525
الدرّ المنظوم من كلام المعصوم

۸.عِدَّةٌ من أصحابنا ، عن أحمد بن محمّد بن خالد ، عن إسماعيل بن مهران ، عن أبي سعيد القَمّاط وصالح بن سعيد ، عن أبان بن تَغْلِبَ ، عن أبي جعفر عليه السلام أنّه سُئلَ عن مسألة فأجابَ فيها ، قال :فقال الرجال : إنَّ الفقهاءَ لا يقولونَ هذا ، فقال : «يا ويحك ، وهل رأيتَ فقيها قطُّ؟! إنّ الفقيهَ حقَّ الفقيهِ الزاهدُ في الدنيا ، الراغبُ في الآخرة ، المتمسّكُ بسنّة النبيّ صلى الله عليه و آله » .

[قوله :] في حديث أبان بن تَغْلِبَ : (عن أبي جعفر عليه السلام أنّه سُئل عن مسألةٍ فأجابَ فيها، قالَ:فقالَ الرجلُ: إنّ الفقهاءَ لا يَقولونَ هذا.فقال: «يا وَيْحَكَ ، وهل رأيتَ فقيهاً قَطُّ؟! إنّ الفقيهَ حَقَّ الفقيهِ الزاهدُ في الدنيا ، الراغبُ في الآخرة ، المتمسّكُ بسنّة النبيّ صلى الله عليه و آله ») .
قد تقدّم وجه تركيب مثل هذا . ولا شبهة في أنّ الفقيه الحقّ لا يخرج قوله عن قولهم عليهم السلام ، فالذين وصفهم الرجل بالفقهاء مع كونهم يقولون بخلاف قوله عليه السلام لا يكونون فقهاء إلاّ بتسمية من لا يعرف ما معنى الفقيه ، فكلّ من أخبر عنه الرجل لا يكون فقيهاً ، فلم ير فقيهاً قطّ ؛ لأنّه لو رأى واحداً يقول بقوله عليه السلام لما أتى بالجمع المعرّف المفيد للعموم .
وهذا مع عدم الزهد في الدنيا وعدم الرغبة في الآخرة ، فإنّ الزهد والرغبة الحقيقيين تابعان للقول بقولهم .
والمنادى في «ياويحك» محذوف ، والأصل : يا رجل ، أو يا هذا ويحك . و«ويح» منصوب بفعل محذوف ، ويحتمل كون «ويحك» المنادى مثل : يا غلامك ، إن جاز ۱ .
و«ويح» كلمة رحمة ، كما أنّ «ويلا» كلمة عذاب . وقيل : هما بمعنى ۲ .
وعلى الأوّل فخطابه له عليه السلام بقوله : «ياويحك» رأفة منه وترحّم على هذا الذي لا يعرف الفقيه ما هو ، أو أنّه وإن كان يستحقّ الخطاب بـ «الويل» إلاّ أنّ اللائق بصدوره منه عليه السلام الخطاب بـ «ويح» .
والاستفهام في «هل رأيت» إنكاريّ ، بمعنى النفي .
ثمّ نبّه ۳ عليه السلام على الفقيه الحقيقي ما هو ، وهو من جَمَعَ الأوصاف الثلاثة :
الأوّل : الزهد في الدنيا ، فإنّ الرغبة فيها تنافي الرغبة في الآخرة ، وعدم الرغبة في الآخرة لايجامع الفقه ، والفقيه من حصل مرتبتي العلم والعمل ، وذلك لا يكون إلاّ بالزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة .
ولمّا كان الزهد في الدنيا قد يكون للدنيا لا للآخرة والرغبة فيها ـ وهذا شائع لا يحتاج في إثباته إلى برهان ـ ذكر عليه السلام الوصف الثاني ، وهو الرغبة في الآخرة . ولو اكتفى بالأوّل أمكن الرجل أن يقول له : الفقيه الفلاني زاهد في الدنيا ، وهو يقول بخلاف قولك . وهذا يمكن إقامة الشهادة عليه وقد يكون مشهوراً شائعاً ، بخلاف الرغبة في الآخرة ، فإنّه لا يمكن إلاّ ادّعاؤها له فقط .
وقد يحصل الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة ولكنّهما مشروطان بالتمسّك بسنّة النبيّ صلى الله عليه و آله ، فإنّهما لاوجه لهما بدون هذا ، فإنّها هي الطريق الموصل إلى الزهد الحقيقي والرغبة كذلك .
وهم عليهم السلام أهل السنّة ، ومنهم تؤخذ ، فالفقهاء غيرهم إذا قالوا بخلاف قولهم ، لو فرض زهدهم في الدنيا ورغبتهم في الآخرة مع عدم تمسّكهم بسنّتهم ، لا يترتّب
على زهدهم ورغبتهم فائدة ، بل ضرر ووبال . وقولهم بخلاف قولهم دليلٌ على عدم تمسّكهم بالسنّة ، فلا يكونون فقهاء إلاّ بمحض التسمية .
ولنذكر هنا حديثاً وَرَدَ عن الرضا عليه السلام يُناسب هذا المقام ، نسأل اللّه العمل بمقتضاه وتوفيقه لما يحبّه ويرضاه .
ونقله في الاحتجاج :
قال عليّ بن الحسين عليه السلام : «إذا رأيتم الرجل قد حَسُنَ سَمتُه وهَدْيُه وتَماوَتَ في منطقه وتخاضَعَ في حركاته فرويداً لا يغرّكم ۴ ، فما أكثر من يعجزه تناول الدنيا وركوب الحرام منها لضعف نيّته ومهانته وجبن قلبه ، فنصب الدين فَخّا لها ، فهو لا يزال يَخْتِلُ الناس بظاهره ، فإن تمكّن من حرام اقتحمه ، وإذا وجدتموه يَعِفُّ عن المال الحرام فرويداً لا يغرّكم ، فإنّ شهوات الخلق مختلفة ، فما أكثر من ينبو عن المال الحرام وإن كثر ، ويحمل نفسه على شَوْهاء قبيحة ، فيأتي منها محرّماً ، فإذا وجدتموه يعفّ عن ذلك فرويداً لا يغرّكم حتّى تنظروا ما عَقَدَهُ عقلُه ، فما أكثر من تَرَكَ ذلك أجمعَ ثمّ لا يرجع إلى عقلٍ متينٍ ، فيكون ما يُفسده بجهله أكثر ممّا يُصلحه بعقله ، فإذا وجدتم عقلَه متيناً فرويداً لا يغرّكم حتّى تنظروا مع هواه يكون على عقله ، أو يكون مع عقله على هواه ، وكيف محبّته للرئاسات الباطلة وزهده فيها ، فإنّ في الناس من خسر الدنيا والآخرة بترك الدنيا للدنيا ، ويرى أنّ لذّة الرئاسة الباطلة أفضل من لذّة الأموال والنعم المباحة المحلّلة ، فيترك ذلك أجمع طلباً للرئاسة حتى « إِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالاْءِثْمِ فَحَسْبُهُو جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ »۵ فهو يخبط خبط عشوا ، يقوده أوّل باطل إلى أبعد غايات الخسارة ويمدّه ، وبه بعد طلبه لما لا يقدر عليه في حياته ، فهو يحلّ ما حرّم اللّه ، ويحرّم ما أحلّ اللّه ، لا يبالي مافات من دينه إذا سلمت له رئاسته التي قد يتّقى من أجلها ؛ فاُؤلئك الذين غضب اللّه عليهم ولعنهم وأعدّ لهم عذابا مهيناً . ولكنّ الرجل ، كلّ الرجل ، نعم الرجل هو الذي جعل هواه تبعاً لأمر اللّه ، وقواه مبذولةً في رضى اللّه ، يرى الذلَّ مع الحقّ أقربَ إلى عزّ الأبد من العزّ في الباطل ، ويعلم أنّ قليل ما يحتمله من ضرّائها يؤدّيه إلى دوام النعيم في دار لا تبيد ولا تنفد ؛ وأنّ كثير ما يلحقه من سرّائها إن اتّبع هواه يؤدّيه إلى عذاب لا انقطاع له ولا يزول .
فذلكم الرجل نعم الرجل ، فبه فتمسّكوا ، وبسنّته فاقتدوا ، وإلى ربّكم به فتوسّلوا ، فإنّه لا تردُّ له دعوةٌ ، ولا تُخَيِّبُ له طَلِبَةٌ ۶ .
انتهى كلامه صلوات اللّه عليه .
وفي المنتسخ منه بعض سقم في بعض الألفاظ .

1.إلى هنا تمّت نسخة «ب» .

2.الصحاح ، ج ۱ ، ص ۴۱۷ ؛ لسان العرب ، ج ۲ ، ص ۶۳۸ ؛ مجمع البحرين ، ج ۴ ، ۵۶۸ (ويح) .

3.في «ألف ، ج » : «نبّهه» .

4.في المصدر : «لا يغرّنّكم» وكذا فيما بعد .

5.البقرة (۲) : ۲۰۶ .

6.الاحتجاج ، ج ۲ ، ص ۳۲۰ .


الدرّ المنظوم من كلام المعصوم
524

۶.وبهذا الإسناد ، عن ابن أبي عميرٍ ، عن بعض أصحابه ، قال :سمعتُ أبا عبداللّه عليه السلام يقول : «من خالَفَ كتابَ اللّه وسُنَّةَ محمّدٍ صلى الله عليه و آله فقد كَفَرَ» .

۷.عليُّ بن إبراهيم ، عن محمّد بن عيسى بن عُبَيْدٍ ، عن يونس ، رَفَعَه ، قال :قال عليُّ بن الحسين عليه السلام : «إنَّ أفْضَلَ الأعمالِ عند اللّه ِ ما عُمِلَ بالسنّة وإن قَلّ» .

قوله عليه السلام في حديث ابن أبي عمير : (مَن خالَفَ كتابَ اللّه وسنّةَ محمّدٍ صلى الله عليه و آله فقد كَفَرَ) .
ذكر السنّة مع الكتاب لكونها مبيّنة له ، فالمخالفة لكلّ واحد منهما كافية في الكفر .
وظاهر المخالفة أن تكون مع الاعتقاد ، فالمراد الكفر المشهور الخاصّ ، ولو اُريد ما يدخل تحته عدم الاعتقاد ، فالكفر أعمّ من ذلك ؛ واللّه أعلم .
قوله عليه السلام في حديث يونس : (إنّ أفضلَ الأعمالِ عنداللّه عزّ وجلّ ما عُمِلَ بالسنّة وإن قَلَّ) .
يحتمل أن يكون المراد : أنّ أفضل الأعمال عند اللّه ما اُتي فيه بجميع سنّته ، بمعنى مستحبّاته ؛ فهذا من أفضل الأعمال وإن كان قليلاً ، فهو أفضل عنداللّه من عملٍ ليس على هذا الوجه ، بحيث يكون بدون هذه السنن صحيحاً مجزياً ليكون فيه فضل ، فما اُتي به على الوجه الأكمل أفضل منه إذا نقص كماله ومن غيره كذلك وإن كان أكثر من هذا العمل . وهذا الوجه باعتبار التفضيل ، وإلاّ فكأنّه خلاف الظاهر من العمل بالسنّة ؛ واللّه أعلم .
ويحتمل أن يكون التفضيل على غير أصله من باب « وَ هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ »۱ وصورة صيغة التفضيل لفائدة زيادة فضله في نفسه عند اللّه .
وهذا وجه لطيف لم يتقدّم ذكره ولم أر من ذكره . ويمكن أن يكون « وَ هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ » من هذا القبيل ؛ واللّه أعلم . وحينئذٍ فالمراد بالسنّة ما كان عمله على وجه السنّة ، وهي طريقه ، سواء كان واجباً أم مستحبّاً .
ويمكن هنا أيضا اعتبار اعتقاد العامل أنّ عمله له فضلٌ عند اللّه ، وإن لم يكن بطريق السنّة ؛ واللّه تعالى أعلم .

1.الروم (۳۰): ۲۷.

  • نام منبع :
    الدرّ المنظوم من كلام المعصوم
    سایر پدیدآورندگان :
    الدرایتی، محمد حسین
    تعداد جلد :
    1
    ناشر :
    سازمان چاپ و نشر دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1388
    نوبت چاپ :
    اوّل
تعداد بازدید : 97334
صفحه از 715
پرینت  ارسال به