وأجناسِها ، ومُتَبَلِّدَةِ اُمَمِها وأكياسها ، عَلى إحداثِ بَعوضَةٍ ما قَدَرَت عَلى إحداثِها ، ولا عَرَفَت كَيفَ السَّبيلُ إلى إيجادِها ، ولَتَحَيَّرَت عُقولُها في عِلمِ ذلِكَ وتاهَت ، وعَجَزَت قُواها وتَناهَت ، ورَجَعَت خاسِئَةً حَسيرَةً ، عارِفَةً بِأَنَّها مَقهورَةٌ ، مُقِرَّةً بِالعَجزِ عَن إنشائِها ، مُذعِنَةً بِالضَّعفِ عَن إفنائِها !
وإنَّ اللّهَ سُبحانَهُ يَعودُ بَعدَ فَناءِ الدُّنيا وَحدَهُ لا شَيءَ مَعَهُ . كَما كانَ قَبلَ ابتِدائِها كَذلِكَ يَكونُ بَعدَ فَنائِها ، بِلا وَقتٍ ولا مَكانٍ ، ولا حينٍ ولا زَمانٍ . عُدِمَت عِندَ ذلِكَ الآجالُ وَالأَوقاتُ ، وزالَتِ السِّنونَ وَالسّاعاتُ ، فَلا شَيءَ إلّا اللّهُ الواحِدُ القَهّارُ الَّذي إلَيهِ مَصيرُ جَميعِ الاُمورِ . بِلا قُدرَةٍ مِنها كانَ ابتِداءُ خَلقِها ، وبِغَيرِ امتِناعٍ مِنها كانَ فَناؤُها ، ولَو قَدَرَت عَلَى الِامتِناعِ لَدامَ بَقاؤُها .
لَم يَتَكاءَدهُ ۱ صُنعُ شَيءٍ مِنها إذ صَنَعَهُ ، ولمَ يَؤُدهُ مِنها خَلقُ ما خَلَقَهُ وبَرَأَهُ ، ولَم يُكَوِّنها لِتَشديدِ سُلطانٍ ، ولا لِخَوفٍ مِن زَوالٍ ونُقصانٍ ، ولا لِلِاستِعانَةِ بِها عَلى نِدٍّ مُكاثِرٍ ، ولا لِلِاحتِرازِ بِها مِن ضِدٍّ مُثاوِرٍ ، ولا لِلِازدِيادِ بِها في مُلكِهِ ، ولا لِمُكاثَرَةِ شَريكٍ في شِركِهِ ، ولا لِوَحشَةٍ كانَت مِنهُ ؛ فَأَرادَ أن يَستَأنِسَ إلَيها .
ثُمَّ هُوَ يُفنيها بَعدَ تَكوينِها ، لا لِسَأَمٍ دَخَلَ عَلَيهِ في تَصريفِها وتَدبيرِها ، ولا لِراحَةٍ واصِلَةٍ إلَيهِ ، ولا لثِقَلِ شَيءٍ مِنها عَلَيهِ . لا يُمِلُّهُ طولُ بَقائِها فَيَدعُوَهُ إلى سُرعَةِ إفنائِها ، ولكِنَّهُ سُبحانَهُ دَبَّرَها بِلُطفِهِ ، وأمسَكَها بِأَمرِهِ ، وأتقَنَها بِقُدرَتِهِ ، ثُمَّ يُعيدُها بَعدَ الفَناءِ مِن غَيرِ حاجَةٍ مِنهُ إلَيها ، ولَا استِعانَةٍ بِشَيءٍ مِنها عَلَيها ، ولا لِانصِرافٍ مِن حالِ وَحشَةٍ إلى حالِ استِئناسٍ ، ولا مِن حالِ جَهلٍ وعَمىً إلى حالِ عِلمٍ وَالتِماسٍ ، ولا مِن فَقرٍ وحاجَةٍ إلى غِنىً وكَثرَةٍ ، ولا مِن ذُلٍّ وضَعَةٍ إلى عِزٍّ وقُدرَةٍ ۲ .