553
موسوعة الإمام عليّ بن أبي طالب (ع) في الكتاب و السُّنَّة و التّاريخ ج 4

ثُمَّ أتانِيَ القَومُ وأنَا ـ عَلِمَ اللّهُ ـ كارِهٌ ؛ لِمَعرِفَتي بِما تَطاعَموا بِهِ مِنِ اعتِقالِ الأَموالِ ، وَالمَرَحِ فِي الأَرضِ ، وعِلمِهِم بِأَنَّ تِلكَ لَيسَت لَهُم عِندي ، وشَديدٌ عادَةٌ مُنتَزِعَةٌ ، فَلَمّا لَم يَجِدوا عِندي تَعَلَّلُوا الأَعاليلَ . ثُمَّ التَفَتَ عليه السلام إلى أصحابِهِ فَقالَ : أ لَيسَ كَذلِكَ ؟ فَقالوا : بَلى يا أميرَ المُؤمِنينَ .
فَقالَ عليه السلام : وأمَّا الخامِسَةُ يا أخَا اليَهودِ ، فَإنَّ المُتابِعينَ لي لَمّا لَم يَطمَعوا في تِلكَ مِنّي وَثَبوا بِالمَرأَةِ عَلَيَّ وأنَا وَلِيُّ أمرِها ، وَالوَصِيُّ عَلَيها ، فَحَمَلوها عَلَى الجَمَلِ ، وشَدّوها عَلَى الرِّحالِ ، وأقبَلوا بِها تَخبِطُ الفَيافِيَ ۱ ، وتَقطَعُ البَرارِيَ ، وتَنبَحُ عَلَيها كِلابُ الحَوأَبِ ، وتُظهِرُ لَهُم عَلاماتِ النَّدَمِ في كُلِّ ساعَةٍ وعِندَ كُلِّ حالٍ ، في عُصبَةٍ قَد بايَعوني ثانِيَةً بَعدَ بَيعَتِهِمُ الاُولى في حَياةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله ، حَتّى أتَت أهلَ بَلدَةٍ قَصيرَةٍ أيديهِم ، طَويلَةٍ لِحاهُم ، قَليلَةٍ عُقولُهُم ، عازِبَةٍ آراؤُهُم ، وهُم جيرانُ بَدوٍ ، ووُرّادُ بَحرٍ ، فَأَخرَجَتهم يَخبِطونَ بِسُيوفِهِم مِن غَيرِ عِلمٍ ، ويَرمونَ بِسِهامِهِم بِغَيرِ فَهمٍ .
فَوَقَفتُ مِن أمرِهِم عَلَى اثنَتَينِ كِلتاهُما في مَحَلَّةِ المَكروهِ ؛ مِمَّن إن كَفَفتُ لَم يَرجِع ولمَ يَعقِل ، وإن أقَمتُ كُنتُ قَد صِرتُ إلَى الَّتي كَرِهتُ ، فَقَدَّمتُ الحُجَّةَ بِالإِعذارِ وَالإِنذارِ ، ودَعَوتُ المَرأَةَ إلَى الرُّجوعِ إلى بَيتِها ، وَالقَومَ الَّذينَ حَمَلوها عَلَى الوَفاءِ بِبَيعَتِهِم لي ، وَالتَّركِ لِنَقضِهِم عَهدَ اللّهِ عَزَّ وجَلَّ فِيَّ ، وأعطَيتُهُم مِن نَفسي كُلَّ الَّذي قَدَرتُ عَلَيهِ ، وناظَرتُ بَعضَهُم فَرَجَعَ ، وذَكَّرتُ فَذَكَرَ .
ثُمَّ أقبَلتُ عَلَى النّاسِ بِمِثلِ ذلِكَ فَلَم يَزدادوا إلّا جَهلاً وتَمادِياً وغَيّاً ، فَلَمّا أبَوا إلّا هِيَ ، رَكِبتُها مِنهُم ، فَكانَت عَلَيهِمُ الدَّبرَةُ ۲ ، وبِهِمُ الهَزيمَةُ ، ولَهُمُ الحَسرَةُ ، وفيهِمُ الفَناءُ وَالقَتلُ . وحَمَلتُ نَفسي عَلَى الَّتي لَم أجِد مِنها بُدّاً ، ولَم يَسَعني إذ فَعَلتُ ذلِك

1.الفيافي : البراري الواسعة ، جمع فيفاء (النهاية : ج۳ ص۴۸۵) .

2.الدَّبْرَة : نقيض الدولة ، والعاقبة ، والهزيمة في القتال (القاموس المحيط : ج۲ ص۲۶) .


موسوعة الإمام عليّ بن أبي طالب (ع) في الكتاب و السُّنَّة و التّاريخ ج 4
552

وسائِرَ أصحابِ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله عامَّةً يَستَقيلُهُم مِن بَيعَتِهِ ، ويَتوبُ إلَى اللّهِ مِن فَلتَتِهِ ، فَكانَت هذِهِ ـ يا أخَا اليَهودِ ـ أكبَرَ مِن اُختِها ، وأفظَعَ وأحرى أن لا يُصبَرَ عَلَيها ، فَنالَني مِنهَا الَّذي لا يُبلَغُ وَصفُهُ ، ولا يُحَدُّ وَقتُهُ ، ولَم يَكُن عِندي فيها إلَا الصَّبرُ عَلى ما أمَضُّ وأبلَغُ مِنها .
ولَقَد أتانِيَ الباقونَ مِنَ السِّتَّةِ مِن يَومِهِم كُلٌّ راجِعٌ عَمّا كانَ رَكِبَ مِنّي يَسأَلُني خَلعَ ابنِ عَفّانَ ، وَالوُثوبَ عَلَيهِ ، وأخذَ حَقّي ، ويُؤتيني صَفقَتَهُ وبَيعَتَهُ عَلَى المَوتِ تَحتَ رايَتي ، أو يَرُدَّ اللّهُ عَزَّ وجَلَّ عَلَيَّ حَقّي . فَوَاللّهِ ـ يا أخَا اليَهودِ ـ ما مَنَعَني مِنها إلَا الَّذي مَنَعَني مِن اُختَيها قَبلَها ، ورَأَيتُ الإِبقاءَ عَلى مَن بَقِيَ مِنَ الطّائِفَةِ أبهَجَ لي وآنَسَ لِقَلبي مِن فَنائِها ، وعَلِمتُ أنّي إن حَمَلتُها عَلى دَعوَةِ المَوتِ رَكِبتُهُ .
فَأَمّا نَفسي فَقَد عَلِمَ مَن حَضَرَ مِمَّن تَرى ومَن غابَ مِن أصحابِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله أنَّ الموتَ عِندي بِمَنزِلَةِ الشَّربَةِ البارِدَةِ فِي اليَومِ الشَّديدِ الحَرِّ مِن ذِي العَطَشِ الصَّدى ۱ ، ولَقَد كُنتُ عاهَدتُ اللّهَ عَزَّ وجَلَّ ورَسولَهُ صلى الله عليه و آله أنَا وعَمّي حَمزَةُ وأخي جَعفَرٌ وَابنُ عَمّي عُبَيدَةُ عَلى أمرٍ وَفَينا بِهِ للّهِِ عَزَّ وجَلَّ ولِرَسولِهِ ، فَتَقَدَّمَني أصحابي وتَخَلَّفتُ بَعدَهُم لِما أرادَ اللّهُ عَزَّ وجَلَّ ، فَأَنزَلَ اللّهُ فينا : «مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَـهَدُواْ اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَ مِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَ مَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً »۲ حَمزَةُ وجَعفَرٌ وعُبَيدَةُ ، وأنَا وَاللّهِ المُنتَظِرُ ـ يا أخَا اليَهودِ ـ وما بَدَّلتُ تَبديلاً ، وما سَكَّتَني عَنِ ابنِ عَفّانَ وحَثَّني عَلَى الإِمساكِ عَنهُ إلّا أنّي عَرفتُ مِن أخلاقِهِ فيمَا اختَبَرتُ مِنهُ بِما لَن يَدَعَهُ حَتّى يَستَدعِيَ الأَباعِدَ إلى قَتلِهِ وخَلعِهِ ، فَضلاً عَنِ الأَقارِبِ ، وأنَا في عُزلَةٍ ، فَصَبَرتُ حَتّى كانَ ذلِكَ ، لَم أنطِق فيهِ بِحَرفٍ مِن «لا» ولا «نَعَم» .

1.الصدى : العطش الشديد (لسان العرب : ج۱۴ ص۴۵۵) .

2.الأحزاب : ۲۳ .

  • نام منبع :
    موسوعة الإمام عليّ بن أبي طالب (ع) في الكتاب و السُّنَّة و التّاريخ ج 4
    سایر پدیدآورندگان :
    طباطبایی، محمد کاظم؛ طباطبایی نژاد، محمود
    تعداد جلد :
    7
    ناشر :
    دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1385
    نوبت چاپ :
    دوم
تعداد بازدید : 116026
صفحه از 684
پرینت  ارسال به