۲.عدَّة من أصحابنا ، عن أحمدَ بن محمّد ، عن نوح بن شُعيب النيسابوريّ ، عن عبيداللّه بن عبداللّه الدهقان ، عن دُرُستَ بن أبي منصور ، عن عروة بن أخي شعيب العَقَرقوفيّ، عن شعيب ، عن أبي بصير قال : سمعتُ أبا عبداللّه عليه السلام يقول :«كانَ أميرُالمؤمنين عليه السلام يقول : يا طالبَ العلم ، إنَّ العلمَ ذو فضائلَ كثيرة ؛ فرأسُه التواضعُ ، وعينُه البراءةُ من الحسد ، واُذنُه الفهمُ ، ولسانُه الصدقُ ، وحفظُه الفحْصُ ، وقلبُه حُسْنُ النيّة ، وعقلُه معرفةُ الأشياء والأُمور ، ويدُه الرحمةُ ، ورِجْلُه زيارةُ العلماء ، وهمّتُه السلامةُ ، وحكمتُه الورعُ ، ومستقرُّه النجاةُ ، وقائدُه العافيةُ ، ومركبُه الوفاءُ ، وسلاحُهُ لين الكلمة ، وسيفُه الرضا، وقوسُه المداراةُ، وجيشُه محاوَرَةُ العلماء، ومالُه الأدبُ، وذخيرتُه اجتنابُ الذنوب، وزادُه المعروفُ ، ومأواهُ الموادَعَةُ ، ودليلُه الهدى ، ورفيقُه محبّةُ الأخيار» .
قوله عليه السلام في حديث أبي بصير : (يا طالبَ العلمِ ، إنّ العلمَ ذو فضائلَ كثيرةٍ ؛ فرأسُه التواضعُ) الحديث .
قد تقدّم ما يفيده مثل هذا النداء من قوله عليه السلام : «يا طالب العلم» فليراجعه من أراده .
وفي تشبيهه عليه السلام العلم بصاحب هذه الأعضاء وما يتبعها تنبيهٌ على أنّ كمال العلم ـ الذي يحصل بحمله كمال العالم ـ إنّما يكون بوجودها ، ونقصه يكون بحسب ما نقص منها ، فالعالم غير المتواضع علمه كجسد لا رأس له ، فكما أنّ الجسد من غير رأس لا نفع له ، بل مآله إلى أن يصير جيفة أو هو كالجماد الملقى ، كذلك العالم المتكبّر أو غير المتواضع يكون كالجسد في عدم ما يترتّب له ومنه من المنافع ، ويعقّبه من المضارّ الاُخرويّة ، وقد يكون بعضها في الدنيا .
والعالم الحسود كالأعمى ، فكما أنّ الأعمى لا يستضيء بنور عينيه ۱ ، كذلك الحسود لا يستضيء بنور علمه ، بل هو أشدّ ظلمةً . ولمّا كان مشهوراً شائعاً تأثير عين الحسود في المحسود ناسَبَ ذكر العين له .
والمراد من الفهم ـ واللّه أعلم ـ في قوله عليه السلام : (واُذنُهُ الفهمُ) فهم الأشياء وتدبّرها ، فإنّ المقام مقام الحثّ والتعليم بأن لا يترك العالم هذه الخصال . وكون الإنسان لا فهم له ـ بمعنى أنّه لا يقدر على فهم ما يراد منه ـ يأباه المقام والعقل ، فإنّ مثله لا يكلّف مالا يطيق ، ولا يليق خطابه بهذا .
وجعل اُذنه الفهم باعتبار أنّ التفهّم يحصل من الإنصات والاستماع ، وهذا قرينة اُخرى على إرادة المعنى الأوّل .
وفي قوله عليه السلام : (ولسانُه الصدقُ) تنبيه على أنّ الكذب لا يكون لساناً يعبّر به في العلم ، وإنّما الكذب لسان ضدّ العلم ، فالعالم الكاذب لا ينبغي قبول كلامه ، فإنّه كالأخرس من حيث إنّه لا نطق له لظهوره للحسّ وشهرته ، وإلاّ فهو أشدّ نقصاً منه ،
بل قد لا يكون الأخرس أو عادم اللسان ناقصاً إلاّ من حيث الخلقة ، وهو أمر سهل عند عدم حصول لسان العلم بالكذب ؛ ونحوه غيره ممّا شبّه به .
ولمّا كان رسوخ الشيء وثباته في الحافظة يحصل بالتكرار والتفحّص ، كانَ الفحص مناسباً لجعله حفظاً للعلم ، ولكون العمدة العظمى في العلم الإخلاص وحسن النيّة ، وكان ذلك متعلّقاً بالقلب جَعَلَ قلب العلم حسن النيّة .
والمراد بالعقل في قوله عليه السلام : (وعقلُه معرفةُ الأشياءِ) إمّا العقل الغريزي لهذا العلم ـ ومناسبته للعقل الحقيقي للإنسان ظاهرةٌ ، فإنّ الأشياء تعرف بالعقل ، فناسب كون المعرفة عقلاً للعلم ـ أو العمل بمقتضى العقل على نحو ما تقدّم في الفهم ، فإنّ الكلام في هذا ونحوه مع من آتاه اللّه العقل ، لا مع من لا غريزة له يعقل بها ، فإذا عرف العالم الأشياء التي ينبغي معرفتها على وجهها ، كانَ عاقلاً بالمعنى المذكور ، فكان علمه ذا عقلٍ بهذا المعنى ؛ فتأمّل .
ومناسبة اليد بالرحمة من حيث ظهور أثرها بها أكثر من غيرها ، وللحثّ على بسط اليد بما تقتضيه الرحمة .
ومناسبة الِرجل لزيارة العلماء ظاهرة .
والظاهر أنّ المراد بالعلماء من جمعوا الأوصاف ليكمل العالم بزيارتهم ، فإنّ مقتضى هذا الحديث وغيره أنّ من اتّصف بغير ما ذكر هنا وغيره في غيره لا يستحقّ الوصف بكونه عالماً ، إلاّ أن يكون الزيارة لجهة اُخرى تقتضيها وليست ممّا نحن فيه .
والعموم في العلماء إضافي ، وله مراتب .
ولمّا كان علوّ الهمّة سبباً لسلامة الإنسان ممّن يخاف منه بالامتناع منه بما يمنعه وممّا يكسب نقصاً من خسّة وبخل ونحوهما من الخصال الذميمة ، فكذلك
العالم إذا سلم ممّا يشين دينه ومروّته ، كانت همّته السلامة من أذى يسوء ۲ في الآخرة وفي الدنيا إذا كان سوءها يؤول إلى الآخرة ؛ فالسالم من ذلك صاحب همّة .
ومن يتورّع عن محارم اللّه أو عمّا نهى اللّه عنه ، كانَ واضعاً للأشياء في مواضعها التي اُمر بوضعها فيها عاملاًبعلمه ، وهذا هو الحكيم .
ومن نجا من ورطات الذنوب فقد استقرّوا من التزلزل .
ومن عوفي من الذنوب كانت العافية قائدة به إلى الجنّة وكلّ مافيه حسن العاقبة .
ومن وفى بعهده كانَ وفاؤه كأنّه مركب يأمن به من هزال وضعف في مثل الدابّة ، وغرق وكسر في مثل السفينة ، فإنّ الآفات التي تحصل من خلف الوعد كالآفات المذكورة للمركب ونحوها .
وسلاح العلم ليس كالسلاح الذي يدفع به بالعنف والضرر كالسيف ونحوه ، بل هو سلاح سهل ۳ يليق بالعالم ، وهو لين الكلمة فيما ينبغي اللين فيه الموجب للانقياد وعدم النفرة ، وذلك يتفاوت بتفاوت المقامات والأزمان .
وكما يترتّب على استعمال السلاح من قتل وفتك لتسهيل ما يريده مستعمله ودفع الأذى عنه ونحوه ، فكذلك الكلام اللين يترتّب عليه قبول الكلام وتأثيره وعدم معاداة الناس ومقاومتهم ، بخلاف الكلام الخشن ، فإنّ جرح اللسان أعظم من جرح السنان ، وما يترتّب على الكلام الخشن والسلاح المتعارف من المفاسد لا يترتّب على الكلام اللين مع حصول النفع المقصود .
ومناسبة الرضا للسيف من حيث إنّ الرضا يؤثّر نحو ما يؤثّر السيف ، فكما أنّ السيف مشهور أمره من بين الأسلحة لقضاء الوطر ، فكذلك الرضا بقضاء اللّه تعالى
وعمّا ينبغي الرضا عنه وبه ، فإنّ صاحبه مطمئنّ القلب ساكن الجوارح ، كما أنّ المصاحب للسيف غير فزع ممّا يخاف منه لو لم يكن معه سيف .
ومناسبة القوس للمداراة من حيث إنّ الرامي يحتاج إلى تأمّل وتفحّص في تصحيح قوسه وسهمه وغرضه وهدفه ، ويحتال في أمر الرمي والإصابة ، فكذلك العالم إذا كان مدارياً للناس كلٍّ بحسب ما يقتضيه حاله ، كان مصيباً لغرضه ، رامياً عن قوس الإصابة ، سالماً من خطر سوء الرمي .
ومناسبة المحاورة بالجيش ظاهرة ، فكما أنّه بالجيش وتعبيته وترتيبه على الوجه المقرّر يحصل الظفر ونيل المراد ، فكذلك بمحاورة العلماء ومباحثتهم على وجه تحقيق الحقّ واستعمال الآداب المقرّرة وإخلاص النيّة يحصل الظفر بتحصيل الحقّ من العلم وثمرته ، فالمحاورة له على الوجه المذكور كالجيش المقاتل بحسن التعبية والقتال .
وكما أنّ اختلاف القلوب والآراء من الجيش وعدم الاتّفاق على قصد واحد فيه صلاحهم ، تكون عاقبته خذلانهم وهلاكهم ، فكذلك العالم المحاور لا لطلب الحقّ ، بل للمجادلة والمماراة وإظهار الغلبة والفضيلة ـ كما هو كثير شائع ـ يكون في ذلك هلاكه في الآخرة والعقبى كعاقبة الجيش المذكور .
وإذا تأدّب العالم بآداب العلماء التي ينبغي التأدّب بها ، كانَ غنيّاً ينفق من أدبه ما ينفقه ذو المال من ماله ، وغير المتأدّب فقير لا شيء عنده ينفق منه ، فإنّ ما عنده من العلم لو كان يذهب بغير الأدب ضياعاً . ومن المشهور شعراً ونثراً فقر المروّة والأدب ونحوهما .
وكون اجتناب الذنوب ـ وهو التقوى ـ ذخيرة يعدّها الإنسان ليوم فاقته أمرٌ ظاهرٌ ، فإنّ من حاز هذه الذخيرة ، كان غير محتاج عند احتياج الناس إلى ما يدفع عنهم ألم خوف المعاد ، كما أنّ صاحب الذخيره في الدنيا مطمئنّ القلب ممّا يدخل على غير المدّخر من خوف الجوع والاحتياج ونحوهما . وكما أنّ الزاد يتوصّل به المسافر إلى ما يريد في قطعه المسافة ، كذلك فعل الإحسان والمعروف للعالم ، فإنّه زاده في قطع مسافة مجاراة الناس وقطع مسافات الآخرة .
وكما أنّ صاحب المنزل الذي يأوي إليه ويستقرّ فيه مطمئنّ القلب ، غير محتاج إلى أن يأوي إلى منزل غيره ، فكذلك العالم الموادع للناس ـ أي المصالح لهم ـ مستقرّ القلب ، مطمئنّ الخاطر من خطر العداوة والقيل والقال ، والتفكّر في احتيال مقاومة العدوّ ودفع كيده بما يصير به مضطرب الجنان ، مشوّش الفكر كمن لا مأوى له .
ومن كان على هُدًى ، دلّه الهدى على الطريق المستقيم ، فسلم عن مشاقّ حزن الطريق ووَعْره ، التي يقاسيها السالك بغير دليل كالسالك في غيره .
(ورفيقهُ صُحبَةُ الأخيارِ) أو محبّتهم ؛ على النسختين ؛ لأنّ من أحبّ الأخيار أو صحبهم لا يستوحش ، كما لا يستوحش من صحب رفيقاً في سفره . وهذا مع من صحبه أو أحبّه رفقاء في سفر الآخرة ؛ رزقنا اللّه تعالى والمؤمنين هذه السعادة ، وخَتَمَ لنا ولهم بالحسنى وزيادة ، إنّه جواد كريم ؛ واللّه تعالى أعلم بمقاصد أوليائه عليهم الصلاة والسلام .