في الصورة .
على أن الأعضاء الأصلية في الحيوان لا تصير معدومة ، و إنما الذي تبلى هي الأعضاء و الأجزاء الطارئة . و على التسامح العرفي يقال على مثل هذا البدن المتجدِّد : إنه البدن الأصلي . فإذا اندفعت الشبهة و الاستبعاد في المعاد فكذلك هي مدفوعة في المعراج .
أمّا على القول بأن المعراج هو السير من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ـ كما هو القدر المتيقَّن من آية الإسراء ـ فلا يرد عليه إشكال ؛ لا من جهة الخرق و الالتيام ، و لا من جهة قصر المدة . فالأول واضح ، و الثاني فإن بساط سليمان به سبب الريح كان غدوُّها شهرا و رواحُها شهرا ، فلا استبعاد فيه . و لكن إطلاق المعراج على هذا المعنى لا وجه له ؛ إذ لا عروج فيه ، بل مسير و إسراء كما عُبِّر به في الآية .
وأما لو قلنا بعروجه إلى السماوات بعد مسيره هذا ـ كما هو المعتقَد بمقتضى الأخبار المأثورة ـ فتوقيته بما يقرب من طرفة عين كما قيل و ورد به الخبر : أنّ حلقة الباب التي تحركت عند ذهابه لم تسكن عن الحركة في إيابه ۱۸ ، فهو و إن لم يكن عادم النظير بالتقريب ـ كما قال آصف بن برخيا : «اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَ الَّتِى لَمْ تَمُتْ فِى مَنَامِهَا»۱۹ ، و ذلك من اليمن إلى الشام مسيرة شهر أو شهرين ـ إلا أن النظير ـ لو سلمناه ـ فهو يرفع استبعاد المسير من حيث هو مسير ، و أما الكلمات و المخاطبات الواقعة مع الملائكة و الأنبياء ـ سلام اللّه عليهم ـ و مع ذاته الأقدس تعالى ، فلا يصح وقوعها في هذا الوقت عقلاً . مع أن النظير أيضا غير مسلم ، و أي مناظرة بين مسير شهر أو شهرين و بين مسير خمسين ألف سنة ؟ !
مع أن الشعاع أسرع الأشياء في الحركة على ما استنبطه المتجددون من علماء الاُروپ ؛ يسير في كل ثانية ثمانية و سبعين ألفا و ثمانمئة و واحد و أربعين ( 78841 ) فرسخا ، حتى قالوا : إن شعاع الشمس يصل إلى الأرض في ثمان دقائق ، و الفاصلة [ بينهما ]سبعون و اثنان مليون فرسخ بفراسخ أربعة آلاف ذرع .
فالإنصاف أن القول بالمعراج الجسماني لا يلائم هذا المقدار من التوقيت . و الاعتذار عنه بكونه روحانيا أيضا لا يسمن و لا يغني من جوع ، مضافا إلى عدم الفضيلة فيه كما عرفت ، [و] لا يحتاج معه إلى تحريك حلقة الباب حتى لا تسكن عن الحركة ، بل و لا يحتاج معه إلى البراق و الرفرف ، بل و لا إلى جبرئيل و غيره .
و من هنا يظهر لك عدم الملإمة بين عبارتي الدعاء على نسخة المجلسي قدس سره ؛ فإنّ تسخير البراق لا حاجة إليه مع عروج الروح ؛ فهو من جهة القرائن السياقية على النسخة الاُخرى ، بأن تكون العبارة « و عرجت به » على ما سيأتي إن شاء اللّه تعالى .
فتعيّن على القول بوقوع المعراج و جسمانيته إلى السماوات الالتزام بكونه في تمام الليل ، كما هو ظاهر إطلاق الآية ، حيث قال تعالى : «أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً»۲۰ ؛ فإن ظهور « الليل » من حيث إطلاقه في تمام الليل ، كما أن ظهور « العبد » في الجسم مع الروح لا الروح فقط ، فيستفاد منها كون المعراج جسمانيا و في الليل بما يقرب من تمامه أو فيما يقرب من ثلث الليل ، كما هو ظاهر بعض الأخبار ، و منها الخبر السابق المروي عن الاحتجاج .
و السير إلى ما فوق السماوات السبع في مثل الليلة أو ثلثها مع كون ثخن كل سماء مسيرة خمسمئة عام ، و الفصل بين كل سماء مع الآخر كذلك على [ ما في ] بعض الأخبار ۲۱ ، أو المجموع مقدار خمسين ألف سنة كما مر في بعض الأخبار ۲۲ ، و هو المطابق لكون المسافة بين الشمس و الأرض اثنين و سبعين مليونا من الفرسخ ، على ما ذكرناه سابقا نقلاً عن بعض علماء الاُروپ ؛ لأن مسيرة يوم ثمانية فراسخ غالبا ، و خارج تقسيم العدد على الثمانية تسعة ملايين يوما ، و خارج تقسيم ذلك على ثلاثمئة و ستين : خمسة و عشرون ألفا من الأعوام ، و الشمس في الوسط كشمسة القلادة ، فيكون ضِعْف العدد خمسين ألفا كما أخبر به المعصوم سلام اللّه عليه ، و كفى به فخرا لهم ؛ حيث أخبروا بما فهمه حذّاق علماء العصر بأربعة عشر قرنا قبل ذلك ... إلى غير ذلك مما بيّنه أهل بيت العصمة و لم يفهم أكثره علماء العصر إلا قليلاً بعد مداقة عميقة .
وكيف كان ، فهذا الاستبعاد من حيث وقوع سير مسافة خمسين ألف عام في الليلة أو ثلثها للجسد العنصري يمكن اندفاعه بملاحظة نظائره ، فكما أن صعود البدن العنصري ـ على رغم الخصم ـ إلى هذه المسافة مستبعد ـ بل أحالوه على معتقدهم ـ فكذا هبوط الجسم اللطيف إلى الأرض في هذه المدة ؛ كجبرئيل و الروح و سائر الملائكة في أقل من تلك المدة ، و إن شئت فلاحظ حركة فلك الأفلاك أو العرش بلسان الشرع ؛ فإنّ مسيره صلى الله عليه و آله في معراجه محدود به ، حتى أن شبهة مسألة الخرق و الالتيام مندفعة بهذا المطلب ؛ إذ بطلانه على تقدير التسليم منحصر في الفلك المحدِّد للجهات ، و هو الفلك الأطلس أو فلك الأفلاك ، و هو على معتقَد القدماء متحرك كل يوم حركة تامة ، أي تمام الدورة .
و قد ثبت في الهندسة أن نسبة القطر إلى المحيط كنسبة الواحد إلى ثلاثة و سُبع ، و على هذا فنسبة نصف القطر ـ و هو مسافة مسيره من الأرض إلى فلك الأفلاك ـ إلى نصف المحيط ، أعني مسير جزء من المنطقة في ليلة واحدة ، معتدلة أيضا كنسبة الواحد إلى ثلاثة و سُبع ؛ ضرورة عدم تفاوت النسبة إذا قسّم طرفا النسبة على عدد واحد . مثلاً إذا كان نسبة الأربعة إلى الاثني عشر بالثلث ، فكذلك النسبة محفوظة لو قسم الطرفان على اثنين ، أي نصف كل منهما ، أي نسبة الاثنين إلى الستة ، كما هو قضية التناسب الهندسي ؛ لتجدنَّ مدة السير أقل من ثلث الليل على ما في بعض الروايات .
وإن شئت فلاحظ الإبصار ـ على القول بخروج الخط الشعاعي من البصر ـ حتى تنطبق قاعدة المخروط على المبصَر و رأسه في البصر ، فإذا أبصرت زحل أو المريخ مثلاً كيف يخرج الخط و يتصل في هذه المسافة البعيدة إلى المبصَر . و قد عرفت ما يؤيد ذلك في وصول الشعاع و سيره في كل ثانية قبل ذلك .
و إن شئت فلاحظ الحركة البرقية الإلكتريكية كيف يخابر من بلدة الرضائية ( اُرومية ) مَن بطهران بالخطوط البرقية ، فينقل الصوت في مسافة مئة فرسخ بل أزيد في أقل من ثانية .
و لعل تسخير البراق لمعراجه صلى الله عليه و آله إنما هو لسرعة سيره ، أخذا من البريق و اللمعان كما في سير الأشعة ، أو من البرق كما في الخطوط البرقية .
فقد يتحصل من جميع ما ذكرنا إمكان المسألة عقلاً و إن كانت مستحيلة عادة . و لا بأس به ؛ لأنه موضوع الإعجاز و خارق العادة ، و كفى في الوقوع الأخبار الكثيرة المعتبرة الواردة
في المقام ، فما في الدعاء الذي نشرحه ـ على ما أشرنا إليه من نسخة المجلسي من التعبير بالروح مع قطع النظر عن سابقه كما أشرنا ؛ ضرورة عدم الحاجة إلى البراق في المعراج الروحاني ـ يمكن أن يكون النظر فيه إلى إثبات أقل المراتب بطريق القدر المتيقن ، كما أن الاقتصار على بيان المسير بين المسجد الحرام و المسجد الأقصى في الآية الشريفة من هذا القبيل ؛ فإنّ إثبات الشيء لا ينفي ما عداه .
أ لا ترى أن الاُصوليين لم يعبؤوا بمفهوم اللقب في محل ، و إلا لكان قولنا « محمد رسول اللّه » كفرا ؛ لاستلزامه أن عيسى ليس برسول اللّه . [ لا ] سيما أن هذا الدعاء المسمى بـ « دعاء الندبة » في مقام الاستغاثة و الالتجاء في زمان الضيق و الشدة و غلبة الخوف من الأعداء و لزوم مراعاة التقية ، فالمستحسَن التكلم على حسب المشتهر بينهم ، كما عن عائشة اُمّ المؤمنين أن معراجه روحاني ما فقد جسمه صلى الله عليه و آله في تلك الليلة ۲۳ .
و لكن على النسخة الاُخرى المروية في مزار محمد بن المشهدي المعبَّر عنه في لسان المجلسي قدس سره بـ « المزار الكبير » ، و في المزار القديم المنسوب إلى القطب الراوندي ، و كذا في بعض نسخ مصباح الزائر لابن طاووس ـ عليه الرحمة ـ هكذا : « و عرجت به إلى سماواتك » ـ كذا قال الفاضل المعاصر القمي ـ دامت تأييداته ـ في كتابه السابق ۲۴ .
هذا كله مضافا إلى إمكان إرادة الجسم من الروح بنحو من التأويل ؛ إما للطافته حتى أنه لم يكن له ظلٌّ ـ على ما هو من خصائص بدنه ـ فاستعير له الروح ، أو لكونه بمنزلة روح عالم الإمكان ، كما أن الإمام قلب العالم ، إلى غير ذلك من التأويلات و إن كان بعضها باردا قد ألجأ إليه ضيق الخناق ؛ فرارا من مخالفة ما أطبقت عليه الإمامية ، بل ادعى في هدية الزائرين أنّ كون المعراج جسمانيا من ضروريات الدين .
و فيما ذكرناه كفاية لمن تدبر « أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَ هُوَ شَهِيدٌ »۲۵ ، «وَ مَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ»۲۶ .
و لنرجع إلى بيان باقي الفقرات :
قوله في الدعاء : « وقلت إنما يريد اللّه ليذهب عنكم الرجس » الخ .
أقول : و إن كان القرب يقتضي عطف هذه الجملة على « بوّأته » ، و لكنه لا يصح ؛ لأن المعطوف عليه في مكة كما يشعر به ما بعده : « وجعلت له و لهم . . » و آية التطهير نزلت في المدينة ؛ لاتفاق المفسرين على أنها نزلت في محمد و علي و فاطمة و الحسن و الحسين سلام اللّه عليهم ، حتى أن أمير المؤمنين عليه السلام قد احتج بها في موارد عديدة في ملأ من المهاجرين و الأنصار ، فلم ينكر عليه أحد منهم :
منها : ما في الإكمال ۲۷ : أن أمير المؤمنين عليه السلام قال في المسجد في خلافة عثمان في ملأ جمع من المهاجرين و الأنصار : أيُّها الناس ، أ تعلمون أن اللّه عز و جل أنزل في كتابه :« إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا »۲۸، فجمعني و فاطمة و ابنيَّ حسنا و حسينا ، و ألقى علينا كساءً و قال : «اللهم إن هؤلاء أهل بيتي و لحمتي ، يؤلمني ما يؤلمهم ، يحرجني ما يحرجهم ، فأذهب عنهم الرجس و طهِّرهم تطهيرا» . فقالت اُمّ سلمة : و أنا يا رسول اللّه ؟ فقال صلى الله عليه و آله : أنت ـ أو إنّك ـ على خير ؛ إنما نزلت فيَّ و في أخي و في ابنتيَّ و في ابنيَ و في تسعة من ولد ابني الحسين خاصة ، ليس معنا أحد غيرنا . فقالوا كلهم : نشهد أنّ اُمّ سلمة حدثتنا بذلك ، فسألنا رسول اللّه فحدثنا كما حدثتنا اُمّ سلمة رضي اللّه عنها . انتهى .
و من الواضح أن تزويج اُمّ سلمة و تولد الحسنين كان بالمدينة بعد سنين عديدة من الهجرة ، فلا يناسب العطف بالواو على « بوّأته » الواقع في مكة بالواو الظاهرة في الجمعية .
فإن قلت : كيف تقول هذه الآية في حق هؤلاء ، مع أن صدر الآية في حق نساء النبي ، حيث قال : «يَـنِسَآءَ النَّبِىِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَآءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِى فِى قَلْبِهِ مَرَضٌ وَ قُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفًا»۲۹ الآية ؟
قلت : أما بالنسبة إلى المطلب الذي استشهدنا بالآية ، فلا فرق بين توجه الخطاب إلى أهل البيت أو إلى نساء النبي ؛ فإن المقصود كون تلك الآية كأصل سورة الأحزاب مدنيّة ،
و هو ثابت على التقديرين ؛ فإن نساء النبي على هيئة الجمعية إنما كانت بها ، و أما في مكة فزوجته صلى الله عليه و آله و سلم هي خديجة سلام اللّه عليها ، و بعد وفاتها لم يثبت بها إلا عدة شهور فاُمر بالهجرة .
ومع هذا فنقول : لا تلازم في الآيات القرآنية بين الصدر و الذيل ، فربما يقع فيها التفات ، و هو أيضا من فنون البلاغة ، فكما وقع الالتفات في آية يوسف : «أَعْرِضْ عَنْ هَـذَا وَ اسْتَغْفِرِى لِذَنـبِكِ»۳۰ مع وجود واو الرابطة بين الجملتين ، فأوّلها خطاب ليوسف ، ثم التفت إلى زليخا . و الأمر في المقام بالعكس ؛ فإنّ الأوّل التفات من المعصوم إلى غير المعصوم ، و فيما نحن فيه بالعكس .
و لا يخفى ما في هذا الالتفات من دقائق النكات بعنوان التعريض ، فكما أن إعطاء سورة البراءة للأوّل ليحملها إلى مكة ، ثم أخذها و إعطاؤها لأمير المؤمنين عليه السلام ، فيه من توهين الأوّل و تبجيل عليٍّ ما ليس فيما لو أعطى السورة عليّا عليه السلام من أوّل الأمر ، فكذلك الخطاب المتوجه أولاً إلى نساء النبي بالتخويف و الإنذار بقوله : «وَ قَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ وَ لاَ تَبَرَّجْنَ»۳۱ الآية ، ثم التوجه إلى جماعة اُخرى بوعد التطهير و العصمة تعريضا بأنّ الجماعة الاُولى ليست قابلة لهذه المراتب .
هذا كله مع أن لفظ « أهل البيت » كالنص فيما ذكرنا ؛ إذ ليس للنساء حق في البيت ليكون مصححا للنسبة . و دفنُ الرجلين في بيته ـ بزعم حق المرأتين ـ قد أجاب عنه الحسن بن فضال فيما حكم به أبو حنيفة ؛ على ما في الاحتجاج ۳۲ و غيره ۳۳ . و قد أشار إلى بعض الجواب ابن عباس في قبالها مخاطبا لها يوم ممانعة حمل جنازة الحسن المجتبى إلى روضة جده بأمر منها ، فقال :
تجَمَّلتِ تبَغَّلتِو إن عشتِ تفَيَّلتِ
لكِ التُّسعُ من الثُّمنِو بالكلِّ تمَلَّكتِ۳۴
يعني : ركبتِ يوما على جمل و حاربتِ وصيَّ رسول اللّه ، و ركبتِ هذا اليوم على بغل تمنعين ذريةَ صاحب البيت عن بيت جده ، فلو عشتِ و أدركتِ وقعةَ الطفِّ لعلك تركبين على الفيل إلى حرب الحسين عليه السلام ! و أيّ حق لك في البيت حتى منعتِ عن دخول الغير؟! فلو صحَّ إرثكِ عن التراب فجميع نساء النبي يقسمن ثُمن البيت إلى تسع سهام ، فلا يكون سهم كل واحدة ـ و هو تسع ثُمن البيت ـ إلا شبرا أو شبرين ، و لأي سبب تملكين مجموع البيت؟!
فقد تحقق أن أهل البيت لا يطلق على النساء إلا بنحو من التجوز و التأويل ، مع أن الخطاب لو كان باقيا على حاله لكان اللازم تأنيث الضمائر بصيغة جمع المؤنث ، فتغيير الاُسلوب إلى ضمير الجمع المذكر إشارة إلى تغيير العنوان .
فتبيَّن من جميع ذلك أن جملة « و قلت » عطف على أول المطلب : « إلى أن انتهيت بالأمر . . و قلت » .
قوله : « و قلت ما سألتكم من أجر فهو لكم » يعني إن أجر الرسالة الذي سأله النبي صلى الله عليه و آله بإذن ربه ـ و هو خالقه ـ هو المودة في القربى كما في العبارة السابقة ، أو الابتداء بهم إلى اللّه كما في العبارة الآتية ، حيث قال : «مَآ أَسْئلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَن شَآءَ أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً»۳۵ أي لا أسأل أجرا إلا اتخاذ من شاء منكم سبيلاً إلى ربه ، بأن يتخذوا الأئمة سبيلاً إلى اللّه .
فهذه الاُمور ـ أعني المودة أو الاهتداء و أمثالها ـ من المنافع الراجعة إلى المحب و المهتدي ، و هذا معنى «فَهُوَ لَكُمْ»۳۶ ؛ فإن محمدا و آل محمد ـ صلوات اللّه عليهم ـ لاستكمالهم من جميع الجهات ، لا نقص فيهم ليتكمَّل بحب أحد أو بتبعية آخر ، حتى أن المشهور بين العلماء عدم عود فائدة من الصلوات بالنسبة إليهم ، كما هو ظاهر بعض فقرات الزيارة الجامعة ، حيث قال : و جعل صلواتنا عليكم ، و ما خصنا به من زيارتكم زيادة لنا ، و كفارة لذنوبنا ، و طيبا لأنفسنا... الزيارة .
نعم ، يظهر من الشهيد الثاني و السيد الجزائري ـ قدهما سرهما ـ جواز رجوع الفائدة إليهم ؛ به سبب أن المادة قابلة و الفيض غير متناه . و عبارة الزيارة ليست آبية عن هذا المعنى
كما هو واضح ؛ فإن النظر فيها إلى الغرض الأصلي و الفائدة المنظورة ، فالغرض من الصلاة عليهم تكفير الذنوب [ عنّا ] ، و لا منافاة لتكمل مراتبهم مع تكفير ذنوب المصلين ؛ فإن إثبات الشيء لا ينفي ما عداه .
1.سورة مريم ، الآيتان ۵۶ و۵۷ .
2.الصافي ، ج ۳ ، ص ۲۸۵ .
3.الكافي ، ج ۳ ، ص ۲۵۷ ، ح ۲۶ .
4.سورة مريم ، الآية ۵۷ .
5.سورة النساء ، الآيتان ۱۵۷ و ۱۵۸ .
6.لم نعثر على هذا الخبر مع كل جهدنا.
7.سورة الإسراء ، الآية ۱ .
8.الكافي ، ج ۱ ، ص ۴۴۳ ، ح ۱۳ ؛ الصافي ، ۳ ، ص ۱۶۷ .
9.انظر أخبار المعراج في : علم اليقين ، ج ۱ ، ص ۴۸۹ ـ ۵۲۰ ؛ بحار الأنوار ، ج ۱۸ ، ص ۲۹۱ ـ ۴۱۰ .
10.فتح الباري ، ج ۷ ، ص ۱۷۰ ـ ۱۷۱ .
11.صحيح البخاري ، ج ۴ ، ص ۱۰۶ ـ ۱۰۷ ؛ بغية الباحث ، ص ۲۸ ؛ مسند أبي يعلى ، ج ۶ ، ص ۲۱۶ ـ ۲۱۹ ؛ جامع البيان ، ج ۱۵ ، ص ۱۰ ـ ۱۶ و . . . .
12.الاحتجاج ، ج ۱ ، ص ۳۲۷ ؛ بحار الأنوار ، ج ۳ ، ص ۳۲۰ ، ح ۱۶ .
13.سورة المعارج ، الآية ۴ .
14.زاد المعاد ، العلامة المجلسي (حجري) ، ص ۴۵۱.
15.سورة الزمر ، الآية ۴۲ .
16.سورة يس ، الآية ۷۸ .
17.سورة يس ، الآية ۷۹ .
18.لم يوجد بهذه العبارة في المصادر .
19.سورة النمل ، الآية ۴۰ .
20.سورة الإسراء ، الآية ۱ .
21.الأمالي للصدوق ، ص ۴۳۵ ، ح ۱۰ ؛ المجازات النبوية ، ص ۳۴۹ ؛ الاختصاص للمفيد ، ص ۳۶۴ ؛ بحار الأنوار ، ج ۱۱ ، ص ۲۷۷ و ... .
22.الكافي ، ج ۸ ، ص ۱۴۳ ، ح ۱۰۸ ؛ شرح اُصول الكافي للمازندراني ، ج ۱۲ ، ص ۱۴۱ الأمالي للطوسي ، ص ۱۱۱ ؛ بحار الأنوار ، ج ۷ ، ص ۱۲۳ و ... .
23.الدر المنثور للسيوطي ، ج ۴ ، ص ۱۵۷ ؛ جامع البيان ، ج ۱۵ ، ص ۲۲ ؛ تفسير ابن كثير ، ج ۳ ، ص ۲۶ ؛ البداية و النهاية ، ج ۳ ، ص ۱۴۱ ؛ السيرة النبوية لابن هشام ، ج ۲ ، ص ۲۷۰.
24.هدية الزائرين (حجري) ، ص ۵۰۷ ؛ المزار لابن المشهدي ، ص ۵۷۵ ؛ مصباح الزائر ، ص ۴۴۷ و فيه : و عرجت بروحه إلى سمائك.
25.سورة ق ، الآية ۳۷ .
26.سورة النور ، الآية ۴۰ .
27.إكمال الدين ، ص ۲۷۸ ؛ الغيبة للنعماني ، ص ۷۲ ؛ الاحتجاج ، ج ۱ ، ص ۲۱۵ ؛ بحار الأنوار ، ج ۳۱ ، ص ۴۱۳ .
28.سورة الأحزاب ، الآية ۳۳ .
29.سورة الأحزاب ، الآية ۳۲ .
30.سورة يوسف ، الآية ۲۹ .
31.سورة الأحزاب ، الآية ۳۳ .
32.الاحتجاج ، ج ۲ ، ص ۱۵۰ .
33.الفصول المختارة ، ص ۷۴ ؛ كنز الفوائد ، ص ۱۳۵ .
34.الإيضاح للفضل بن شاذان ، ص ۲۶۲ ؛ شرح الأخبار للقاضي نعمان ، ج ۳ ، ص ۱۲۵ ؛ الخرائج و الجرائح ، ج ۱ ، ص ۲۴۳ .
35.سورة الفرقان ، الآية ۵۷ .
36.سورة سبأ ، الآية ۴۷ .