۳.عدَّةٌ من أصحابنا ، عن أحمد بن محمّد البرقيّ ، عن شريف بن سابق ، عن الفضل بن أبي قُرَّة ، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال :«قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : قالت الحواريّونَ لعيسى : يا روحَ اللّه ، مَن نُجالِسُ؟ قال من تذكّرُكُم اللّه َ رؤيتُهُ ، ويَزيدُ في علمِكُم منطِقُهُ ، ويُرغِّبُكُمْ في الآخرة عملُه» .
قوله عليه السلام في حديث الفضل بن أبي قُرّة : (قالتِ الحواريّونَ لعيسى : يا روحَ اللّه ، مَن نُجالِسُ؟ قال : من تُذَكِّرُكُم۱اللّه َ رُؤيَتُه ، و يَزيدُ في علمكم مَنطِقُه ، ويُرَغِّبُكُم في الآخرةِ عمَلُه) .
الظاهر أنّ مراده عليه السلام مَن جَمَعَ الأوصاف الثلاثة ، فإنّ من جمَعها لا يحصل فيه التباسٌ ؛ لأنّ من يذكّر اللّه رؤيته قد يكون بصورة من هو كذلك في نفس الأمر ، إذا لم يكن عالماً ولا عاملاً ، وكذا إذا اُضيف إليه مع ذلك العلم دون العمل ، أو انفرد بالعلم دون العمل .
وتقديم التذكير لأنّه أوّل المراتب ، وترتّب الباقي ظاهر .
ويحتمل الاكتفاء بكلّ واحد إذا علم حال مَن يرى ، ومن يزيد في العلم منطقه كذلك إذا قام بشروط العلم ، ومن يرغّب في الآخرة عمله كذلك إذا كان عنده من العلم ما يصحّ به العمل .
فالأوّل: من كان عليه أثر الخوف والعبادة ، وهو ممّن ورد في شأنهم : «ذُبُل الشفاه من الظماء ، خُمُص البطون من الطوى ، عمش العيون من البكاء» ۲ . وما في خطبة أميرالمؤمنين عليه السلام لهمام من قوله : «قد بَراهم الخوف بَرْيَ القِداحُ ، ينظر إليهم الناظر فيحسبهم مرضى وما بالقوم من مرض ، ويقول : قد خولطوا ولقد خَالَطَهم أمر عظيم» . ۳
وفي هذه الخطبة ما يقصم الظهور .
وبالجملة ، فعلاماتهم في الآثار كثيرة ، وبالمخالطة وحسن النقد وترك اتّباع الهوى يتميّز المحقّ من المبطل ، وصاحب الخلق من المتخلّق ، والطبع من المتطبّع ، وإلاّ فهذا وما بعده ممّا تنصب ۴ بتكلّفه الحبائل التي توقع الجاهل كثيراً فيها خصوصاً الأخير ، ولكون الخطاب للحواريين يكون خطاباً لمن يعرف الموصوف حقّ المعرفة وجريانه في غيرهم لمن يكون أهلاً لذلك ، فإنّ مَن تابع متصنّعا ورآه بصورة من يذكّر ۵ اللّه رؤيته ، فتذكيره له ليس تذكيراً حقيقياً ؛
لاستناده إمّا إلى جهل أو تعصّب ومتابعة هوى ونحوه .
وقد يقال : إنّ من كان في هذه المرتبة ، كان من رآه تذكّره رؤيته اللّه سبحانه أن تذكر . ويقرب من هذا القبيل ماورد من قوله صلى الله عليه و آله : «النظر إلى عليّ عبادة» ۶ بمعنى أنّ من رآه كان ثوابه ثواب من فعل نوعاً من العبادة .
وقال ابن الأثير بعد ما نقل الحديث «النظر إلى وجه عليّ عبادة» :
قيل : إنّ معناه أنّ عليّاً كان إذا بَرَزَ ، قال الناس : لا إله إلاّ اللّه ، ما أشرف هذا الفتى ، لا إله إلاّ اللّه ، ما أعلم هذا الفتى ، لا إله إلاّ اللّه ، ما أكرم هذا الفتى ، أي ما أتقى ، لا إله إلاّ اللّه ، ما أشجع هذا الفتى ، فكانت رؤيَتُه عليه السلام تَحْمِلُهم على كلمة التوحيد ؛ انتهى ۷ .
وهو خلاف الظاهر ، ولا يبعد أن يكون المقصود بالذات من عيسى عليه السلام نفسه ، وكذلك أبو عبداللّه عليه السلام ومَن في مرتبتهما من أهل العصمة ، فإنّهم الجامعون لهذه الأوصاف ، ومن يحذو حذوهم داخلٌ بالتبعيّة . والتعبير بمثله لإرادة العموم وكونه أحسن من أن يقال : جالسوا مثلي وأكثرَ فائدة ؛ واللّه أعلم .
والثاني : من كان عالماً عاملاً ، لكنّه لا يصل في العمل إلى مرتبة الثالث .
والثالث : الذي علمه أكثر من الثاني . ومن جمع منها وصفين أو الجميع ، فهو نور على نور .
ويمكن الفرق بين الأوّل والثالث بعدم ظهور عمل الأوّل جميعه ، بل أثره ، كما يدلّ عليه كلام أميرالمؤمنين عليه السلام ، والثالث من يُظهر عملَه لا لرياء ونحوه ، بل إمّا ليُتّبع في ذلك أو لغرض آخر صحيحٍ . ودخول مجهول الحال لايليق ، فإنّ من يذكّر ۸ اللّه حقَّ ذكره رؤيتُه لا يكون ۹ إلاّ بعد الاطّلاع على حقيقة أمره،والعالم إذا لم يكن عاملاً، لا يؤخذ عنه العلم ؛ لأنّه غير مأمون ، وقد نهي عن الأخذ عن مثله ، وكذا المرائي .
نعم يمكن أن يقال : إنّه مع التفحّص وعدم ظهور خلاف الواقع ـ إن لم يعتبر أمر الباطن ـ ربما يكون من يذكّر اللّه برؤيته مثاباً ، وإثم تصنّعه عليه ، وكذا العامل المرائي .
وما تقدّم من قوله عليه السلام : «فانظروا علمكم هذا عمّن تأخذونه ، فإنّ في كلّ خلف منّا عدولاً» الحديث ، يقتضي أنّ العلم لا يؤخذ إلاّ من العدل ؛ واللّه تعالى أعلم .
1.في «ألف ، ج » : «يذكّركم» .
2.الكافي ، ج ۲ ، ص ۲۳۳ ، باب المؤمن وعلاماته وصفاته ، ح ۱۰ ؛ الإرشاد ، للمفيد ، ج ۱ ، ص ۲۳۸ ، فصل : ومن كلامه في صفة شيعته المخلصين ؛ الأمالي ، للسيّد المرتضى ، ج ۱ ، ص ۱۳ ؛ الأمالي ، للطوسي ، ص ۲۱۶ ، المجلس ۸ ، ح ۲۷ ؛ وص ۵۷۶ ، المجلس ۲۳ ، ح ۳ ؛ نهج البلاغة ، ص ۱۷۷ ، ضمن الخطبة ۱۲۱ ؛ إرشاد القلوب ، ص ۱۰۸ ، الباب ۲۹ في الرجاء للّه تعالى ؛ وص ۱۴۴ ، الباب ۴۶ من كلام أميرالمؤمنين والأئمّة عليهم السلام .
3.الأمالي ، للصدوق ، ص ۵۷۰ ، المجلس ۸۴ ، ح ۲ ؛ التمحيص ، ص ۷۰ ، باب في أخلاق المؤمنين و... ، ح ۱۷۰ ؛ صفات الشيعة ، ص ۱۸ ؛ روضة الواعظين ، ج ۲ ، ص ۴۳۸ ، مجلس في الزهد والتقوى ؛ نهج البلاغة ، ص ۳۰۳ ، الخطبة ۱۹۳ ؛ تحف العقول ، ص ۱۵۹ .
4.في «ج» : «ينصب» .
5.في «ألف ، ج » : «تذكّر» .
6.الأمالي ، للصدوق ، ص ۳۶۱ ، المجلس ۵۸ ، ح ۱ ؛ الأمالي ، للطوسي ، ص ۴۵۴ ، المجلس ۱۶ ، ح ۲۲ ؛ مأة منقبة ، لابن شاذان القمّي ، ص ۱۵۱ ، المنقبة الرابعة والثمانون ؛ العمدة ، لابن البطريق ، ص ۳۶۶ ـ ۳۶۸ ؛ بشارة المصطفى ، ص ۱۹۱ ؛ الصراط المستقيم ، ج ۱ ، ص ۱۵۳ ، الباب التاسع في شيء ممّا ورد في فضائله ... ؛ المناقب ، لابن شهر آشوب ، ج ۲ ، ص ۲۶۸ ؛ كشف الغمّة ، ج ۲ ، ص ۲۶۸ ؛ سعد السعود ، ص ۲۳ و۲۷۷ .
7.النهاية ، ج ۵ ، ص ۷۷ (نظر) .
8.في «ج» : «تذكّر» .
9.في «ج ، د» : «لا تكون» .