أي بُنَيَّ ، إنّي لَمّا رَأَيتُني قَد بَلغتُ سِنّا ، ورَأَيتُني أزدادُ وَهنا ، بادَرتُ بِوَصِيَّتي إلَيكَ ، وأورَدتُ خِصالاً مِنها قَبلَ أن يَعجَلَ بي أجَلي دونَ أن اُفضِيَ إلَيكَ بِما في نَفسي ، وأن اُنقَصَ في رَأيي كَما نُقِصتُ في جِسمي ، أو يَسبِقَني إلَيكَ بَعضُ غَلَباتِ الهَوى وفِتَنِ الدُّنيا ، فَتَكونَ كَالصَّعبِ النَّفورِ . وإنَّما قَلبُ الحَدَثِ كَالأَرضِ الخالِيَةِ ما اُلقِيَ فيها مِن شَيءٍ قَبِلَتهُ . فَبادَرتُكَ بِالأَدَبِ قَبلَ أن يَقسَُو قَلبُكَ ويَشتَغِلَ لُبُّكَ ؛ لِتَستَقبِلَ بِجِدِّ رَأيِكَ مِنَ الأَمرِ ما قَد كَفاكَ أهلُ التَّجارِبِ بُغيَتَهُ وتَجرِبَتَهُ ، فَتَكونُ قد كُفيتَ مَؤونَةَ الطَّلَبِ ، وعوفيتَ مِن عِلاجِ التَّجرِبَةِ ، فَأَتاكَ مِن ذلِكَ ما قَد كُنّا نَأتيهِ ، وَاستَبانَ لَكَ ما رُبَّما أظلَمَ عَلَينا مِنهُ .
أي بُنَيَّ ، إنّي وإن لَم أكُن عُمِّرتُ عُمُرَ مَن كانَ قَبلي ، فَقَد نَظَرتُ في أعمالِهِم ، وفَكَّرتُ في أخبارِهِم ، وسِرتُ في آثارِهِم حَتّى عُدتُ كَأَحَدِهِم ، بَل كَأَنّي بِمَا انتَهى إلَيَّ مِن اُمورِهِم قَد عُمِّرتُ مَعَ أوَّلِهِم إلى آخِرِهِم ، فَعَرَفتُ صَفوَ ذلِكَ مِن كَدَرِهِ ، ونَفعَهُ مِن ضَرَرِهِ ، فَاستَخلَصتُ لَكَ مِن كُلِّ أمرٍ نَخيلَهُ ۱ وتَوَخَّيتُ لَكَ جَميلَهُ وصَرَفتُ عَنكَ مَجهولَهُ ، ورَأَيتُ حَيثُ عَناني مِن أمرِكَ ما يَعنِي الوالِدَ الشَّفيقَ ، وأجمَعتُ عَلَيهِ مِن أدَبِكَ أن يَكونَ ذلِكَ وأنتَ مُقبِلُ العُمُرِ ومُقتَبَلُ الدَّهرِ ، ذو نِيَّةٍ سَليمَةٍ ونَفسٍ صافِيَةٍ ، وأن أبتَدِئَكَ بِتَعليمِ كِتابِ اللّهِ وتَأويلِهِ ، وشَرائِعِ الإِسلامِ وأحكامِهِ ، وحَلالِهِ وحَرامِهِ ، لا اُجاوِزُ ذلِكَ بِكَ إلى غَيرِهِ . ثُمَّ أشفَقتُ أن يَلتَبِسَ عَلَيكَ ما اختَلَفَ النّاسُ فيهِ مِن أهوائِهِم مِثلَ الَّذِي التَبَسَ عَلَيهِم ، فَكانَ إحكامُ ذلِكَ عَلى ما كَرِهتُ مِن تَنبيهِكَ لَهُ أحَبَّ إلَيَّ مِن إسلامِكَ إلى أمرٍ لا آمَنُ عَلَيكَ بِهِ الهَلَكَةَ ، ورَجَوتُ أن يُوَفِّقَكَ اللّهُ فيهِ لِرُشدِكَ ، وأن يَهدِيَكَ لِقَصدِكَ ، فَعَهِدتُ إلَيكَ وَصِيَّتي هذِهِ .
وَاعلَم يا بُنَيَّ ، أنَّ أحَبَّ ما أنتَ آخِذٌ بِهِ إلَيَّ مِن وَصِيَّتي تَقوَى اللّهِ وَالاِقتِصار