۰.رجلٌ فسَألَهُ عنها ، فأجابه بخلاف ما أجابَني ، ثمَّ جاء رجلٌ آخر ، فأجابه بخلاف ما أجابَني وأجابَ صاحبي ، فلمّا خَرَجَ الرجلان قلت : يا ابن رسول اللّه ، رجلان من أهل العراق من شيعتكم قَدِما يسألانِ ، فأجبتَ كلَّ واحدٍ منهما بغير ما أجَبْتَ به صاحِبَهُ؟ فقال : «يا زرارة ، إنّ هذا خيرٌ لنا ، وأبقى لنا ولكم ، ولو اجتَمَعتُم على أمرٍ واحدٍ لصَدَّقَكُم الناسُ علينا ، ولكان أقَلَّ لبقائنا وبقائكم» .
قال : ثمّ قلت لأبي عبداللّه عليه السلام : شيعتُكم لو حَمَلْتُموهم على الأسِنَّةِ أو على النارِ لَمَضَوْا ، وهم يَخرُجون من عندكم مُختلِفينَ ، قال : فأجابَني بمثل جواب أبيه .
العراقِ من شيعتِكم قَدِمَا يَسألانِ ، فأجَبْتَ كلَّ واحدٍ منهما بغير ما أجَبتَ به صاحبَه؟ فقالَ : «يازرارةُ ، إنّ هذا خيرٌ لنا وأبقى لنا ولكم ، ولو اجتَمَعْتُم على أمرٍ واحدٍ لصَدَّقَكم الناسُ علينا ، ولكانَ أقَلَّ لبَقائنا وبَقائكم) .
حاصل معنى الحديث يرجع إلى أنّهم عليهم السلام كانوا يخالفون فيما يجيبون به ، ليكون الواحد ينقل عنهم غير ما ينقله الآخر ، فيكون ذلك أبعدَ عن 1 التهمة باتّفاق الناس عليهم ونقلهم عنهم شيئا واحدا . وقد يكون كلّ واحد ممّن يسأل يوافق ما يجيبه به ما هو متعارف في قطره وناحيته من مذاهب العامّة ، فإذا أخبر كلّ واحد بما يوافق ما في جهته لم يحصل إنكار .
وهذا بخلاف ما إذا اتّفق الجميع على نقل واحد يخالف العامّة ، فيكون ذلك باعثاً على اشتهار ما خالفهم عنهم عليهم السلام ، فتتوجّه إليهم الناس بالأذى والضرر ، ويلحق ذلك شيعتهم ومحبّيهم ، فاختلاف الجواب منهم لهذا ونحوه ، وهو ظاهر ؛ واللّه تعالى أعلم .
[قوله :] في هذا الحديث : (ثمّ قلتُ لأبي عبداللّه عليه السلام : شيعتُكم لو حَمَلْتُموهم على الأسِنَّةِ أو على النارِ لَمَضَوْا ، وهم يَخرُجونَ من عندِكم مختلفين ، قال : فأجابَني بمثلِ جوابِ أبيه) .
محصّل كلام زرارة رضي اللّه عنه أنّه بعد ما سأل الباقر عليه السلام بما سأله ، سأل بعده الصادق عليه السلام بما معناه : أنّ شيعتكم في تمام الانقياد إليكم والطاعة لكم بحيث لو حملتموهم على التكليف بأشقّ ما يكون لما خالفوكم ، ومع هذا الانقياد كيف تكلّمونهم بما يقتضي اختلافهم فيما ينقلونه عنكم ، وكان هذا لعدم الاعتماد عليهم وأنّهم لا يطيعونكم ، وبمقتضى ما أجده من انقيادهم ومحبّتهم أنّكم تجيبونهم بما لا يقع فيه اختلاف ، فما وجه جوابهم بذلك .
وليس مراده بهذا التعرّضَ على الإمام عليه السلام ، بل استعلام وجه ذلك ، وكان زرارة لزيادة محبّته وربطه بهم عليهم السلام وعلمه بعدم مؤاخذته بما يقوله وعدم حملهم كلامه على ظاهره يتجرّأ عليهم بمثل هذا الكلام ، كما في حديث الوضوء وقوله : «ألا تخبرني من أين علمت وقلت إنّ المسح ببعض الرأس وبعض الرجلين» 2 ومراده إخباره بدليله من القرآن ليحتجّ به ، كما تقدّم في حديث أبي الجارود من قول الباقر عليه السلام : «إذا حدّثتكم بشيء فاسألوني من كتاب اللّه » وقول القائل له بعد نقله عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله : يابن رسول اللّه ، أين هذا من كتاب اللّه 3 .
ومثل هذا يقع كثيراً ممّن له تمام الإخلاص والمحبّة ، كما في حديث برخ الأسود ، وطلبه السقيا من اللّه عزّ وجلّ ، وخطابه بما هو مشهور 4 .
ونحوه ما في كلام سيّد العابدين عليه الصلاة والسلام من قوله : «لئن أدخلتني النار لاُخبرنّ أهل النار بحبّي لك» 5 ، وقوله ما معناه ـ ولا يحضرني ألفاظه ـ : «إذا أدخلت أهل الجنّة الجنّة بإحسانهم ، وأهل النار النار بإساءتهم ، فأين عتقاؤك من النار؟» 6 . ومثله في كلامه كثير .
وقولِ بعض الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لمّا تاب اللّه عليه وأوحى إليه بما معناه : «إن أذنبت بعد ذلك لم أقبل منك ، في جوابه للحقّ عزّ وجلّ : إن لم تعصمني لاُذنبنّ 7 » . وهذا معنى ما رأيته ولم يحضرني ألفاظه .
وما أحسن ما قاله بعض البلغاء في هذا المعنى : قد يخشن اللفظ وكلّه ودّ ، وقد يحسن وليس من رداءته بُدّ 8 .
هذه العرب تقول : لا أباً لك ، ولا يريدون الذمّ ، وويل اُمّه لأمر إذا دهم ، وشأن مثل ذلك أن ينظر إلى قائله ، فإن كان وليّاً فهو للولاء وإن خشن ، وإن كان عدوّاً فهو للبلاء وإن حسن .
ومع ذلك قد يكون قصد زرارة الاحتجاجَ على المخالف بحجّة يقطعه بها في حديث الوضوء ، فإنّه كان ذا مناظرة ومباحثة مع الناس .
وفي هذا الحديث أنّه عليه السلام ضحك ثمّ أجابه بما في الحديث ، وضحكه قرينة على ذلك ؛ واللّه أعلم .
1.في «ب» : «من» .
2.الكافي ، ج ۳ ، ص ۳۰ باب مسح الرأس والقدمين ، ح ۴ ؛ الفقيه ، ج ۱ ، ص ۱۰۳ ، ح ۲۱۲ ؛ علل الشرايع ، ج ۱ ، ص ۲۷۹ ، الباب ۱۹۰ ، ح ۱ ؛ تهذيب الأحكام ، ج ۱ ، ص ۶۱ ، ح ۱۶۸ ؛ الاستبصار ، ج ۱ ، ص ۶۲ ؛ ح ۱۸۶ ؛ وسائل الشيعة ، ج ۱ ، ص ۴۱۲ ، ح ۱۰۷۳ ؛ و ج ۳ ، ص ۳۶۴ ، ح ۳۸۷۸ .
3.الكافي ، ج ۱ ، ص ۶۰ ، باب الردّ إلى الكتاب والسنّة ... ، ح ۵ .
4.مسكنّ الفؤاد ، ص ۶۹ ؛ المحجّة البيضاء ، ج ۸ ، ص ۸۱ .
5.مصباح المتهجّد ، ص۵۹۵؛ الإقبال ، ص۷۵ ؛ المصباح ، للكفعمي، ص۵۹۹ ؛ بلد الأمين ، ص۲۱۲.
6.انظر : مصباح المتهجّد ، ص ۵۸۵ .
7.فيما أوحى اللّه عز وجل إلى داود عليه السلام أن ائت عبدي دانيال فقل له إن أذنبت ... . انظر : الكافي ، ج ۲ ، ص ۴۳۵ ، باب التوبة ، ح ۱۱ ؛ الزهد ، ص ۷۴ ، باب التوبة والاستغفار والندم ، ح ۲۰۰ ؛ بحار الأنوار ، ج ۱۴ ، ص ۳۷۶ ، باب قصص أرميا ودانيال و ... ، ح ۱۹ .
8.حكى نظيره السيوطي في تنوير الحوالك ، ص ۷۲ .