وإلَى النَّجاةِ قائِدا ، فَإِنّي لَم آلُكَ نَصيحَةً . وإنَّكَ لن تَبلُغَ فِي النَّظَرِ لِنَفسِكَ ـ وإنِ اجتَهَدتَ ـ مَبلَغَ نَظَري لَكَ .
وَاعلَم يا بُنَيَّ أنَّهُ لَو كانَ لِرَبِّكَ شَريكٌ لَأَتَتكَ رُسُلُهُ ، ولَرَأَيتَ آثارَ مُلكِهِ وسُلطانِهِ ، ولَعَرَفتَ أفعالَهُ وصِفاتِهِ ، ولكِنَّهُ إلهٌ واحِدٌ كَما وَصَفَ نَفسَهُ ، لا يُضادُّهُ في مُلكِهِ أحَدٌ ، ولا يَزولُ أبَدا ولَم يَزَل . أوَّلٌ قَبلَ الأَشياءِ بِلا أوَّلِيَّةٍ ، وآخِرٌ بعدَ الأَشياءِ بِلا نِهايَةٍ . عَظُمَ عَن أن تَثبُتَ رُبوبِيَّتُهُ بِإِحاطَةِ قَلبٍ أو بَصَرٍ . فَإِذا عَرَفتَ ذلِكَ فَافعَل كَما يَنبَغي لِمِثلِكَ أن يَفعَلَهُ في صِغَرِ خَطَرِهِ ، وقِلَّةِ مَقدِرَتِهِ ، وكَثرَةِ عَجزِهِ ؛ وعَظيمِ حاجَتِهِ إلى رَبِّهِ في طَلَبِ طاعَتِهِ ، وَالرَّهبَةِ مِن عُقوبَتِهِ ، وَالشَّفَقَةِ من سُخطِهِ ؛ فَإِنَّهُ لَم يَأمُركَ إلّا بِحَسَنٍ ، ولَم يَنهَكَ إلّا عَن قَبيحٍ .
يا بُنَيَّ ، إنّي قَد أنبَأتُكَ عَنِ الدُّنيا وحالِها وزَوالِها وَانتِقالِها ، وأنبَأتُكَ عَنِ الآخِرَةِ وما اُعِدَّ لِأَهلِها فيها ، وضَربَتُ لَكَ فيهِمَا الأَمثالَ ؛ لِتَعتَبِرَ بِها وتَحذُوَ عَلَيها . إنَّما مَثَلُ مَن خَبَرَ الدُّنيا كَمَثَلِ قَومٍ سَفرٍ نَبا بِهِم مَنزِلٌ جَديبٌ ، فَأَمّوا مَنزِلاً خَصيبا وجَنابا مَريعا ، فَاحتَمَلوا وَعثاءَ الطَّريقِ وفِراقَ الصَّديقِ ، وخُشونَةَ السَّفَرِ ، وجُشوبَةَ المَطعَمِ ؛ لِيَأتوا سَعَةَ دارِهِم ومَنزِلَ قَرارِهِم ، فَلَيسَ يَجِدونَ لِشَيءٍ مِن ذلِكَ ألَما ، ولا يَرَونَ نَفَقَةً مَغرَما ، ولا شَيءَ أحَبُّ إلَيهِم مِمّا قَرَّبَهُم مِن مَنزِلِهِم ، وأدناهُم مِن مَحَلِّهِم .
ومَثَلُ مَنِ اغتَرَّ بِها كَمَثَلِ قَومٍ كانوا بِمَنزِلٍ خَصيبٍ فَنَبا بِهِم إلى مَنزِلٍ جَديبٍ ، فَلَيسَ شَيءٌ أكرَهَ إلَيهِم ولا أفظَعَ عِندَهُم مِن مُفارَقَةِ ما كانوا فيه إلى ما يَهجُمونَ عَلَيهِ ويَصيرونَ إلَيهِ .
يا بُنَيَّ ، اجعَل نَفسَكَ ميزانا فيما بَينَكَ وبَينَ غَيرِكَ ، فَأَحبِب لِغَيرِكَ ما تُحِبُّ لِنَفسِكَ ، وَاكرَه لَهُ ما تَكرَهُ لَها ، ولا تَظلِم كَما لا تُحِبُّ أن تُظلَمَ ، وأحسِن كَما تُحِبُّ أن يُحسَنَ إلَيكَ ، وَاستَقبِح مِن نَفسِكَ ما تَستَقبِحُ مِن غَيرِكَ ، وَارضَ مِنَ النّاسِ بِما تَرضاه