يبدو أنّ أوّل من ذهب الى ذلك ـ وان لم يقطع به ـ هو محمّد بن إدريس الشافعي ، فعلى أساس ما ذكره ، أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله بعد أن أتاه الوحي ونزلت عليه :
«اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِى خَلَقَ» ، كبر ذلك عليه ، وخاف التكذيب وأن يُتناول من قبل المشركين ، فنزل عليه «يَـأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ» ، وقد كان ذلك عصمة له من قِبَل اللّه سبحانه كي يمضي على تبليغ ما اُمر به بثبات ودون خوف ۱ .
على أساس هذه الرؤية روي عن الحسن البصري قوله : إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله قال : «لَمّا بَعَثَنِيَ اللّهُ تَعالى بِرِسالَتِهِ ضِقتُ بِها ذَرعَاً ، وَعَرَفتُ أنَّ مِنَ النّاسِ مَن يُكَذِّبُني» ۲ فأمسك عن الدعوة حتى نزلت عليه الآية .
ذكرنا فيما سلف أنّ سورة المائدة هي من بين آخر السور التي نزلت على النبيّ صلى الله عليه و آله إن لم تكن آخرها ۳ . فما الذي كان يريده اللّه سبحانه من قوله : «بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ» ، ولم ينزل على النبيّ صلى الله عليه و آله شيء بعدُ ؟ وما الذي كان يخشاه رسول اللّه صلى الله عليه و آله ويمنعه عن الإبلاغ ولمّا يواجهِ المشركون بعدُ آيةً أو آيات من تلك التي تقضّ مضاجعهم ، وتبعث فيهم النقمة والاهتياج !
إنّ هذا الذي يزعمونه لا يليق بمُبلِّغ عاديّ ، وهو ليس خليق بإنسان متوسّط الحال لايزال في أوّل الطريق ، أفيجوز على رسول اللّه صلى الله عليه و آله وذلك القلب المجدول إلى السماء ، الموصول باللّه أبداً ؟ وهل يتّسق مع خطاه الراسخة وتلك الارادة الصلبة التي لا تعرف الوهن !
أمّا ما ذكروه من أنّ الباعث على نزول الآية هو ما كان من حراسة أبي طالب عمّ النبيّ لرسول اللّه صلى الله عليه و آله ؛ إذ بنزول الآية طلب النبيّ إليه أن يكفّ عن الحراسة بعد أن
1.الاُمّ : ج۴ ص۱۶۸ ، والنصّ طويل وقد أخذنا منه مورد الحاجة .
2.أسباب النزول للواحدي : ص۲۰۴ ح۴۰۲ ؛ الدرّ المنثور : ج۳ ص۱۱۶ نحوه .
3.تفسير ابن كثير : ج۳ ص۳ ؛ التحرير والتنوير : ج۴ ص۲۵۵ .