19
شهر الله في الكتاب و السنّة

ممّا يشير إلى أن استضافة الجسم وتأمين المتطلّبات المادية ليس بالأمر المهمّ الذي يرتقي إلى مصاف القضايا المعنويّة ، خاصّةً وأن القرآن الكريم يسجّل صراحةً بأنّه لولا الخشية على الناس من جنوحهم إلى الكفر كافّة ، لحظي الكافر بأعلى الإمكانات المادية وأرفعها :
« وَ لَوْلاَ أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَ حِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَـنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِّن فِضَّةٍ وَ مَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَ لِبُيُوتِهِمْ أَبْوَ بًا وَ سُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِـونَ * وَ زُخْرُفًا وَ إِن كُلُّ ذَ لِكَ لَمَّا مَتَـعُ الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَ الْأَخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ » . ۱
وفي الحديث النَّبوي الشريف :
« لَو أنَّ الدُّنيا كانَت تَعدِلُ عِندَ اللّهِ عز و جل جَناحَ بَعُوضَةٍ ما سَقَى الكافِرَ وَالفاجِرَ مِنها شَربَةً مِن ماءٍ » .۲
لقد استضاف اللّه ـ جلّ جلاله ـ نفوس أحبّائه وأرواحهم في ضيافته الرمضانية ، وليس أبدانهم وقوامهم المادّي ، وهذه ضيافة لا يرقى إلى إدراك قيمتها أحد سواه ، ومن هنا قال اللّه ـ سبحانه وتعالى ـ : « الصَّومُ لي وَأنَا أجزي بِهِ » .۳
لابدَّ أن تأتي شروط هذه الضيافة وآدابها متوائمة مع ضيافة النفس ، ولابدَّ أن يكون الطعام والشراب فيها من سنخ ضيافة الروح ، وأن يكون الهدف المرجوّ منها هو إيجاد التحوّل الروحي وتجديد الحياة المعنوية للإنسان وتقوية

1.الزخرف : ۳۳ ـ ۳۵ .

2.الأمالي للطوسي : ۵۳۱ / ۱۱۶۲ ، مكارم الأخلاق : ۲ / ۳۶۸ / ۲۶۶۱ ، تنبيه الخواطر : ۲ / ۵۶ كلّها عن أبي ذرّ ، تحف العقول : ۴۰ وفيه : « ... ما اُعطي كافرا ولا منافقا منها شيئا» ، الأمالي للصدوق : ۳۰۵ / ۳۴۸ عن محمّد بن قيس ، التمحيص : ۴۹ / ۷۹ عن عبد اللّه بن أبي يعفور عن الإمام الصادق وكلاهما نحوه ؛ سنن الترمذي : ۴ / ۵۶۰ / ۲۳۲۰ ، المستدرك على الصحيحين : ۴ / ۳۴۲ / ۷۸۴۸ كلاهما عن سهل بن سعد وليس فيهما « والفاجر» ، كنز العمّال : ۳ / ۱۹۵ / ۶۱۳۲ .

3.انظر تخريجه في ص ۷۱ ، الهامش ۱ .


شهر الله في الكتاب و السنّة
18

بعبارة اُخرى ، يمكن القول إنَّ ضيافة اللّه في هذه المدّة الزمنية والأغذية المعنوية الخاصّة الّتي أعدّها سبحانه لضيوفه في هذه الضيافة ، هي منشأ التحوّلات المعنوية العميقة الّتي تطرأ على حياة الإنسان في هذا الشهر الفضيل ، وهي مائدة مفتوحة للجميع يصيب من ينهل منها بركات عظيمة تنأى على الحصر .

معنى ضيافة اللّه

في طليعة الأسئلة الّتي تحفّ بهذه الخصيصة البارزة ، ما يرتبط بمعنى ضيافة اللّه سبحانه لأحبّائه في شهر رمضان وما المقصود من ذلك ؟ أليس الناس جميعا وفي الأوقات كلّها هُم ضيوف اللّه ونازلين في رحابه ؟
فضلاً عن أنّ قوام الضيافة هي بالطعام والشراب الّذي يهيّئه صاحب الضيافة للضيف ، فما عساها أن تكون هذه الضيافة الّتي يأتي الامتناع عن تناول الطعام والشراب في أوّل شروطها ؟ !
يأتي الجواب على هذه الأسئلة من واقع تحليل حقيقة الإنسان ومعرفة مكوّناته ، فالإنسان في الرؤية الإسلامية مركّب يتألّف من جسم وروح ، فكما يحتاج الجسم إلى الأغذية المادية الّتي تمدّه بقوام ديمومته ، كذلك تحتاج هوية الإنسان وحقيقته الإنسانية إلى أغذية معنوية من سنخها .
على هذا الضوء يتبيّن أنَّ اللّه سبحانه لم يهيّئ الضيافة الرمضانية لاستضافة أجسام أحبّائه وما به قوام وجودهم المادي ، فأبدان هؤلاء ـ كما جميع الخلق ـ في ضيافة اللّه دائما وأبدا . وبتعبير شاعر شيراز :

فرش الأرض سفرةً للجميع وحباها بطيّبات الربيعفإذا بالخوان يطعمُ منه كلّ عاصٍ وكلّ عبدٍ مطيع۱
بل أنَّ أعداء اللّه غالبا ما يستفيدون من هذه المائدة الممتدّة أكثر من غيرهم ،

1.ما في المتن ترجمة نثرية للبيت الآتي من الشعر الفارسي من : بوستان سعدي : ص ۳ اديم زمين سفره عام اوستبر اين خوان يغما چه دشمن چه دوست

  • نام منبع :
    شهر الله في الكتاب و السنّة
    سایر پدیدآورندگان :
    الافقی، رسول
    تعداد جلد :
    1
    ناشر :
    دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1382
    نوبت چاپ :
    الاولی
تعداد بازدید : 136430
صفحه از 628
پرینت  ارسال به