حَسَنَتَكَ عَشرا ، وفَتَحَ لَكَ بابَ المَتابِ . فَإِذا نادَيتَهُ سَمِعَ نِداءَكَ ، وإذا ناجَيتَهُ عَلِمَ نَجواكَ ، فَأَفضَيتَ إلَيهِ بِحاجَتِكَ ، وأبثَثتَهُ ذاتَ نَفسِكَ ، وشَكَوتَ إلَيهِ هُمومَكَ ، وَاستَكشَفتَهُ كُروبَكَ ، وَاستَعَنتَهُ عَلى اُمورِكَ ، وسَأَلتَهُ مِن خَزائِنِ رَحمَتِهِ ما لا يَقدِرُ عَلى إعطائِهِ غَيرُهُ مِن زِيادَةِ الأَعمارِ وصِحَّةِ الأَبدانِ وسَعَةِ الأَرزاقِ . ثُمَّ جَعَلَ في يَدَيكَ مَفاتيحَ خَزائِنِهِ بِما أذِنَ لَكَ مِن مَسأَلَتِهِ ، فَمَتى شِئتَ استَفتَحتَ بِالدُّعاءِ أبوابَ نِعمَتِهِ ، وَاستَمطَرتَ شَآبيبَ ۱ رَحمَتِهِ . فَلا يُقَنِّطَنَّكَ إبطاءُ إجابَتِهِ ، فَإِنَّ العَطِيَّةَ عَلى قَدرِ النِّيَّةِ . ورُبَّما اُخِّرَت عَنكَ الإِجابَةُ لِيَكونَ ذلِكَ أعظَمَ لِأَجرِ السّائِلِ وأجزَلَ لِعَطاءِ الآمِلِ . ورُبَّما سَأَلتَ الشَّيءَ فَلا تُؤتاهُ واُوتيتَ خَيرا مِنهُ عاجِلاً أو آجِلاً ، أو صُرِفُ عَنكَ لِما هُوَ خَيرٌ لَكَ . فَلَرُبَّ أمرٍ قَد طَلَبتَهُ فيهِ هَلاكُ دينِكَ لَو اُوتيتَهُ . فَلتَكُن مَسأَلَتُكَ فيما يَبقى لَكَ جَمالُهُ ويُنفى عَنكَ وَبالُهُ ، فَالمالُ لا يَبقى لَكَ ولا تَبقى لَهُ .
وَاعلَم أنَّكَ إنَّما خُلِقتَ لِلآخِرَةِ لا لِلدُّنيا ، ولِلفَناءِ لا لِلبَقاءِ ، ولِلمَوتِ لا لِلحَياةِ ، وأنَّكَ في مَنزِلِ قُلعَةٍ ۲ ودارِ بُلغَةٍ ۳ وطِريقٍ إلَى الآخِرَةِ ، وأنَّكَ طَريدُ المَوتِ الَّذي لا يَنجو مِنهُ هارِبُهُ ، ولابُدَّ أنَّهُ مُدرِكُهُ ، فَكُن مِنهُ عَلى حَذَرٍ أن يُدرِكَكَ وأنتَ عَلى حالٍ سَيِّئَةٍ ، قَد كُنتَ تُحَدِّثُ نَفَسَك مِنها بِالتَّوبَةِ فَيَحولَ بَينَكَ وبَينَ ذلِكَ ، فَإِذا أنتَ قَد أهلَكتَ نَفسَكَ .
يا بُنَيَّ ، أكثِر مِن ذِكرِ المَوتِ ، وذِكرِ ما تَهجُمُ عَلَيهِ ، وتُفضي بَعدَ المَوتِ إلَيهِ ، حَتّى يَأتِيَكَ وقَد أخَذتَ مِنهُ حِذرَكَ ، وشَدَدتُ لَهُ أزرَكَ ، ولا يَأتِيَكَ بَغتَةً فَيَبهَرَكَ . وإيّاكَ أن تَغتَرَّ بِما تَرى مِن إخلادِ أهلِ الدُّنيا إلَيها ، وتَكالُبِهِم عَلَيها ، فَقَد نَبَّأَكَ اللّهُ عَنها ، ونَعَت لَكَ نَفسَها ، وتَكَشَّفَت لَكَ عَن مَساويها ، فَإِنَّما أهلُها كِلابٌ عاوِيَةٌ ،
1.شآبيب : جمع شُؤبُوبٍ ، وهو الدُّفْعةُ من المطَر وغيره (النهاية : ج۲ ص۴۳۶) .
2.قُلعة : أي تَحَوُّل وارتحال (النهاية : ج۴ ص۱۰۲) .
3.بُلْغةٌ : كِفايةٌ (لسان العرب : ج۸ ص۴۱۹) .