201
موسوعة الإمام عليّ بن أبي طالب (ع) في الكتاب و السُّنَّة و التّاريخ ج 4

يطيق سماع تحليله المتوجّع للوضع القائم ـ تراه أخذ بيده ، وصار به إلى الصحراء ، وبالحزن الممزوج بالألم أشار إليه أنّه لا يستطيع أن يتحدّث بهذا الكلام لكلّ أحد ؛ لعدم قدرة الجميع على تحمّله ، وأنّه كلما حظي الإنسان بقاعدة فكريّة أكبر واُفق معنوي أوسع ، كان ذا قيمة أكثر ، ثمّ بعد ذلك حدّثه بسرّ انفضاض الناس عن نهجه ، وانكفائهم عنه ، وتنكّبهم عن برنامجه الإصلاحي ، حيث ذكر له أنّ المشكلة الأساسيّة في ذلك تعود إلى جهل الناس ، واتّباعهم الأعمى للخواصّ ممن هو خائن أو جاهل .

صراحة أكثر في بيان الانحراف

تناول الإمام في حديث خاصّ مشكلاته مع الناس بصراحة أكثر ، ففي هذا الحديث ـ الذي أدلى به الإمام إلى عائلته وعدد من خواصّه ـ أوضح أين تكمن جذور الفتنة ، ولماذا ابتلي المجتمع الإسلامي بالفرقة والاختلاف على عهده ، ولماذا لم يستطِع تنفيذ برنامجه لإصلاح المجتمع وإعادته إلى سيرة النبي صلى الله عليه و آله وسنّته ، وأخيراً لماذا لم ينهض الجمهور لتأييد سياسته والدفاع عنها .
لقد بدأ أمير المؤمنين عليه السلام كلامه ـ في المجلس المذكور ـ بالحديث النبوي التالي : «ألا إنَّ أخوَفَ ما أخافُ عَلَيكُم خُلَّتانِ : اتِّباعُ الهَوى ، وطولُ الأَمَلِ» . ۱
وهكذا تتبدّل الأهواء والأنانيات إلى بدعٍ ضدّ الدين ، لكنّها متلبّسة بدثار

1. ثم أوضح أنّ الفتن السياسيّة التي دفعت المجتمع الإسلامي إلى الفرقة والاختلاف ، وأدّت به إلى الانقسام والتوزّع إلى ولاءات وخطوط مختلفة ، إنّما تكمن جذورها في المفاسد الأخلاقيّة ، والأثرة ، وضروب البدع والأهواء . وفي هذا يفيد النصّ العلوي : «إنَّما بَدءُ وُقوعِ الفِتَنِ أهواءٌ تُتَّبَعُ ، وأحكامٌ تُبتَدَعُ يُخالَفُ فيها حُكمُ اللّهِ ، يَتَوَلّى فيها رِجالٌ رِجالاً» . . راجع الكافي : ج ۸ ص ۵۸ ح ۲۱ .


موسوعة الإمام عليّ بن أبي طالب (ع) في الكتاب و السُّنَّة و التّاريخ ج 4
200

نجاة» .
أمّا القسم الثالث فلا هو بالذي يعرف الطريق الصحيح للحياة ، ولا هو يبذل سعيه في سبيل معرفته ، بل يتمثّل معياره في اتّخاذ القرار واختيار النهج الذي يسلكه بالتقليد الأعمى للخواصّ ، واتّباع الشخصيّات دون بصيرة ، وهؤلاء هم «الهمج الرعاع» .
إنّ معنى «الهمج» هو الذباب الصغير الذي يحطّ على وجه الغنم أو الحمير ، و«الرعاع» بمعنى الأحمق والتافه الذي لا قيمة له . فشبّه التحليل العلوي أولئك الذين لا يعرفون طريق الحياة الصحيح ، ولا يسمحون لأنفسهم بالتفكير به ، بل غاية حظّهم اتّباع الآخرين اتّباعاً أعمى ، شبّههم بالذباب ؛ إذ هم يحيطون بجاهلٍ أكبر منهم يستمدّون منه ، وهو يغذوهم!
إنّ أمثال هؤلاء لا يتمتّعون بقاعدة فكريّة وعقيديّة متينة ، وهم يتّبعون الغيرمن دون تفحّص لكونه حقّا أو باطلاً ، بل يتّبعونه لمحض كونه رئيس قبيلة ، أو قائد حزب ، أو شخصيّة تحظى بالاحترام بالنسبة إليهم ، فهم كالذباب تماماً ؛ كلّما تحرّكت الريح من جانب تحرّك معها .
والذي يبعث على ألم الإمام وتوجّعه أنّ أغلب من يعاصره من الناس كان من القسم الثالث . فقد كان عليٌّ يعيش وسط جمهور ليس من أهل المعرفة والتشخيص ، ولا هو ممن يتحرّى المعرفة ويتحرّك في مسار البحث والتحقيق . بيد أن الأمضّ على الإمام في ذلك كلّه أنّه عليه السلام قلّما كان يعثر على من يباثّه همومه ، ويتحدّث إليه بمثل هذه المصائب الاجتماعيّة .
أجل ، لم يكن مع عليّ من يستطيع أن يُفصح له بحقيقة من يعيش معهم ، وعلامَ يمارس حكمه . وعندما أراد مرّة أن يُفصح بخبيئة نفسه لكميل بن زياد ـ وهو من خواصّه وممّن

  • نام منبع :
    موسوعة الإمام عليّ بن أبي طالب (ع) في الكتاب و السُّنَّة و التّاريخ ج 4
    سایر پدیدآورندگان :
    طباطبایی، محمد کاظم؛ طباطبایی نژاد، محمود
    تعداد جلد :
    7
    ناشر :
    دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1385
    نوبت چاپ :
    دوم
تعداد بازدید : 101612
صفحه از 684
پرینت  ارسال به