فَلَم تَكُن لَهُم هذِهِ العِبارَةِ ولا قَدَروا عَلى هذِهِ الفَصاحَةِ ، فَثَبَتَ أنَّ هذِهِ الاُمورَ الدَّقيقَةَ في مِثلِ هذِهِ العِبارَةِ الفَصيحَةِ لَم تَحصُل إلّا لِعَلِيٍّ وَحدَهُ ، واُقسِمُ أنَّ هذَا الكَلامَ إذا تَأَمَّلَهُ اللَّبيبُ اقشَعَرَّ جِلدُهُ ورَجَفَ قَلبُهُ ، وَاستَشعَرَ عَظَمَةَ اللّهِ العَظيمِ في رَوعِهِ وخَلَدِهِ وهامَ نَحوَهُ وغَلَبَ الوَجدُ عَلَيهِ ، وكادَ أن يَخرُجَ مِن مَسكِهِ شَوقا وأن يُفارِقَ هَيكَلَهُ صَبابةً ووَجدا ۱ .
وقال أيضا في ذيل الخطبة 109 : هذا مَوضِعُ المَثَلِ : «في كُلِّ شَجَرَةٍ نارٌ ، وَاستَمجَدَ المَرخُ وَالعَفارُ ۲
» الخُطَبُ الوَعظِيَّةُ الحِسانُ كَثيرَةٌ، ولكِن هذا حَديثٌ يَأكُلُ الأَحاديثَ :
مَحاسِنُ أصنافِ المُغَنّين جُمَّةٌ
وما قَصَباتُ السَّبقِ إلّا لِمَعبَدِ
مَن أرادَ أن يَتَعَلَّمَ الفَصاحَةَ وَالبَلاغَةَ ويَعرِفَ فَضلَ الكَلامِ بَعضَهُ عَلى بَعضٍ فَليَتَأَمَّل هذِهِ الخُطبَةَ ، فَإِنَّ نِسبَتَها إلى كُلِّ فَصيحٍ مِنَ الكَلامِ ـ عَدا كَلامَ اللّهِ ورسولِهِ ـ نِسبَةُ الكَواكِبِ المُنيرَةِ الفَلَكِيَّةِ إلَى الحِجارَةِ المُظلِمَةِ الأَرضِيَّةِ ، ثُمَّ ليَنظُرِ النّاظِرُ إلى ما عَلَيها مِنَ البَهاءِ وَالجَلالَةِ وَالرُّواءِ وَالدّيباجَةِ ، وما تُحدِثُهُ مِنَ الرَّوعَةِ وَالرَّهبَةِ وَالمَخافَةِ وَالخَشيَةِ ، حَتّى لَو تُلِيَت عَلى زِنديقٍ مُلحِدٍ مُصَمَّمٍ عَلَى اعتِقادِ نَفيِ البَعثِ وَالنُّشورِ ؛ لَهَدَّت قُواهُ وأرعَبَت قَلبَهُ وأضعَفَت عَلى نَفسِهِ وزَلزَلَتِ اعتِقادَهُ ، فَجَزَى اللّهُ قائِلَها عَنِ الإِسلامِ أفضَلَ ما جَزى بِهِ وَلِيّا مِن أولِيائِهِ ، فَما أبلَغَ نُصرَتَهُ لَهُ تارَةً بِيَدِهِ وسَيفِهِ وتارَةً بِلِسانِهِ ونُطقِهِ وتارَةً بِقَلبِهِ وفِكرِهِ ، إن قيلَ : جِهادٌ وحَربٌ فَهُوَ سَيِّدُ المُجاهِدينَ وَالمُحارِبينَ ، وإن قيلَ : وَعظٌ وتَذكيرٌ فَهُوَ أبلَغُ الواعِظينَ وَالمُذَكِّرينَ ، وإن قيلَ : فِقهٌ وتَفسيرٌ فَهُوَ رَئيسُ الفُقَهاءِ والمُفَسِّرينَ ، وإن قيلَ : عَدلٌ وتَوحيدٌ فَهُوَ إمام