535
موسوعة الإمام عليّ بن أبي طالب (ع) في الكتاب و السُّنَّة و التّاريخ ج 3

وإلَى النَّجاةِ قائِدا ، فَإِنّي لَم آلُكَ نَصيحَةً . وإنَّكَ لن تَبلُغَ فِي النَّظَرِ لِنَفسِكَ ـ وإنِ اجتَهَدتَ ـ مَبلَغَ نَظَري لَكَ .
وَاعلَم يا بُنَيَّ أنَّهُ لَو كانَ لِرَبِّكَ شَريكٌ لَأَتَتكَ رُسُلُهُ ، ولَرَأَيتَ آثارَ مُلكِهِ وسُلطانِهِ ، ولَعَرَفتَ أفعالَهُ وصِفاتِهِ ، ولكِنَّهُ إلهٌ واحِدٌ كَما وَصَفَ نَفسَهُ ، لا يُضادُّهُ في مُلكِهِ أحَدٌ ، ولا يَزولُ أبَدا ولَم يَزَل . أوَّلٌ قَبلَ الأَشياءِ بِلا أوَّلِيَّةٍ ، وآخِرٌ بعدَ الأَشياءِ بِلا نِهايَةٍ . عَظُمَ عَن أن تَثبُتَ رُبوبِيَّتُهُ بِإِحاطَةِ قَلبٍ أو بَصَرٍ . فَإِذا عَرَفتَ ذلِكَ فَافعَل كَما يَنبَغي لِمِثلِكَ أن يَفعَلَهُ في صِغَرِ خَطَرِهِ ، وقِلَّةِ مَقدِرَتِهِ ، وكَثرَةِ عَجزِهِ ؛ وعَظيمِ حاجَتِهِ إلى رَبِّهِ في طَلَبِ طاعَتِهِ ، وَالرَّهبَةِ مِن عُقوبَتِهِ ، وَالشَّفَقَةِ من سُخطِهِ ؛ فَإِنَّهُ لَم يَأمُركَ إلّا بِحَسَنٍ ، ولَم يَنهَكَ إلّا عَن قَبيحٍ .
يا بُنَيَّ ، إنّي قَد أنبَأتُكَ عَنِ الدُّنيا وحالِها وزَوالِها وَانتِقالِها ، وأنبَأتُكَ عَنِ الآخِرَةِ وما اُعِدَّ لِأَهلِها فيها ، وضَربَتُ لَكَ فيهِمَا الأَمثالَ ؛ لِتَعتَبِرَ بِها وتَحذُوَ عَلَيها . إنَّما مَثَلُ مَن خَبَرَ الدُّنيا كَمَثَلِ قَومٍ سَفرٍ نَبا بِهِم مَنزِلٌ جَديبٌ ، فَأَمّوا مَنزِلاً خَصيبا وجَنابا مَريعا ، فَاحتَمَلوا وَعثاءَ الطَّريقِ وفِراقَ الصَّديقِ ، وخُشونَةَ السَّفَرِ ، وجُشوبَةَ المَطعَمِ ؛ لِيَأتوا سَعَةَ دارِهِم ومَنزِلَ قَرارِهِم ، فَلَيسَ يَجِدونَ لِشَيءٍ مِن ذلِكَ ألَما ، ولا يَرَونَ نَفَقَةً مَغرَما ، ولا شَيءَ أحَبُّ إلَيهِم مِمّا قَرَّبَهُم مِن مَنزِلِهِم ، وأدناهُم مِن مَحَلِّهِم .
ومَثَلُ مَنِ اغتَرَّ بِها كَمَثَلِ قَومٍ كانوا بِمَنزِلٍ خَصيبٍ فَنَبا بِهِم إلى مَنزِلٍ جَديبٍ ، فَلَيسَ شَيءٌ أكرَهَ إلَيهِم ولا أفظَعَ عِندَهُم مِن مُفارَقَةِ ما كانوا فيه إلى ما يَهجُمونَ عَلَيهِ ويَصيرونَ إلَيهِ .
يا بُنَيَّ ، اجعَل نَفسَكَ ميزانا فيما بَينَكَ وبَينَ غَيرِكَ ، فَأَحبِب لِغَيرِكَ ما تُحِبُّ لِنَفسِكَ ، وَاكرَه لَهُ ما تَكرَهُ لَها ، ولا تَظلِم كَما لا تُحِبُّ أن تُظلَمَ ، وأحسِن كَما تُحِبُّ أن يُحسَنَ إلَيكَ ، وَاستَقبِح مِن نَفسِكَ ما تَستَقبِحُ مِن غَيرِكَ ، وَارضَ مِنَ النّاسِ بِما تَرضاه


موسوعة الإمام عليّ بن أبي طالب (ع) في الكتاب و السُّنَّة و التّاريخ ج 3
534

عَلى ما فَرَضَهُ اللّهُ عَلَيكَ ، وَالأَخذُ بِما مَضى عَلَيهِ الأَوَّلونَ مِن آبائِكَ ، وَالصّالِحونَ مِن أهلِ بَيتِكَ ، فَإِنَّهُم لَم يَدَعوا أن نَظَروا لِأَنفُسِهِم كَما أنتَ ناظِرٌ ، وفَكَّروا كَما أنتَ مُفَكِّرٌ ، ثُمَّ رَدَّهُم آخِرُ ذلِكَ إلى الأَخذِ بِما عَرَفوا وَالإِمساكِ عَمّا لَم يُكَلَّفوا ، فَإِن أبَت نَفسُكَ أن تَقبَلَ ذلِكَ دونَ أن تَعلَمَ كَما عَلِموا فَليَكُن طَلَبُكَ ذلِكَ بِتَفَهُّمٍ وتَعَلُّمٍ ، لا بِتَوَرُّطِ الشُّبُهاتِ وغُلُوِّ الخُصوماتِ ۱ . وَابدَأ قَبلَ نَظَرِكَ في ذلِكَ بِالاِستِعانَةِ بِإلهِكَ وَالرَّغبَةِ إلَيهِ في تَوفيقِكَ ، وتَركِ كُلِّ شائِبَةٍ أولَجَتكَ في شُبهَةٍ ، أو أسلَمَتكَ إلى ضَلالَةٍ . فَإِذا أيقَنتَ أن قَد صَفا قَلبُكَ فَخَشَعَ ، وتَمَّ رَأيُكَ فَاجتَمَعَ ، وكانَ هَمُّكَ في ذلِكَ هَمّا واحِدا فَانظُر فيما فَسَّرتُ لَكَ ، وإن أنتَ لَم يَجتَمِع لَكَ ما تُحِبُّ مِن نَفسِكَ ، وفَراغِ نَظَرِكَ وفِكرِكَ ، فَاعلَم أنَّكَ إنَّما تَخبِطُ العَشواءَ ۲ ، وتَوَرَّطُ الظَّلماءَ . ولَيسَ طالِبُ الدّينِ مَن خَبَطَ أو خَلَطَ ، وَالإِمساكُ عَن ذلِكَ أمثَلُ .
فَتَفَهَّم يا بُنَيَّ وَصِيَّتي ، وَاعلَم أنَّ مالِكَ المَوتِ هُوَ مالِكُ الحَياةِ ، وأنَّ الخالِقَ هُو المُميتُ ، وأنَّ المُفنِيَ هُوَ المُعيدُ ، وأنَّ المُبتَلِيَ هُوَ المُعافي ، وأنَّ الدُّنيا لَم تَكُن لِتَستَقِرَّ إلّا عَلى ما جَعَلَهَا اللّهُ عَلَيهِ مِنَ النَّعماءِ ، وَالاِبتلاءِ ، وَالجَزاءِ فِي المَعادِ أو ما شاءَ مِمّا لا نَعلَمُ ، فَإِن أشكَلَ عَلَيكَ شَيءٌ مِن ذلِكَ فَاحمِلهُ عَلى جَهالَتِكَ بِهِ ، فَإِنَّكَ أوَّلُ ما خُلِقتَ خُلِقتَ جاهِلاً ثُمَّ عُلِّمتَ . وما أكثَرَ ما تَجهَلُ مِنَ الأَمرِ ويَتَحَيَّرُ فيهِ رَأيُكَ ، ويَضِلُّ فيهِ بَصَرُكَ ! ثُمَّ تُبصِرُهُ بَعدَ ذلِكَ ، فَاعتَصِم بِالَّذي خَلَقَكَ ورَزَقَكَ وسَوّاكَ ، وَليَكُن لَهُ تَعَبُّدُكَ وإلَيهِ رَغبَتُكَ ومِنهُ شَفَقَتُكَ .
وَاعلَم يا بُنَيَّ أنّ أحَدا لَم يُنبِئ عَنِ اللّهِ كَما أنبَأَ عَنهُ الرَّسولُ صلى الله عليه و آله فَارضَ بِهِ رائِدا ،

1.في نهج البلاغة وتحف العقول : «يُحلَقِ الخصومات» ، وفي بحار الأنوار : ج۱ ص۲۲۳ ح۱۲ و ج۷۷ ص۲۰۲ و ص۲۱۹ ووسائل الشيعة : ج۲۷ ص۱۷۰ ح۵۴ : «علوّ الخصومات» .

2.عَشَا عن الشيء : ضعفَ بصرُه عنه . وخبَطَه خبطَ عشواء : لم يتعمّده (لسان العرب : ج۱۵ ص۵۷) .

  • نام منبع :
    موسوعة الإمام عليّ بن أبي طالب (ع) في الكتاب و السُّنَّة و التّاريخ ج 3
    سایر پدیدآورندگان :
    طباطبایی، محمد کاظم؛ طباطبایی نژاد، محمود
    تعداد جلد :
    7
    ناشر :
    دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1385
    نوبت چاپ :
    دوم
تعداد بازدید : 101169
صفحه از 670
پرینت  ارسال به