تقمّصها ابن أبي قُحافة ۱ ، وإنّه لَيعلم أنّ محلّي منها محلّ القطب من الرحى ، ينحدر عنّي السيل ، ولا يرقى إليّ الطير ، فسدلت ۲ دونها ثوباً ، وطويت عنها كشحاً ۳ ، وطفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذّاء ، أو أصبر على طخية عمياء ۴ ، يشيب فيها الصغير ، ويهرم فيها الكبير ، ويكدح فيها مؤمن حتّى يلقى ربّه ، فرأيت أنّ الصبر على هاتا أحجى ۵ ، فصبرت وفي العين قذى ، وفي الحلق شجا ، أرى تراثي نهباً ، حتّى إذا مضى الأوّل لسبيله ، فأدلى بها إلى عمر من بعده ؛ فياعجبا ، بينا هو يستقيلها في حياته ، إذ عقدها لآخر بعد وفاته ! لشدّ ما تشطّرا ضرعيها ، ثمّ تمثّل بقول الأعشى ۶ :
شتّان ما يومي على كورها۷ويوم حيّان أخي جابر۸
فصيّرها في ناحية خشناء يجفو مسّها ، ويغلظ كلمها ۹ ، ويكثر العثار فيها ،
1.وهو أبوبكر بن أبي قحافة ، واسمه عبد اللّه ، وفي الجاهلية عتيق ، واسم أبيه عثمان ، والضمير في تقمّصها عائد إلى الخلافة ، وإنّما لم يذكرها للعلم بها ، وتقمّصها جعلها مشتملة عليه كالقميص كناية عن تلبسه بها .
2.سدلت : أي أرخيت ، كناية عن إعراضه عنها ، واحتجابه عن طلبها .
3.الكشح : مابين الخاصرة والجنب ، أنزل الخلافة منزلة المأكول الّذي منع نفسه عنه ، فلم يشتمل عليه كشحه .
4.طفقت : جعلت ، وأخذت ، وشرعت ، وأرتني : أفكر طلبا للرأي الصائب ، صال : حمل نفسه على الأمر بقوة ، الطخية : قطعة من الغيم .
أي : جعلت اُدبّر الفكر واُجيله في أمر الخلافة ، واُردده في طرفي نقيض ، إمّا أن أشهر السيف وأصول على الغاصبين للخلافة والمعتدين على حقّي ، أو أترك وأصبر ، وفي كلا الحالين خطر : فأمّا القيام والثورة فبيدٍ مقطوعة من غير ناصر ولا معين ، وأمّا الثاني فلما يؤول إليه الحال ؛ من اختلاط الاُمور ، وعدم انتظام الحياة ، والتمييز بين الحق والباطل ، فكما أنّ الظلمة والعمى لا يهتدى معهما للتمييز بين الأشياء ، فكذلك اضطراب الهيئة الاجتماعية وتشابك المشاكل وازدحامها لا يهتدى معه لوجه الحق .
5.أي أقرب للعقل .
6.هو أعشى قيس ، واسمه ميمون بن جندل من بني قيس . من قصيدة أولها : علقم ما أنت إلى عامر الناقص الأوتار والواتر .
7.الكور ـ بالضمّ ـ : الرحل أو هو مع أداته ، والضمير راجع إلى الناقة في الأبيات السابقة .
8.العقد الفريد ، ج۲ ، ص۲۸۶ ؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ، ج۱ ، ص۶۶ .
9.الكلم : الجرح .
