۰.فأعمى اللّه ُ على هذا خَبَرَه ، وقَطَعَ من آثار العلماء أثرَه ، وصاحبُ الفقهِ والعقلِ ذوكَآبَةٍ وحَزَنٍ وسَهَرٍ ، قد تَحَنَّكَ في بُرْنُسِهِ ، وقام الليل في حِنْدِسِه ، يَعمَلُ ويَخْشى وَجِلاً داعِيا مُشفِقا ، مُقبِلاً على شأنه ، عارفا بأهل زمانه ، مُسْتَوْحِشا من أوثق إخوانه ، فشدَّ اللّه ُ من هذا أركانَه ، وأعطاه يومَ القيامة أمانَه» .
وحدَّثني به محمّدُ بن محمودٍ أبو عبداللّه القزوينيّ ، عن عدَّة من أصحابنا منهم جعفر بن محمّد الصيقل بقزوين ، عن أحمد بن عيسى العَلَوِيّ ، عن عَبّاد بن صُهَيب البصريّ ، عن أبي عبداللّه عليه السلام .
وقوله عليه السلام : (فأعْمَى اللّه ُ على هذا خَبَرَهُ) .
دعاء منه على هذا الصنف ، وهو من قبيل قوله تعالى : «فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَمنبَآءُ »۱
ضمن «اعمى» معنى أظلم ونحوه . والتعبير بأعمى لما فيه مع الظلمة من النقص الكامل الحاصل من العمى .
و«على» مثلها في قولك : ضاع على فلان سعيه وأتلف عليه ماله ، أي أعمى اللّه على هذا الطالب خبره ، وهو عبارة عن قطع خبره ، أي الخبر عنه بهلاكه ونحوه .
ويحتمل أن يكون المعنى : أعمى اللّه خبره لأجل هذا الفعل الذي يفعله .
ويمكن أن يكون «خُبْره» بضمّ المعجمة وسكون الموحّدة ، بمعنى علمه ومعرفته ، أي أظلم عليه ذلك بحيث لا يهتدي به كما يهتدي غيره بنور علمه .
والوجهان يأتيان هنا أيضاً في «على» .
ويحتمل بعيداً أن تكون الجملة خبريّة لادعائيّة ، والمعنى أنّه لسوء فعله أعمى اللّه خبره بحيث لم يكن في زمرة من يخبر عنهم بالخير والعمل بالعلم .
وهذا يأتي أيضاً في قوله عليه السلام : (وقَطَعَ مِن بينِ۲العلماءِ أثَرَهُ) وفيما قبله وبعده لتناسب الجميع ، وإن كان الدعاء في الجميع ظاهراً .
ومعنى قطع الأثر حينئذٍ أنّه لم يكتبه سبحانه في زمرة العلماء ولو بالأثر القليل .
و«الأثر» يجوز فيه فتح الهمزة والمثلّثة معاً ، وكسرها فسكونها ، والثاني أنسب بالثاني ، والأوّل بالأوّل .
وفي معالم جدّي طاب ثراه فيما رأيته : «لخلواتهم» بالمعجمة والمثناة من فوق «ولدينهم حاطم» ۳ . وكذا في كتاب الخصال في الأوّل أو فيهما ۴ . وكان الحديث منقولاً من غير هذا الكتاب أو أنّه في نسخته ۵ هكذا .
والمعنى حينئذٍ أنّه ينقصهم ويكسر من أقدارهم إذا خلا بذكرهم من غير حضورهم لما هو متعارف من عدم الرضى من الأغنياء وأهل الدنيا . يقال : هضمه :
إذا ظلمه وكسر عليه حقّه ؛ أو أنّه لترخيصه لهم في أمر الدين ۶ والعبادة وتسهيله عليهم ذلك ميلاً إلى ما يوافق طباعهم ويسهل عليهم بظلمهم ۷ ، ويكسر خلواتهم لما هو نافع لهم في العقبى .
(وهو لدينهم كاسر) بالمعنيين المذكورين .
وقد رأيت في كتاب البيان والتبيين للجاحظ في جملة حكاية أنّ أباك يأكل من حلوائهم فحطّ في أهوائهم ۸ .
و«الكآبة» : الغمّ وسوء الحال والانكسار من حزن ۹ . فذكر الحزن إمّا من عطف الخاصّ على العامّ ، أو السبب على المسبّب ، أو بإرادة ما سواه من الكآبة .
و«البرنس» قلنسوةٌ طويلةٌ كانَ النُّسّاك يلبسونها في صدر الإسلام ۱۰ .
و«الحِندس» ـ بالكسرـ : الليل المظلم ، والظلمة ۱۱ .
والمعنى : قام في الليل في وقت ظلمته ؛ ومن جمع هذه الصفات كان اُنسه باللّه وحده ، ومن أنس به استوحش من ۱۲ سواه ، ومن استوحش من أوثق إخوانه مع ما يقتضي عدم الوحشة فمن غيره أولى .
(وأعطاه يوم القيامة أمانَه) على الدعا الإعطاء في يوم القيامة ، وعلى الإخبار معناه : حصل الإعطاء للأمان الكائن في يوم القيامة .
والفرق بينهما كالفرق بين قولك : أعطيتك اليوم الأمان غداً ، وأعطيتك الأمان غداً ؛ واللّه أعلم .
1.القصص (۲۸): ۶۶.
2.في الكافي المطبوع وكثير من نسخه : «آثار» .
3.المعالم ، ص ۱۵ .
4.الخصال ، ص ۱۹۴ ، ح ۲۶۹ .
5.في «ب» : «نسخة» .
6.في «ألف ، ب» : «الدنيا» .
7.في «ج» : «لظلمهم» .
8.حكاه ابن منظور في لسان العرب ، ج ۱۴ ، ص ۱۹۳ عن ابن شبرمة حينما عاتبه ابنه على إتيان السلطان . وانظر : تاج العروس ، ج ۱۰ ، ص ۹۵ .
9.مجمع البحرين ، ج ۴ ، ص ۵ (كأب) .
10.الصحاح ، ج ۳ ، ص ۹۰۸ (برنس) .
11.القاموس المحيط ، ج ۲ ، ص ۲۰۹ (حندس) .
12.في «ج» : «ممّن» .