349
موسوعة الإمام عليّ بن أبي طالب (ع) في الكتاب و السُّنَّة و التّاريخ ج 1

حارّة لاهبة ، وقد أمر النبيّ صلى الله عليه و آله أن يصنعوا له موضعاً يرتقيه من أقتاب الإبل ، حتى إذا خطب بالحاضرين يراه الجميع ويسمعونه .
احتشد المكان بعشرات الاُلوف ۱ ، أدّى النبيّ صلى الله عليه و آله صلاة الظهر ، ثمّ راح يستعدّ لالقاء خطابه بعد أن أمرهم بالتجمّع ، ازداد تجمهر الحشود واقترابها إلى حيث يقف النبيّ مستعدّاً لأمرٍ مهم . الشمس تستقرّ في كبد السماء فترسل بأشعّتها الحارقة ، فتتحوّل الصحراء في تلك الظهيرة إلى كتلة ملتهبة . الحاضرون يضعون الأردية والملابس فوق الرؤوس وتحت الأقدام علّها تقيهم شيئاً من الرمضاء الحارقة وأشعّة الشمس المتوهّجة ، وبعضهم يفى ء إلى المتاع والرحال يلوذ بظلاله .
مشهد يقتحم الذاكرة ويستعصي على النسيان . رسول اللّه صلى الله عليه و آله يصعد الموضع الذي صنعوه مِن الرحال وأقتاب الإبل ، وبصوته النديّ الشجيّ مضى يملأ بكلماته الأفئدة والأسماع ، ويُلقي خطبته على عشرات الاُلوف من المسلمين الذين أنهوا الحجّ لتوّهم .
بدأ الخطبة ، حمد اللّه وأثنى عليه ، ثمّ راح يُشهدهم مرّات ومرّات على جهده الحثيث في إبلاغ الرسالة ، وما بذله لهم من النصيحة في دين اللّه ، وبجهاده العظيم في سبيل الدعوة . فشهدوا له وشهدوا ، وردّدوا ذلك بصوت واحد . كان هذا كلّه كالتمهيد ، حتى إذا ما تطلّعت النفوس والعقول مستفهمة ما وراء هذا الكلام النبوي من مغزى ، أزِفت اللحظة الموعودة ، فما كان من النبيّ إلّا أن أخذ

1.حول عدد الحاضرين في واقعة غدير خُمّ وردت أقوال مختلفة ، منها : ۱۳۰۰ ، ۱۰۰۰۰ شخص (المناقب لابن شهر آشوب : ج۳ ص۲۶) ، ۱۰۰۰۰ ، ۱۲۰۰۰ شخص (تفسير العيّاشي : ج۱ ص۳۳۳ ح۱۵۳ و ص ۳۲۹ ح۱۴۳) ، ۱۷۰۰۰ شخص (جامع الأخبار : ص۴۷ ح۵۲) ، ۴۰۰۰۰ ، ۷۰۰۰۰ ، ۹۰۰۰۰ ، ۱۱۴۰۰۰ ، ۱۲۴۰۰۰ شخص (السيرة الحلبيّة : ج۳ ص۲۵۷) ، ۷۰۰۰۰ شخص (الاحتجاج : ج۱ ص۱۳۴ ح۳۲) ، ۱۲۰۰۰۰ شخص (تذكرة الخواصّ : ص۳۰) . وراجع الغدير : ج۱ ص۹ وبحار الأنوار : ج۳۷ ص۱۳۹ و ص ۱۵۸ و ص ۱۶۵ .


موسوعة الإمام عليّ بن أبي طالب (ع) في الكتاب و السُّنَّة و التّاريخ ج 1
348

والأركان ، ولم يحدّد موقع الإمامة بعد غيابه ، بل ترك الاُمّة كقطيع دون راعٍ ، وكهباء ضائع في خلاء ، ومن ثمَّ فهو لم يجهر بالحقيقة الناصعة على هذا الصعيد ولم يعلنها بلاغاً صادعاً تتناقله العصور والأجيال ! هذا مع أ نّنا رأينا في مطلع البحث أنّ الفرضيّات الاُخرى حيال مستقبل الاُمّة ، غير نظريّة النصّ على القيادة ، تتّسم بأجمعها بالسقم والاضطراب وعدم الصواب .
والسؤال مجدّداً : أ يقبل العقل ـ أيّ عقل كان ـ هذه السلبيّة واللامبالاة على هذا «الطبيب الدوّار» ۱ ؟ وهل يصدق هذا على نبيّ لبث شامخاً ناهضاً متفانياً لم يتلعثم عزمه قط ، ولم يكفّ عن التفكير في مستقبل الاُمّة والرسالة لحظة واحدة ؟ حاشا رسول اللّه أن يفعل ذلك ، وجلّت عن ذلك حكمته وصوابه ، وحزمه وثباته .
2 ـ كيفيّة انبثاق المشهد وانطلاق البلاغ : حجّ المسلمون مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله وهمّوا بمغادرة مكّة عائدين إلى ديارهم ومواضع سكناهم بعد أن انتهت المراسم . أفواج تتلوها أفواج ، وقوافل يتبع بعضها أثر بعض ، تترك البيت العتيق قاصدة العودة بأهلها من حيث أتوا . كذلك مضت قافلة رسول اللّه صلى الله عليه و آله ترسل خطاها الثابتة صوب المدينة .
اقتربت القافلة النبويّة من «وادي خمّ» وهو وادٍ موصوف بكثرة الوخامة وشدّة الحر ۲ ، فجاء وحي السماء من فوره ، يأمر النبيّ أن يقف حيث هو . وراح منادي رسول اللّه صلى الله عليه و آله يأمر من تقدّم أن يعود ، ويحبس من تأخر ؛ ليجتمع الناس سواءً في مكان واحد ، حيث لم تتشعّب بهم الطريق بعد .
أرض جرداء غير مسكونة مفتوحة على صحراء ممتدّة الشمس فوق الرؤوس

1.إشارة إلى كلام الإمام أمير المؤمنين عليه السلام يصف فيه النبيّ صلى الله عليه و آله ، بقوله : «طبيب دوّار بطبّه» . راجع : نهج البلاغة : الخطبة ۱۰۸ .

2.وفيات الأعيان : ج۵ ص۲۳۱ .

  • نام منبع :
    موسوعة الإمام عليّ بن أبي طالب (ع) في الكتاب و السُّنَّة و التّاريخ ج 1
    سایر پدیدآورندگان :
    طباطبایی، محمد کاظم؛ طباطبایی نژاد، محمود
    تعداد جلد :
    7
    ناشر :
    دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1385
    نوبت چاپ :
    دوم
تعداد بازدید : 77854
صفحه از 664
پرینت  ارسال به