533
موسوعة الإمام عليّ بن أبي طالب (ع) في الكتاب و السُّنَّة و التّاريخ ج 3

أي بُنَيَّ ، إنّي لَمّا رَأَيتُني قَد بَلغتُ سِنّا ، ورَأَيتُني أزدادُ وَهنا ، بادَرتُ بِوَصِيَّتي إلَيكَ ، وأورَدتُ خِصالاً مِنها قَبلَ أن يَعجَلَ بي أجَلي دونَ أن اُفضِيَ إلَيكَ بِما في نَفسي ، وأن اُنقَصَ في رَأيي كَما نُقِصتُ في جِسمي ، أو يَسبِقَني إلَيكَ بَعضُ غَلَباتِ الهَوى وفِتَنِ الدُّنيا ، فَتَكونَ كَالصَّعبِ النَّفورِ . وإنَّما قَلبُ الحَدَثِ كَالأَرضِ الخالِيَةِ ما اُلقِيَ فيها مِن شَيءٍ قَبِلَتهُ . فَبادَرتُكَ بِالأَدَبِ قَبلَ أن يَقسَُو قَلبُكَ ويَشتَغِلَ لُبُّكَ ؛ لِتَستَقبِلَ بِجِدِّ رَأيِكَ مِنَ الأَمرِ ما قَد كَفاكَ أهلُ التَّجارِبِ بُغيَتَهُ وتَجرِبَتَهُ ، فَتَكونُ قد كُفيتَ مَؤونَةَ الطَّلَبِ ، وعوفيتَ مِن عِلاجِ التَّجرِبَةِ ، فَأَتاكَ مِن ذلِكَ ما قَد كُنّا نَأتيهِ ، وَاستَبانَ لَكَ ما رُبَّما أظلَمَ عَلَينا مِنهُ .
أي بُنَيَّ ، إنّي وإن لَم أكُن عُمِّرتُ عُمُرَ مَن كانَ قَبلي ، فَقَد نَظَرتُ في أعمالِهِم ، وفَكَّرتُ في أخبارِهِم ، وسِرتُ في آثارِهِم حَتّى عُدتُ كَأَحَدِهِم ، بَل كَأَنّي بِمَا انتَهى إلَيَّ مِن اُمورِهِم قَد عُمِّرتُ مَعَ أوَّلِهِم إلى آخِرِهِم ، فَعَرَفتُ صَفوَ ذلِكَ مِن كَدَرِهِ ، ونَفعَهُ مِن ضَرَرِهِ ، فَاستَخلَصتُ لَكَ مِن كُلِّ أمرٍ نَخيلَهُ ۱ وتَوَخَّيتُ لَكَ جَميلَهُ وصَرَفتُ عَنكَ مَجهولَهُ ، ورَأَيتُ حَيثُ عَناني مِن أمرِكَ ما يَعنِي الوالِدَ الشَّفيقَ ، وأجمَعتُ عَلَيهِ مِن أدَبِكَ أن يَكونَ ذلِكَ وأنتَ مُقبِلُ العُمُرِ ومُقتَبَلُ الدَّهرِ ، ذو نِيَّةٍ سَليمَةٍ ونَفسٍ صافِيَةٍ ، وأن أبتَدِئَكَ بِتَعليمِ كِتابِ اللّهِ وتَأويلِهِ ، وشَرائِعِ الإِسلامِ وأحكامِهِ ، وحَلالِهِ وحَرامِهِ ، لا اُجاوِزُ ذلِكَ بِكَ إلى غَيرِهِ . ثُمَّ أشفَقتُ أن يَلتَبِسَ عَلَيكَ ما اختَلَفَ النّاسُ فيهِ مِن أهوائِهِم مِثلَ الَّذِي التَبَسَ عَلَيهِم ، فَكانَ إحكامُ ذلِكَ عَلى ما كَرِهتُ مِن تَنبيهِكَ لَهُ أحَبَّ إلَيَّ مِن إسلامِكَ إلى أمرٍ لا آمَنُ عَلَيكَ بِهِ الهَلَكَةَ ، ورَجَوتُ أن يُوَفِّقَكَ اللّهُ فيهِ لِرُشدِكَ ، وأن يَهدِيَكَ لِقَصدِكَ ، فَعَهِدتُ إلَيكَ وَصِيَّتي هذِهِ .
وَاعلَم يا بُنَيَّ ، أنَّ أحَبَّ ما أنتَ آخِذٌ بِهِ إلَيَّ مِن وَصِيَّتي تَقوَى اللّهِ وَالاِقتِصار

1.نخَلَ الشيء : صَفَّاه واختارَه (لسان العرب : ج۱۱ ص۶۵۱) .


موسوعة الإمام عليّ بن أبي طالب (ع) في الكتاب و السُّنَّة و التّاريخ ج 3
532

وصَرَّحَ لي مَحضُ أمري ، فَأَفضى بي إلى جِدٍّ لا يَكونُ فيهِ لَعِبٌ ، وصِدقٍ لا يَشوبُهُ كَذِبٌ . ووَجَدتُكَ بَعضي ، بَل وَجَدتُكَ كُلّي حَتّى كَأَنَّ شَيئا لَو أصابَكَ أصابَني ، وكَأَنَّ المَوتَ لَو أتاكَ أتاني ، فَعَناني مِن أمرِكَ ما يَعنيني مِن أمرِ نَفسي ، فَكَتَبتُ إلَيكَ مُستَظهِرا بِهِ إن أنَا بَقيتُ لَكَ أو فَنيتُ .
فَإِنّي اُوصيكَ بِتَقوَى اللّهِ ـ أي بُنَيَّ ـ ولُزومِ أمرِهِ ، وعِمارَةِ قَلبِكَ بِذِكرِهِ ، وَالاِعتِصامِ بِحَبلِهِ . وأيُّ سَبَبٍ أوثَقُ مِن سَبَبٍ بَينَكَ وبَينَ اللّهِ إن أنتَ أخَذتَ بِهِ ؟ !
أحيِ قَلبَكَ بِالمَوعِظَةِ ، وأمِتهُ بِالزَّهادَةِ ، وقَوِّهِ بِاليَقينِ ، ونَوِّرهُ بِالحِكمَةِ ، وذَلَّلهُ بِذِكرِ المَوتِ ، وقَرِّرهُ بِالفَناءِ ، وبَصِّرهُ فَجائِعَ الدُّنيا ، وحَذِّرهُ صَولَةَ الدَّهرِ وفُحشَ تَقَلُّبِ اللَّيالي وَالأَيّامِ ، وَاعرِض عَليهِ أخبارَ الماضينَ ، وذَكِّرهُ بِما أصابَ مَن كانَ قَبلَكَ مِنَ الأَوَّلينَ ، وسِر في دِيارِهِم وآثارِهِم ، فَانظُر فيما فَعَلوا وعَمَّا انتَقَلوا ، وأينَ حَلّوا ونَزَلوا ! فَإِنَّكَ تَجِدُهُم قَد انتَقَلوا عَنِ الأَحِبَّةِ ، وحَلّوا دِيارَ الغُربَةِ ، وكَأَنَّكَ عَن قَليلٍ قَد صِرتَ كَأَحَدِهِم . فَأَصلِح مَثواكَ ، ولا تَبِع آخِرَتَكَ بِدُنياكَ ، ودَعِ القَولَ فيما لا تَعرِفُ ، وَالخِطابَ فيما لَم تُكَلَّف . وأمسِك عَن طَريقٍ إذا خِفتَ ضَلالَتَهُ فَإِنَّ الكَفَّ عِندَ حَيرَةِ الضَّلالِ خَيرٌ مِن رُكوبِ الأَهوالِ . وَأمرُ بِالمَعروفِ تَكُن مِن أهلِهِ ، وأنكِرِ المُنكَرَ بِيَدِكَ ولِسانِكَ ، وبايِن مَن فَعَلَهُ بِجُهدِكَ . وجاهِد فِي اللّهِ حَقَّ جِهادِهِ ، ولا تَأخُذكَ فِي اللّهِ لَومَةُ لائِمٍ . وخُضِ الغَمَراتِ لِلحَقِّ حَيثُ كانَ ، وتَفَقَّه فِي الدّينِ ، وعَوِّد نَفسَكَ التَّصَبُّرَ عَلَى المَكروهِ ونِعمَ الخُلُقُ التَّصَبُّرُ ! وألجِئ نَفسَكَ فِي الاُمورِ كُلِّها إلى إلهِكَ ، فَإِنَّكَ تُلجِئُها إلى كَهفٍ حَريزٍ ، ومانعٍ عَزيزٍ . وأخلِص فِي المَسأَلَةِ لِرَبِّكَ ، فَإِنَّ بِيَدِهِ العَطاءَ وَالحِرمانَ ، وأكثِرِ الاِستِخارَةَ ، وتَفَهَّم وَصِيَّتي ، ولا تَذهَبَنَّ عَنها صَفحا ، فَإِنَّ خَيرَ القَولِ ما نَفَعَ . وَاعلَم أنَّهُ لا خَيرَ في عِلمٍ لا يَنفَعُ ، ولا يُنتَفَعُ بِعِلمٍ لا يَحِقُّ تَعَلُّمُهُ .

  • نام منبع :
    موسوعة الإمام عليّ بن أبي طالب (ع) في الكتاب و السُّنَّة و التّاريخ ج 3
    سایر پدیدآورندگان :
    طباطبایی، محمد کاظم؛ طباطبایی نژاد، محمود
    تعداد جلد :
    7
    ناشر :
    دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1385
    نوبت چاپ :
    دوم
تعداد بازدید : 101177
صفحه از 670
پرینت  ارسال به