327
الدرّ المنظوم من كلام المعصوم

۲.عدَّة من أصحابنا ، عن أحمدَ بن محمّد ، عن نوح بن شُعيب النيسابوريّ ، عن عبيداللّه بن عبداللّه الدهقان ، عن دُرُستَ بن أبي منصور ، عن عروة بن أخي شعيب العَقَرقوفيّ، عن شعيب ، عن أبي بصير قال : سمعتُ أبا عبداللّه عليه السلام يقول :«كانَ أميرُالمؤمنين عليه السلام يقول : يا طالبَ العلم ، إنَّ العلمَ ذو فضائلَ كثيرة ؛ فرأسُه التواضعُ ، وعينُه البراءةُ من الحسد ، واُذنُه الفهمُ ، ولسانُه الصدقُ ، وحفظُه الفحْصُ ، وقلبُه حُسْنُ النيّة ، وعقلُه معرفةُ الأشياء والأُمور ، ويدُه الرحمةُ ، ورِجْلُه زيارةُ العلماء ، وهمّتُه السلامةُ ، وحكمتُه الورعُ ، ومستقرُّه النجاةُ ، وقائدُه العافيةُ ، ومركبُه الوفاءُ ، وسلاحُهُ لين الكلمة ، وسيفُه الرضا، وقوسُه المداراةُ، وجيشُه محاوَرَةُ العلماء، ومالُه الأدبُ، وذخيرتُه اجتنابُ الذنوب، وزادُه المعروفُ ، ومأواهُ الموادَعَةُ ، ودليلُه الهدى ، ورفيقُه محبّةُ الأخيار» .

قوله عليه السلام في حديث أبي بصير : (يا طالبَ العلمِ ، إنّ العلمَ ذو فضائلَ كثيرةٍ ؛ فرأسُه التواضعُ) الحديث .
قد تقدّم ما يفيده مثل هذا النداء من قوله عليه السلام : «يا طالب العلم» فليراجعه من أراده .
وفي تشبيهه عليه السلام العلم بصاحب هذه الأعضاء وما يتبعها تنبيهٌ على أنّ كمال العلم ـ الذي يحصل بحمله كمال العالم ـ إنّما يكون بوجودها ، ونقصه يكون بحسب ما نقص منها ، فالعالم غير المتواضع علمه كجسد لا رأس له ، فكما أنّ الجسد من غير رأس لا نفع له ، بل مآله إلى أن يصير جيفة أو هو كالجماد الملقى ، كذلك العالم المتكبّر أو غير المتواضع يكون كالجسد في عدم ما يترتّب له ومنه من المنافع ، ويعقّبه من المضارّ الاُخرويّة ، وقد يكون بعضها في الدنيا .
والعالم الحسود كالأعمى ، فكما أنّ الأعمى لا يستضيء بنور عينيه ۱ ، كذلك الحسود لا يستضيء بنور علمه ، بل هو أشدّ ظلمةً . ولمّا كان مشهوراً شائعاً تأثير عين الحسود في المحسود ناسَبَ ذكر العين له .
والمراد من الفهم ـ واللّه أعلم ـ في قوله عليه السلام : (واُذنُهُ الفهمُ) فهم الأشياء وتدبّرها ، فإنّ المقام مقام الحثّ والتعليم بأن لا يترك العالم هذه الخصال . وكون الإنسان لا فهم له ـ بمعنى أنّه لا يقدر على فهم ما يراد منه ـ يأباه المقام والعقل ، فإنّ مثله لا يكلّف مالا يطيق ، ولا يليق خطابه بهذا .
وجعل اُذنه الفهم باعتبار أنّ التفهّم يحصل من الإنصات والاستماع ، وهذا قرينة اُخرى على إرادة المعنى الأوّل .
وفي قوله عليه السلام : (ولسانُه الصدقُ) تنبيه على أنّ الكذب لا يكون لساناً يعبّر به في العلم ، وإنّما الكذب لسان ضدّ العلم ، فالعالم الكاذب لا ينبغي قبول كلامه ، فإنّه كالأخرس من حيث إنّه لا نطق له لظهوره للحسّ وشهرته ، وإلاّ فهو أشدّ نقصاً منه ،
بل قد لا يكون الأخرس أو عادم اللسان ناقصاً إلاّ من حيث الخلقة ، وهو أمر سهل عند عدم حصول لسان العلم بالكذب ؛ ونحوه غيره ممّا شبّه به .
ولمّا كان رسوخ الشيء وثباته في الحافظة يحصل بالتكرار والتفحّص ، كانَ الفحص مناسباً لجعله حفظاً للعلم ، ولكون العمدة العظمى في العلم الإخلاص وحسن النيّة ، وكان ذلك متعلّقاً بالقلب جَعَلَ قلب العلم حسن النيّة .
والمراد بالعقل في قوله عليه السلام : (وعقلُه معرفةُ الأشياءِ) إمّا العقل الغريزي لهذا العلم ـ ومناسبته للعقل الحقيقي للإنسان ظاهرةٌ ، فإنّ الأشياء تعرف بالعقل ، فناسب كون المعرفة عقلاً للعلم ـ أو العمل بمقتضى العقل على نحو ما تقدّم في الفهم ، فإنّ الكلام في هذا ونحوه مع من آتاه اللّه العقل ، لا مع من لا غريزة له يعقل بها ، فإذا عرف العالم الأشياء التي ينبغي معرفتها على وجهها ، كانَ عاقلاً بالمعنى المذكور ، فكان علمه ذا عقلٍ بهذا المعنى ؛ فتأمّل .
ومناسبة اليد بالرحمة من حيث ظهور أثرها بها أكثر من غيرها ، وللحثّ على بسط اليد بما تقتضيه الرحمة .
ومناسبة الِرجل لزيارة العلماء ظاهرة .
والظاهر أنّ المراد بالعلماء من جمعوا الأوصاف ليكمل العالم بزيارتهم ، فإنّ مقتضى هذا الحديث وغيره أنّ من اتّصف بغير ما ذكر هنا وغيره في غيره لا يستحقّ الوصف بكونه عالماً ، إلاّ أن يكون الزيارة لجهة اُخرى تقتضيها وليست ممّا نحن فيه .
والعموم في العلماء إضافي ، وله مراتب .
ولمّا كان علوّ الهمّة سبباً لسلامة الإنسان ممّن يخاف منه بالامتناع منه بما يمنعه وممّا يكسب نقصاً من خسّة وبخل ونحوهما من الخصال الذميمة ، فكذلك
العالم إذا سلم ممّا يشين دينه ومروّته ، كانت همّته السلامة من أذى يسوء ۲ في الآخرة وفي الدنيا إذا كان سوءها يؤول إلى الآخرة ؛ فالسالم من ذلك صاحب همّة .
ومن يتورّع عن محارم اللّه أو عمّا نهى اللّه عنه ، كانَ واضعاً للأشياء في مواضعها التي اُمر بوضعها فيها عاملاًبعلمه ، وهذا هو الحكيم .
ومن نجا من ورطات الذنوب فقد استقرّوا من التزلزل .
ومن عوفي من الذنوب كانت العافية قائدة به إلى الجنّة وكلّ مافيه حسن العاقبة .
ومن وفى بعهده كانَ وفاؤه كأنّه مركب يأمن به من هزال وضعف في مثل الدابّة ، وغرق وكسر في مثل السفينة ، فإنّ الآفات التي تحصل من خلف الوعد كالآفات المذكورة للمركب ونحوها .
وسلاح العلم ليس كالسلاح الذي يدفع به بالعنف والضرر كالسيف ونحوه ، بل هو سلاح سهل ۳ يليق بالعالم ، وهو لين الكلمة فيما ينبغي اللين فيه الموجب للانقياد وعدم النفرة ، وذلك يتفاوت بتفاوت المقامات والأزمان .
وكما يترتّب على استعمال السلاح من قتل وفتك لتسهيل ما يريده مستعمله ودفع الأذى عنه ونحوه ، فكذلك الكلام اللين يترتّب عليه قبول الكلام وتأثيره وعدم معاداة الناس ومقاومتهم ، بخلاف الكلام الخشن ، فإنّ جرح اللسان أعظم من جرح السنان ، وما يترتّب على الكلام الخشن والسلاح المتعارف من المفاسد لا يترتّب على الكلام اللين مع حصول النفع المقصود .
ومناسبة الرضا للسيف من حيث إنّ الرضا يؤثّر نحو ما يؤثّر السيف ، فكما أنّ السيف مشهور أمره من بين الأسلحة لقضاء الوطر ، فكذلك الرضا بقضاء اللّه تعالى
وعمّا ينبغي الرضا عنه وبه ، فإنّ صاحبه مطمئنّ القلب ساكن الجوارح ، كما أنّ المصاحب للسيف غير فزع ممّا يخاف منه لو لم يكن معه سيف .
ومناسبة القوس للمداراة من حيث إنّ الرامي يحتاج إلى تأمّل وتفحّص في تصحيح قوسه وسهمه وغرضه وهدفه ، ويحتال في أمر الرمي والإصابة ، فكذلك العالم إذا كان مدارياً للناس كلٍّ بحسب ما يقتضيه حاله ، كان مصيباً لغرضه ، رامياً عن قوس الإصابة ، سالماً من خطر سوء الرمي .
ومناسبة المحاورة بالجيش ظاهرة ، فكما أنّه بالجيش وتعبيته وترتيبه على الوجه المقرّر يحصل الظفر ونيل المراد ، فكذلك بمحاورة العلماء ومباحثتهم على وجه تحقيق الحقّ واستعمال الآداب المقرّرة وإخلاص النيّة يحصل الظفر بتحصيل الحقّ من العلم وثمرته ، فالمحاورة له على الوجه المذكور كالجيش المقاتل بحسن التعبية والقتال .
وكما أنّ اختلاف القلوب والآراء من الجيش وعدم الاتّفاق على قصد واحد فيه صلاحهم ، تكون عاقبته خذلانهم وهلاكهم ، فكذلك العالم المحاور لا لطلب الحقّ ، بل للمجادلة والمماراة وإظهار الغلبة والفضيلة ـ كما هو كثير شائع ـ يكون في ذلك هلاكه في الآخرة والعقبى كعاقبة الجيش المذكور .
وإذا تأدّب العالم بآداب العلماء التي ينبغي التأدّب بها ، كانَ غنيّاً ينفق من أدبه ما ينفقه ذو المال من ماله ، وغير المتأدّب فقير لا شيء عنده ينفق منه ، فإنّ ما عنده من العلم لو كان يذهب بغير الأدب ضياعاً . ومن المشهور شعراً ونثراً فقر المروّة والأدب ونحوهما .
وكون اجتناب الذنوب ـ وهو التقوى ـ ذخيرة يعدّها الإنسان ليوم فاقته أمرٌ ظاهرٌ ، فإنّ من حاز هذه الذخيرة ، كان غير محتاج عند احتياج الناس إلى ما يدفع عنهم ألم خوف المعاد ، كما أنّ صاحب الذخيره في الدنيا مطمئنّ القلب ممّا يدخل على غير المدّخر من خوف الجوع والاحتياج ونحوهما . وكما أنّ الزاد يتوصّل به المسافر إلى ما يريد في قطعه المسافة ، كذلك فعل الإحسان والمعروف للعالم ، فإنّه زاده في قطع مسافة مجاراة الناس وقطع مسافات الآخرة .
وكما أنّ صاحب المنزل الذي يأوي إليه ويستقرّ فيه مطمئنّ القلب ، غير محتاج إلى أن يأوي إلى منزل غيره ، فكذلك العالم الموادع للناس ـ أي المصالح لهم ـ مستقرّ القلب ، مطمئنّ الخاطر من خطر العداوة والقيل والقال ، والتفكّر في احتيال مقاومة العدوّ ودفع كيده بما يصير به مضطرب الجنان ، مشوّش الفكر كمن لا مأوى له .
ومن كان على هُدًى ، دلّه الهدى على الطريق المستقيم ، فسلم عن مشاقّ حزن الطريق ووَعْره ، التي يقاسيها السالك بغير دليل كالسالك في غيره .
(ورفيقهُ صُحبَةُ الأخيارِ) أو محبّتهم ؛ على النسختين ؛ لأنّ من أحبّ الأخيار أو صحبهم لا يستوحش ، كما لا يستوحش من صحب رفيقاً في سفره . وهذا مع من صحبه أو أحبّه رفقاء في سفر الآخرة ؛ رزقنا اللّه تعالى والمؤمنين هذه السعادة ، وخَتَمَ لنا ولهم بالحسنى وزيادة ، إنّه جواد كريم ؛ واللّه تعالى أعلم بمقاصد أوليائه عليهم الصلاة والسلام .

1.في «ج» : «عينه» .

2.في «ألف ، ب» : «يسوءه» .

3.في «د» : - «سهل» .


الدرّ المنظوم من كلام المعصوم
326

۱.عليّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن حفص بن البَختريّ ، رَفَعَه ، قال :كانَ أميرُ المؤمنين عليه السلام يقول : «رَوِّحوا أنفسَكم ببديع الحكمة ، فإنّها تَكِلُّ كما تَكلُّ الأبدانُ» .

باب النوادر

قوله عليه السلام في حديث حفص بن البختري : (رَوِّحُوا أنفسَكم ببديعِ الحِكْمَةِ ، فإنّها تَكِلُّ كما تَكِلُّ الأبدانُ) .
معناه ـ واللّه أعلم ـ أنّكم أريحوها ، من الروح بمعنى الراحة إذا حصل لها ملل من تحصيل العلم أو مطلق الطاعة بالأشياء البديعة من الحكمة لا من غيرها وهي التي تنتعش النفس وتستلذّ بها لتكون في راحة من التعب ، ويحصل لها بعد الراحة إقبال وتوجّه إلى تحصيل ما هي بصدد تحصيله .
والحكمة وإن كانت كلّها بديعة ، لكن قد يكون بعضها أبدع ، أو بديعاً من حيث اشتماله على نحو مواعظ وقصص تدخل في الحكمة ؛ أو لأنّ النفس قد تملّ من الكدّ في بعضها ، فالنظر إلى البديع غير ما ملّت منه النفس يزيل عنها ذلك ويريحها ، فيجده الإنسان بديعاً بالنسبة إلى ما كان فيه ، أو أنّه بديع باعتبار أنّ لكلّ جديد لذّة ، أو أنّ المراد بالبديع الجنس الشامل لأشياء متعدّدة ، فإنّ النفس تملّ ممّا هو كالشيء الواحد كما تملّ من الطعام الواحد ونحو ذلك .
و«بديع الحكمة» يجوز أن يكون من إضافة الصفة إلى الموصوف ، ولو اشترطت المطابقة ففعيل يستوي فيه المذكّر والمؤنّث ، وعلى عدم الاشتراط ـ وهو الظاهر ـ ظاهرٌ . ويجوز أن تكون الإضافة بيانيّة ، وأن تكون لاميّة ، وأن تكون بمعنى «من» ؛ واللّه أعلم .

تعداد بازدید : 95709
صفحه از 715
پرینت  ارسال به