127
الدرّ المنظوم من كلام المعصوم

كتاب العقل والجهل

اعلم أنّ هنا فائدتين ينبغي التنبيه عليهما والتنبيه لهما قبل الشروع في المقصود ، وبالاُولى يسلم من الوقوع في ظلمات شبه نسبة الجور والجبر إلى اللّه تعالى .
الاُولى : أنّ غالب أحاديث هذا الباب المراد من العقل والجهل فيها ـ واللّه أعلم ـ عقلُ الأشياء وجهلها بمعنى العمل بما يقتضيه العقل ويدلّ صاحبه عليه وعدمه ، وكذلك الآيات في حديث هشام .
ومثل هذا شائع كثير ، فإنّ ذَمَّ من ليس لهُ عقل ـ بمعنى الغريزة التي قسّمها اللّه تعالى على عباده ـ قبيحٌ ، فيتعيّن أن يكون العقل والجهل في مثله بالمعنى المذكور ، وهو من يعمل بمقتضى عقله ومَن لا يعمل ، فيقال : فلان عاقلٌ وفلان ليس بعاقلٍ ، وفلانٌ يعقل وفلانٌ لا يعقل ، ولا يُراد أنّه مسلوبُ العقل وثابته .
وهو السرّ في التعبير في مثله غالباً بسلب العقل ونحوه ، لا بالمجنون ونحوه ، فإنّ قولك : فلانٌ لا عقل له ، يُشعر بأنّه عاقل لا يعمل بعقله ، ونحوه : فلانٌ عاقلٌ . والمقام ۱ أيضاً يدلّ على المراد منه .
وهذا في القرآن وكلام الفصحاء كثيرة ، ونحوه قولك : فلان يسمع ويبصر
ونحوهما ، وليس المراد منه أنّه ذو سمع وبصر ، وفلانٌ لا يسمع ولا يبصر ، ولا يراد منه نفي الحاسّتين عنه . ومنه قوله تعالى : « صُمُّم بُكْمٌ عُمْىٌ »۲ ، وقوله تعالى : « إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلاَ تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَآءَ »۳ ، وهو كثير .
وقد يراد بالعقل المخلوق الشريف ، وهو الذي خَلَقه اللّه عزّ وجلّ من نوره ، وهو أوّل خلق من الروحانيّين ، كما يأتي في حديث سماعة . ۴ وهو المراد من أوّل أحاديث هذا الباب ، ويقابل هذا العقل الجهل بالمعنى المذكور هناك .
وهذان لا يتعلّق بصاحبهما مدحٌ ولا ذمٌّ إلاّ من حيث المتابعة وعدمها .
وقد قسّم اللّه هذا العقل على عباده المكلّفين قسمةً متفاوتة بحسب ما اقتضته حكمته على قَدْر القوابل والاستعدادات التي خلقهم عليها ، وجعَل تكليف كلّ واحد على قَدْر ما أعطاه من العقل ، ولم يكلّفه فوق ذلك .
وذلك كقسمة الأرزاق والآجال ونحوهما ، وجعل الثواب والعقاب منوطين بما يعمله العبد من مقتضى العقل ودلالته ويتركه ، ولا ظلم في ذلك ولا جور ، بل هو على وجه المصلحة ، فقد يعمل صاحب الجزءين من العقل مثلاً بمقتضاهما ، وقد لا يعمل صاحب العشرة أجزاء بمقتضاها،فإعطاء الأكثر لايستلزم الجور في القِسمة، كما في قسمة الأرزاق والآجال ، فإنّ صاحب الرزق القليل قد يصرفه في طاعة اللّه دون الكثير ، وقد يكون صاحب العمر القصير كذلك . ومراتب ذلك كثيرة ، وكلّها منوطة بإعطاء قَدْرٍ من العقل والعمل بمقتضاه ، وإعطاء القدرة على العمل به وتركه .
وفي التفاوت في ذلك ونحوه من المصالح ما لا يعلم كنه حقيقته إلاّ اللّه سبحانه ، وقد يظهر للعقول بعضها ، وبعد ثبوت حكمته وفعله الأصلح بعباده لا يختلج في فكر عاقل نسبة شيء ممّا لا يليق إليه تعالى .
الثانية : مقابلة الجهل بالعقل وعدم مقابلته بالعلم ، لعلّ السرّ فيه ـ واللّه أعلم ـ مع ما تقدّم ، التنبيه على أنّ العلم لا يكون علماً يستحقّ أن يسمّى به إلاّ إذا كان صادراً عن العقل ، وما ليس كذلك فهو جهل ، بل هو أعظم أنواع الجهل ؛ لما يترتّب عليه ممّا لا يترتّب على غيره من المفاسد ، وقد احتجّ اللّه تعالى بالعقل على العباد ، والعقل يدلّهم على العلم الذي يجب أخذه عن أهله ؛ فكلّ من تبع عقله وعمل بما دلّه عليه كانَ عالماً ، وما ليس فليس . فلو قوبل العِلم بالجهل ، لأوهم دخول كلّ ما يسمّى علماً ولو ظاهراً .
ولم يقابل العقل بعدم العقل ؛ لأن لا يتوهّم دخول من ليس له عقل من المجانين ، فإنّ مثلهم لا دَخْل له بهذا المقام ؛ لعدم تعلّق شيء بهم من الأحكام والوعد والوعيد ، والمدح على المتابعة ، والذمّ على عدَمها .
وحاصل ما في هذا الباب بيان ماهيّة العقل والجهل ، وما يترتّب على إطاعتهما ومخالفتهما ؛ واللّه أعلم .

1.في «ج» : «و بالمقام» .

2.البقرة (۲) : ۱۸ .

3.النمل (۲۷) : ۸۰ .

4.الكافي ، ج ۱ ، ص ۲۱ ، كتاب العقل و الجهل ، ح ۱۴ .


الدرّ المنظوم من كلام المعصوم
126
  • نام منبع :
    الدرّ المنظوم من كلام المعصوم
    سایر پدیدآورندگان :
    الدرایتی، محمد حسین
    تعداد جلد :
    1
    ناشر :
    سازمان چاپ و نشر دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1388
    نوبت چاپ :
    اوّل
تعداد بازدید : 77829
صفحه از 715
پرینت  ارسال به