261
موسوعة الإمام عليّ بن أبي طالب (ع) في الكتاب و السُّنَّة و التّاريخ ج 6

فَلَم تَكُن لَهُم هذِهِ العِبارَةِ ولا قَدَروا عَلى هذِهِ الفَصاحَةِ ، فَثَبَتَ أنَّ هذِهِ الاُمورَ الدَّقيقَةَ في مِثلِ هذِهِ العِبارَةِ الفَصيحَةِ لَم تَحصُل إلّا لِعَلِيٍّ وَحدَهُ ، واُقسِمُ أنَّ هذَا الكَلامَ إذا تَأَمَّلَهُ اللَّبيبُ اقشَعَرَّ جِلدُهُ ورَجَفَ قَلبُهُ ، وَاستَشعَرَ عَظَمَةَ اللّهِ العَظيمِ في رَوعِهِ وخَلَدِهِ وهامَ نَحوَهُ وغَلَبَ الوَجدُ عَلَيهِ ، وكادَ أن يَخرُجَ مِن مَسكِهِ شَوقا وأن يُفارِقَ هَيكَلَهُ صَبابةً ووَجدا ۱ .
وقال أيضا في ذيل الخطبة 109 : هذا مَوضِعُ المَثَلِ : «في كُلِّ شَجَرَةٍ نارٌ ، وَاستَمجَدَ المَرخُ وَالعَفارُ ۲
» الخُطَبُ الوَعظِيَّةُ الحِسانُ كَثيرَةٌ، ولكِن هذا حَديثٌ يَأكُلُ الأَحاديثَ :

مَحاسِنُ أصنافِ المُغَنّين جُمَّةٌ
وما قَصَباتُ السَّبقِ إلّا لِمَعبَدِ

مَن أرادَ أن يَتَعَلَّمَ الفَصاحَةَ وَالبَلاغَةَ ويَعرِفَ فَضلَ الكَلامِ بَعضَهُ عَلى بَعضٍ فَليَتَأَمَّل هذِهِ الخُطبَةَ ، فَإِنَّ نِسبَتَها إلى كُلِّ فَصيحٍ مِنَ الكَلامِ ـ عَدا كَلامَ اللّهِ ورسولِهِ ـ نِسبَةُ الكَواكِبِ المُنيرَةِ الفَلَكِيَّةِ إلَى الحِجارَةِ المُظلِمَةِ الأَرضِيَّةِ ، ثُمَّ ليَنظُرِ النّاظِرُ إلى ما عَلَيها مِنَ البَهاءِ وَالجَلالَةِ وَالرُّواءِ وَالدّيباجَةِ ، وما تُحدِثُهُ مِنَ الرَّوعَةِ وَالرَّهبَةِ وَالمَخافَةِ وَالخَشيَةِ ، حَتّى لَو تُلِيَت عَلى زِنديقٍ مُلحِدٍ مُصَمَّمٍ عَلَى اعتِقادِ نَفيِ البَعثِ وَالنُّشورِ ؛ لَهَدَّت قُواهُ وأرعَبَت قَلبَهُ وأضعَفَت عَلى نَفسِهِ وزَلزَلَتِ اعتِقادَهُ ، فَجَزَى اللّهُ قائِلَها عَنِ الإِسلامِ أفضَلَ ما جَزى بِهِ وَلِيّا مِن أولِيائِهِ ، فَما أبلَغَ نُصرَتَهُ لَهُ تارَةً بِيَدِهِ وسَيفِهِ وتارَةً بِلِسانِهِ ونُطقِهِ وتارَةً بِقَلبِهِ وفِكرِهِ ، إن قيلَ : جِهادٌ وحَربٌ فَهُوَ سَيِّدُ المُجاهِدينَ وَالمُحارِبينَ ، وإن قيلَ : وَعظٌ وتَذكيرٌ فَهُوَ أبلَغُ الواعِظينَ وَالمُذَكِّرينَ ، وإن قيلَ : فِقهٌ وتَفسيرٌ فَهُوَ رَئيسُ الفُقَهاءِ والمُفَسِّرينَ ، وإن قيلَ : عَدلٌ وتَوحيدٌ فَهُوَ إمام

1.شرح نهج البلاغة : ج۶ ص۴۲۵ .

2.المَرْخ: من شجر النار ، سريع الوَرْي ، والعَفار : شجر يُتّخذ منه الزناد (تاج العروس : ج۴ ص۳۱۱ و ج۷ ص۲۴۳) . قال الميداني : استمجد المرخُ والعَفار : أي استكثرا وأخذا من النار ما هو حسبهما يُضرب في تفضيل بعض الشيء على بعض (مجمع الأمثال : ج۲ ص۴۴۵) .


موسوعة الإمام عليّ بن أبي طالب (ع) في الكتاب و السُّنَّة و التّاريخ ج 6
260

ألِعَلِيٍّ تَقولُ هذا ؟ ! وهَل سَنَّ الفَصاحَةَ لِقُرَيشٍ غَيرُهُ ؟ !
وَاعلَم أنَّ تَكَلُّفَ الِاستِدلالِ عَلى أنَّ الشَّمسَ مُضيئَةٌ يُتعِبُ ، وصاحِبَهُ مَنسوبٌ إلَى السَّفَهِ ، ولَيسَ جاحِدُ الاُمورِ المَعلومَةِ عِلما ضَرورِيّا بِأَشَدَّ سَفها مِمَّن رامَ الِاستِدلالَ بِالأَدِلَّةِ النَّظَرِيَّةِ عَلَيها ۱ .
وقال أيضا في ذيل الخطبة 91 ـ الَّتي تُعرَفُ بِخُطبَةِ الأَشباحِ ـ : «إذا جاءَ نَهرُ اللّهِ بَطَلَ نَهرُ مَعقِلٍ» ! إذا جاءَ هذَا الكَلامُ الرَّبّانِيُّ واللَّفظُ القُدسِيُّ بَطَلَت فَصاحَةُ العَرَبِ وكانَت نِسبَةُ الفَصيحِ مِن كَلامِها إلَيهِ نِسبَةَ التُّرابِ إلَى النُّضارِ الخالِصِ ، ولَو فَرَضنا أنَّ العَرَبَ تَقدِرُ عَلَى الأَلفاظِ الفَصيحَةِ المُناسَبَةِ أوِ المُقارَبَةِ لِهذِهِ الأَلفاظِ ، مِن أينَ لَهُمُ المادَّةُ الَّتي عَبَّرت هذِهِ الأَلفاظُ عِنها ؟ ! ومِن أينَ تَعرِفُ الجاهِلِيَّةُ بَلِ الصَّحابَةُ المُعاصِرونَ لِرَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله هذِهِ المَعانِيَ الغامِضَةَ السَّمائِيَّةَ لِيَتَهَيَّأَ لَهَا التَّعبيرَ عَنها ؟ ! أمَّا الجاهِلِيَّةُ فَإِنَّهُم إنَّما كانَت تَظهَرُ فصاحَتُهُم في صِفَةِ بَعيرٍ أو فَرَسٍ أو حِمارِ وَحشٍ أو ثَورِ فَلاةٍ أو صِفَةِ جِبالٍ أو فَلَواتٍ ونَحوَ ذلِكَ .
وأمَّا الصَّحابَةُ فَالمَذكورونَ مِنهمُ بِفَصاحَةٍ إنَّما كانَ مُنتَهى فَصاحَةِ أحَدِهِم كَلِماتٍ لا تَتَجاوَزُ السَّطرَينِ أوِ الثَّلاثَةَ ؛ إمّا في مَوعِظَةٍ تَتَضَمَّنُ ذِكرَ المَوتِ أو ذَمَّ الدُّنيا أو ما يَتَعَلَّقُ بِحَربٍ وقِتالٍ من تَرغيبٍ أو تَرهيبٍ ، فَأَمَّا الكَلامُ فِي المَلائِكَةِ وصِفاتِها وصُوَرِها وعِباداتِها وتَسبيحِها ومَعرِفَتِها بِخالِقِها وحُبِّها لَهُ ووَلَهِها إلَيهِ ، وما جَرى مَجرى ذلِكَ مِمّا تَضَمَّنَهُ هذَا الفَصلُ عَلى طولِهِ فَإِنَّهُ لَم يَكُن مَعروفا عِندَهُم عَلى هذَا التَّفصيلُ ، نَعَم رُبَّما عَلِموهُ جُملَةً غَيرَ مُقَسَّمَةٍ هذَا التَّقسيمَ ولا مُرَتَّبَةً هذَا التَّرتيبَ بِما سَمِعوهُ مِن ذِكرِ المَلائِكَةِ فِي القُرآنِ العَظيمِ .
وأمّا مَن عِندَهُ عِلمٌ مِن هذِهِ المادَّةِ كَعَبدِ اللّهِ بنِ سَلامٍ واُمَيَّةَ بنِ أبِي الصَّلتِ وغَيرِهِم

1.شرح نهج البلاغة : ج۶ ص۲۷۷ .

  • نام منبع :
    موسوعة الإمام عليّ بن أبي طالب (ع) في الكتاب و السُّنَّة و التّاريخ ج 6
    سایر پدیدآورندگان :
    طباطبایی، محمد کاظم؛ طباطبایی نژاد، محمود
    تعداد جلد :
    7
    ناشر :
    دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1385
    نوبت چاپ :
    دوم
تعداد بازدید : 106586
صفحه از 496
پرینت  ارسال به