261
الدرّ المنظوم من كلام المعصوم

۵.عليّ بن محمّد ، عن سهل بن زياد ، عن عليّ بن أسباط ، عن عمّه يعقوبَ بن سالم ، عن داود بن فَرْقَدٍ ، قال :قال أبو عبداللّه عليه السلام : «إنّ أبي كان يقول : إنَّ اللّه ـ عزَّ وجلَّ ـ لا يَقْبِضُ العلمَ بعد ما يُهبِطُهُ ، ولكن يموتُ العالمُ فيَذْهَبُ بما يَعلَمُ ، فَتَلِيهِمُ الجُفاة ، فيَضِلّونَ ويُضِلّونَ ، ولا خيرَ في شيء ليس له أصل» .

قوله عليه السلام في حديث داود بن فرقد : (إنّ اللّه َ عزّ وجلّ لا يَقْبِضُ العلمَ بعد ما يُهْبِطُه ، ولكن يَموتُ العالمُ فيَذْهَبُ بما يَعلَمُ ، فتَلِيهِمُ الجُفاةُ ، فَيَضِلّونَ ويُضِلّونَ ، ولا خير في شيء ليس له أصلٌ) .

في هذ الحديث فوائد :

الأولى : أنّ اللّه سبحانه أهبط العلم على أهله وهم الأنبياء ، وقد وصل منهم ، إلى الأوصياء لأجل مصلحة عباده وانتظام تكليفهم المطلوب منهم ، ليتعلّموه منهم ويعلّموا به وينقادوا إليهم ، كما اُمروا . وذلك لطف منه سبحانه بهم ، ولا يليق بجنابه الكريم أن يقبض عنهم العلم ويمنعهم اللطف ، بل إن ضيّعوه كان ذلك من سوء صنيعهم واختيارهم ، ويقبح من آحاد أهل الكرم المجازي الرجوعُ فيما جادَ به ، فما ظنّك بالكريم الحقيقي المطلق الذي من جوده يجود الجواد ، ومن كرمه يتكرّم الكريم .
الثانية ـ وهي مترتّبة على الاُولى ـ أنّه إذا مات العالم ولم يأخذ الناس عنه العلم ، ذَهَبَ معه علمه ، وهو كناية عن عدم وجوده إذا لم يأخذوا عنه العلم ، فإذا أخذوا عنه وتعلّموه ، لم يذهب العلم الذي يحتاج إليه بذهابه ، بل ذهب وأبقى عندهم العلم المحتاج إليه ، وإذا ذهب العلم بذهابه ، تصدّى له من لا عِلْمَ له ، فضَلَّ عن سبيل الهدى ، وارتكب طريق الغواية والعمى ، ولَفَّقَ حشواً من رأيه يُجيب به مَن سَألَه لئلاّ ينسب إلى الجهل ؛ فضَلَّ في نفسه وأضَلَّ غيره ؛ فهذا هو الجافي القاطع لصلة الرحم الإسلاميّة ، وسمّى نفسه مجتهداً يرجع إليه ونحوه .
ولا تظنّنّ بعلماء أهل الحقّ شيئا من هذا ، فإنّهم لا يقولون بشيء إلاّ أن يكون أصله مأخوذاً من كلامه تعالى أو من قول معصوم ، واختلافهم لاختلاف ما وَصَلَ إليهم بحسب الظاهر وتفاوت أفهامهم .
ولا حرج في تسمية ما أدّى إليه سعيهم اجتهاداً ، بل الاجتهاد الذي لا أصل له إلاّ الرأي والقياس والاستحسان واتّباع الهوى ، هو الممنوع منه والمذموم في الأحاديث . وقد صرّح جمع من علمائنا ـ رضوان اللّه عليهم ـ بنحو هذا ، وسيأتي إن شاءاللّه طرفٌ منه ، ومع ذلك فقد يقع الخطأ ؛ لأنّهم غير معصومين .
وكثيراً مّا ينبّه على مثله جدّي المرحوم السعيد الشهيد الثاني ، وجدّي المحقّق الشيخ حسن ـ طاب ثراهما ـ وغيرهما ، ومثل هذا كان من المتقدّمين ، لكنّه قليل ، والخلاف واقع بينهم ، وبسبب كثرة الأحاديث لديهم وقرب عهدهم قَلَّتْ فروعهم وفروع كثيرة ترجع إلى قاعدة أو أصل معتمد أيّحرج فيه؟ وقد تقدّم نحو هذا ، وتكراره لتكرار التشنيع عليهم في مثل هذه المقامات من الجاهل بحالهم وحال علمهم ؛ واللّه تعالى أعلم .
الثالث : نبّه بقوله عليه السلام : «ولا خير في شيء ليس له أصل» على أنّ علم الجفاة الذين صاروا ولاةً لهم ـ أي للناس الذين يرجع إليهم ضمير «تليهم» المدلول عليهم بالمقام ،
كما في قوله تعالى : «حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ»۱ يرجعون إليهم من غير أن يكون عندهم أصل علم مأخوذ عن أهل العلم ـ لاخير فيه ، فلا ينبغي متابعتهم فيه ، بل كلّه شرّ .
فإن قلت : ما وجه التعبير بقوله عليه السلام : «ولا خير في شيء ليس له أصل» وظاهر المقام التعبير بأنّه شرٌّ ونحوه ، خصوصا ما في هذا المقام من ولاية الجفاة وضلالهم وإضلالهم ، فإنّه محض الشرّ؟
قلت : يمكن الجواب عنه من وجوه :
الأوّل : أنّه لمّا كان من يليهم من الجفاة في قالب العلماء ـ الذين يأتون بصورة ما يتوهّمه الجاهل علماء ـ يتوهّم كونهم علماء ؛ وذلك مظنّة توهّم الخير فيهم من الجهّال ، فنفى عليه السلام هذا الخير المتوهّم منبّهاً على أنّه ليس من الخير في شيء ، نظير ماورد في الحديث : «لاخير بخير بعده النار» ۲ .
الثاني : أنّه عليه السلام نفى الخير عن كلّ ما ليس له أصل ، ونفيه يوافق كلّ ما ليس له أصل ، بخلاف إثبات الشرّ ، فإنّه لا يُناسب إرادة العموم ؛ فتدبّر .
الثالث : أنّ ما لاخير فيه فهو شرّ أو في حكمه ، فإنّ كون الإنسان ـ مثلاً ـ مسلوب الخير بالكلّيّة يكون شرّاً أو بمنزلته ؛ فتأمّل .
الرابع : أنّه قد يستعمل مثله ويراد منه نفي الشيء مع إثبات ضدّه أو نقيضه ، بل قد يكون المقصود بالذات إثبات الضدّ أو النقيض ، كما يقال : فلانٌ ليس عنده من العدل شيء ، ويراد أنّه مع ذلك ظالم ، أو يراد به أنّه ظالم فقط في جميع أحواله . ونحوه ما يأتي في حديث لقمان من قوله : «وإذا رأيت قوماً لا يذكرون اللّه ...» ۳ .
والعالم الذي يموت فيذهب معه العلم ، الظاهر أنّ المراد به غير المعصوم ، والمعنى حينئذٍ ظاهر .
ويحتمل أن يكون المراد به المعصوم ، أو ما يشمل غيره ، والمعنى في غيره أيضاً ظاهر . وأمّا المعصوم وذهابه بما يعلم فباعتبار أنّ الإمام الذي بعده قد لا يمكن الوصول إليه ، ولا أخذ العلم عنه ؛ لخوفٍ وتقيّةٍ ونحو ذلك ، فإذا ذهب الإمام الذي كان يمكن أخذ العلم عنه ولم يؤخذ ، ذَهَبَ بعلمه حيث لم يأخذوه عنه ، فيبقى بين أيديهم ينتفعون به فيمتنعون عن متابعة الجفاة والانقياد إليهم .
وهذا لا يخلوا من بُعدٍ .
وفي قوله عليه السلام : «فيذهب بما يعلم» تأييد في الجملة لكون ذهب به قد يقتضي ذهابه معه ، والظاهر أن يقال : إنّها تستعمل في المعنيين ، فيقال في مثل قوله تعالى : «ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ»۴ : إنّه بمعنى أذهبه ، وفي مثل ماهنا : إنّه بمعنى ذهب معه ، والقاعدة ما يقتضيه المقام ، وقد تقدّم نحوه ؛ واللّه أعلم .

1.ص (۳۸) : ۳۴ .

2.الكافي ، ج ۸ ، ص ۲۴ ، ح ۴ ، ضمن خطبة الوسيلة ؛ الفقيه ، ج ۴ ، ص ۳۹۲ ، ضمن ح ۵۸۳۴ ؛ و ص ۴۰۶ ، ضمن ح ۵۸۸۰ ؛ الأمالي ، للصدوق ، ۳۲۰ ، المجلس ۵۲ ، ضمن ح ۸ ؛ التوحيد ، ص ۷۲ ، باب التوحيد و نفي التشبيه ، ح ۲۷ ؛ نهج البلاغة ، ص ۵۴۴ ، الحكمة ۳۸۷ .

3.الكافي ، ج ۱ ، ص ۳۹ ، باب مجالسة العلماء ، ح ۱ .

4.البقرة (۲) : ۱۷ .


الدرّ المنظوم من كلام المعصوم
260

۰.أبي أيّوب الخزّاز ، عن سليمانَ بن خالد ، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال :«ما مِن أحدٍ يموتُ من المؤمنينَ أحَبَّ إلى إبليسَ من موت فقيه» .

۲.عليّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن بعض أصحابه ، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال :«إذا ماتَ المؤمنُ الفقيهُ ثُلِمَ في الإسلام ثُلمةٌ لا يَسُدُّها شيءٌ» .

۳.محمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد ، عن ابن محبوب ، عن عليّ بن أبي حمزةَ ، قال :سمعت أبا الحسن موسى بن جعفر عليه السلام يقول : «إذا ماتَ المؤمنُ بَكَتْ عليه الملائكةُ وبقاعُ الأرض التي كانَ يَعبد اللّه َ عليها ، وأبوابُ السماء التي كانَ يُصعَدُ فيها بأعماله ، وثُلِمَ في الإسلام ثُلمَةٌ لا يَسدُّها شيء ؛ لأنَّ المؤمنين الفقهاءَ حصونُ الإسلام كحِصْن سُورِ المدينة لها» .

۴.وعنه ، عن أحمدَ ، عن ابن محبوب ، عن أبي أيّوب الخزّاز ، عن سليمان بن خالد ، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال :«ما من أحدٍ يَموتُ من المؤمنين أحَبَّ إلى إبليسَ من مَوْت فقيه» .

إبليسَ من مَوْتِ فَقيهٍ) .
لأنّ الفقيه حقّ الفقيه كلّ ما يفعله ناقض لغرض إبليس لعنه اللّه ، ومن أطاعه فليس بفقيه . وإذا مات الفقيه فإن كان واحداً اشتدّت شوكته ، وإن تعدّد سُرَّ بنقص عدوّه ورجاء قوّة التسلّط على مَن يريد ؛ وذلك بخلاف غير الفقيه ، فإنّه يحزن لموته من حيث إنّه مسلّط عليه ومن جملة جنوده الذين سخّرهم للانقياد إليه ، أو هو طامع في تسخيرهم .
قوله عليه السلام في حديث ابن أبي عمير : (إذا ماتَ المؤمنُ الفقيهُ ثَلُمَ في الإسلام ثُلمَةٌ لا يَسُدُّها شَيْءٌ 1 ) .

يحتمل وجهين :

أحدهما : أنّه لا يسدّها شيء ولو كان عالماً آخر ؛ لما يأتي في الحديث الذي بعده من قوله عليه السلام : «لأنّ المؤمنين الفقهاءَ حصونُ الإسلام» فإنّه كلّما وجد عالم كان حصناً مستقلاًّ ، والثلمة التي حصلت بموت الفقيه تبقى على حالها . وحاصله : أنّ كلّ فقيه فهو بناء وقوّة للإسلام غير البناء الذي انثلم .
الثاني : أن يكون المراد أنّه لا يسدّها شيء غير الفقيه ؛ لأنّ تشييده للإسلام وتقويته لا يحصلان من غيره ، فإنّه الذي يتمّ به النظام الشرعي ؛ فبه يتمّ أمر العبادات والمعاملات وغيرهما وينتظم على الوجه المعتبر ، فالكلّ راجع إليه ، وهو الأساس .
وذكر المؤمن قبل الفقيه للاحتراز عمّن يسمّى فقيهاً من فقهاء الإسلام الظاهري ؛ واللّه أعلم .
والثُّلمة ـ بالضمّ ـ فرجة المكسور والمهدوم ، أو الخلل ؛ كما في القاموس والصحاح . ۲

1.في حاشية «د» : «في إرشاد المفيد : لا يسدّها إلاّ خَلَفٌ منه [ الإرشاد ، ج ۱ ، ص ۲۳۰ ] . (منه) .

2.القاموس المحيط ، ج ۴ ، ص ۸۵ ؛ الصحاح ، ج ۵ ، ص ۱۸۸۱ (ثلم) .

  • نام منبع :
    الدرّ المنظوم من كلام المعصوم
    سایر پدیدآورندگان :
    الدرایتی، محمد حسین
    تعداد جلد :
    1
    ناشر :
    سازمان چاپ و نشر دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1388
    نوبت چاپ :
    اوّل
تعداد بازدید : 77977
صفحه از 715
پرینت  ارسال به