9 / 18
المَأمونُ العَبّاسِيُّ ۱
۳۹۸۴.عيون أخبار الرضا عليه السلام عن إسحاق بن حمّاد بن زيدـ في مُجادَلَةِ المَأمونِ المُخالِفينَ في إمامَةِ عَلِيٍّ عليه السلام وتَفضيلِهِ عَلى سائِرِ النّاسِ بَعدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله ـ: سَمِعنا ۲ يَحيَى بنَ أكثَمَ القاضِيَ قالَ : أمَرَنِي المَأمونُ بِإِحضارِ جَماعَةٍ مِن أهلِ الحَديثِ ، وجَماعَةٍ مِن أهلِ الكَلامِ وَالنَّظَرِ ، فَجَمَعتُ لَهُ مِنَ الصِّنفَينِ زُهاءَ أربَعينَ رَجُلاً ، ثُمَّ مَضَيتُ بِهِم ، فَأَمَرتُهُم بِالكَينونَةِ في مَجلِسِ الحاجِبِ لِاُعلِمَهُ بِمَكانِهِم ، فَفَعَلوا فَأَعلَمتُهُ ، فَأَمَرَني بِإِدخالِهِم ، فَدَخَلوا فَسَلَّموا فَحَدَّثَهُم ساعَةً وآنَسَهُم ، ثُمَّ قالَ :
إنّي اُريدُ أن أجعَلَكُم بَيني وبَينَ اللّهِ تَبارَكَ وتَعالى في يَومي هذا حُجَّةً ؛ فَمَن كانَ حاقِناً ۳ أو لَهُ حاجَةٌ فَليَقُم إلى قَضاءِ حاجَتِهِ ، وَانبَسِطوا وسُلّوا أخفافَكُم وضَعوا أردِيَتَكُم ، فَفَعَلوا ما اُمِروا بِهِ ، فَقالَ :
يا أيُّهَا القَومُ! إنَّمَا استَحضَرتُكُم لِأَحتَجَّ بِكُم عِندَ اللّهِ تَعالى ، فَاتَّقُوا اللّهَ وَانظُروا لِأَنفُسِكُم وإمامِكُم ، ولا يَمنَعكُم جَلالَتي ومَكاني مِن قَولِ الحَقِّ حَيثُ كانَ ، ورَدِّ الباطِلِ على مَن أتى بِهِ ، وأشفِقوا عَلى أنفُسِكُم مِنَ النّارِ ، وتَقَرَّبوا إلَى اللّهِ تَعالى بِرِضوانِهِ ، وإيثارِ طاعَتِهِ ؛ فَما أحَدٌ تَقَرَّبَ إلى مَخلوقٍ بِمَعصِيَةِ الخالِقِ إلّا سَلَّطَهُ اللّهُ عَلَيهِ ، فَناظِروني بِجَميعِ عُقولِكُم .
إنّي رَجُلٌ أزعُمُ أنَّ عَلِيّاً عليه السلام خَيرُ البَشَرِ بَعدَ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله ؛ فَإِن كُنتُ مُصيباً فَصَوِّبوا قَولي ، وإن كُنتُ مُخطِئاً فَرُدّوا عَلَيَّ ، وهلُمّوا ؛ فَإِن شِئتُم سَأَلتُكُم ، وإن شِئتُم سَأَلتُموني .
فَقالَ لَهُ الَّذينَ يَقولونَ بِالحَديثِ : بَل نَسأَلُكَ .
فَقالَ : هاتوا ، وقَلِّدوا كَلامَكُم رَجُلاً واحِدا مِنكُم ، فَإِذا تَكَلَّمَ ؛ فَإِن كانَ عِندَ أحَدِكُم زِيادَةً فَليَزِد ، وإن أتى بِخَلَلٍ فَسَدِّدوهُ .
فَقالَ قائِلٌ مِنهُم : إنَّما نَحنُ نَزعُمُ أنَّ خَيرَ النّاسِ بَعدَ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله أبو بَكرٍ مِن قِبَلِ أنَّ الرِّوايَةَ المُجمَعَ عَلَيها جاءَت عَنِ الرَّسولِ صلى الله عليه و آله أنَّهُ قالَ : اِقتَدوا بِاللَّذَينِ مِن بَعدي أبي بَكرٍ وعُمَرَ ، فَلَمّا أمَرَ نَبِيُّ الرَّحمَةِ بِالِاقتِداءِ بِهِما ، عَلِمنا أنَّهُ لَم يَأمُر بِالِاقتِداءِ إلّا بِخَيرِ النّاسِ .
فَقالَ المَأمونُ : الرِّواياتُ كَثيرَةٌ ، ولابُدَّ مِن أن تَكونَ كُلُّها حَقّا أو كُلُّها باطِلاً ، أو بَعضُها حَقّا وبَعضُها باطِلاً ؛ فَلَو كانَت كُلُّها حَقّا كانَت كُلُّها باطِلاً ؛ مِن قِبَلِ أنَّ بَعضَها يَنقُضُ بَعضا ، ولَو كانَت كُلُّها باطِلاً كانَ في بُطلانِها بُطلانُ الدّينِ ، ودُروسُ الشَّريعَةِ ؛ فَلَمّا بَطَلَ الوَجهانِ ثَبَتَ الثّالِثُ بِالاِضطِرارِ ؛ وهُوَ أنَّ بَعضَها حَقٌّ وبَعضَها باطِلٌ ؛ فَإِذا كانَ كَذلِكَ فَلابُدَّ مِن دَليلٍ عَلى ما يَحِقُّ مِنها ؛ لِيُعتَقَدَ ، ويُنفى خِلافُهُ ، فَإِذا كانَ دَليلُ الخَبَرِ في نَفسِهِ حَقّا كانَ أولى ما أعتَقِدُهُ وآخُذُ بِهِ .
ورِوايَتُكَ هذِهِ مِنَ الأَخبارِ الَّتي أدِلَّتُها باطِلَةٌ في نَفسِها ، وذلِكَ أنَّ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله أحكَمُ الحُكَماءِ ، وأولَى الخَلقِ بِالصِّدقِ ، وأبعَدُ النّاسِ مِنَ الأَمرِ بِالمُحالِ ، وحَملِ النّاسِ عَلَى التَّدَيُّنِ بِالخِلافِ ؛ وذلِكَ أنَّ هذَينِ الرَّجُلَينِ لا يَخلُوا مِن أن يَكونا مُتَّفِقَينِ مِن كُلِّ جِهَةٍ أو مُختَلِفَينِ ؛ فَإِن كانا مُتَّفِقَينِ مِن كُلِّ جِهَةٍ كانا واحِدا فِي العَدَدِ وَالصِّفَةِ وَالصّورَةِ وَالجِسمِ ، وهذا مَعدومٌ أن يَكونَ اثنانِ بِمَعنىً واحِدٍ مِن كُلِّ جِهَةٍ ، وإن كانا مُختَلِفَينِ ، فَكَيفَ يَجوزُ الِاقتِداءُ بِهِما ؟ وهذا تَكليفُ ما لا يُطاقُ ؛ لِأَنَّكَ إذَا اقتَدَيتَ بِواحِدٍ خالَفتَ الآخَرَ .
وَالدَّليلُ عَلَى اختِلافِهِما أنَّ أبا بَكرٍ سَبى أهلَ الرِّدَّةِ ورَدَّهُم عُمَرُ أحرارا ، وأشارَ عُمَرُ إلى أبي بَكرٍ بِعَزلِ خالِدٍ وبِقَتلِهِ بِمالِكِ بنِ نُوَيرَةَ ، فَأَبى أبو بَكرٍ عَلَيهِ ، وحَرَّمَ عُمَرُ المُتعَتَينِ ولَم يَفعَل ذلِكَ أبو بَكرٍ ، ووَضَعَ عُمَرُ ديوانَ العَطِيَّةِ ولَم يَفعَلهُ أبو بَكرٍ ، وَاستَخلَفَ أبو بَكرٍ ولَم يَفعَل ذلِكَ عُمَرُ ، ولِهذا نَظائِرُ كَثيرَةٌ .
قالَ مُصَنِّفُ هذَا الكِتابِ : في هذا فَصلٌ ولَم يَذكُر[هُ] ۴ المَأمونُ لِخَصمِهِ ؛ وهُوَ أنَّهُم لَم يَرووا أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه و آله قالَ : اِقتَدوا بِاللَّذَينِ مِن بَعدي أبي بَكرٍ وعُمَرَ ، وإنَّما رَوَوا أبو بَكرٍ وعُمَرُ ، ومِنهُم مَن رَوى أبا بَكرٍ وعُمَرَ ، فَلَو كانَتِ الرِّوايَةُ صَحيحَةً لَكانَ مَعنى قَولِهِ بِالنَّصبِ : اِقتَدوا بِاللَّذَينِ مِن بَعدي : كِتابِ اللّهِ وَالعِترَةِ يا أبا بَكرٍ وعُمَرُ ، ومَعنى قَولِهِ بِالرَّفعِ : اِقتَدوا أيُّهَا النّاسُ وأبو بَكرٍ وعُمَرُ بِاللَّذَينِ مِن بَعدي كِتابِ اللّهِ وَالعِترَةِ . رَجَعنا إلى حَديثِ المَأمونِ :
فَقالَ آخَرُ مِن أصحابِ الحَديثِ : فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه و آله قالَ : لَو كُنتُ مُتَّخِذا خَليلاً لَاتَّخَذتُ أبا بَكرٍ خَليلاً .
فَقالَ المَأمونُ : هذا مُستَحيلٌ ؛ مِن قِبَلِ أنَّ رِواياتِكُم أنَّهُ صلى الله عليه و آله آخى بَينَ أصحابِهِ وأخَّرَ عَلِياً عليه السلام فَقالَ لَهُ في ذلِكَ فَقالَ : ما أخَّرتُكَ إلّا لِنَفسي . فَأَيُّ الرِّوايَتَينِ ثَبَتَت بَطَلَتِ الاُخرى.
قالَ الآخَرُ : إنَّ عَلِيّا عليه السلام قالَ عَلَى المِنبَرِ : خَيرُ هذِهِ الاُمَّةِ بَعدَ نَبِيِّها أبو بَكرٍ وعُمَرُ .
قالَ المَأمونُ : هذا مُستَحيلٌ ؛ مِن قِبَلِ أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه و آله لَو عَلِمَ أنَّهُما أفضَلُ ما وَلّى عَلَيهِما مَرَّةً عَمرَو بنَ العاصِ ، ومَرَّةً اُسامَةَ بنَ زَيدٍ . ومِمّا يُكَذِّبُ هذِهِ الرِّوايَةَ قَولُ عَلِيٍّ عليه السلام لَمّا قُبِضَ النَّبِيُّ صلى الله عليه و آله وأنَا أولى بِمَجلِسِهِ مِنّي بِقَميصي ، ولكِنّي أشفَقتُ أن يَرجِعَ النّاسُ كُفّارا ، وقَولُهُ عليه السلام : أنّى يَكونانِ خَيرا مِنّي وقَد عَبَدتُ اللّهَ تَعالى قَبلَهُما ، وعَبَدتُهُ بَعدَهُما ؟
قالَ آخَرٌ : فَإِنَّ أبا بَكرٍ أغلَقَ بابَهُ ، وقالَ : هَل مِن مُستَقيلٍ فَاُقيلَهُ ، فَقالَ عَلِيٌّ عليه السلام : قَدَّمَكَ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله فَمَن ذا يُؤَخِّرُكَ ؟
فَقالَ المَأمونُ : هذا باطِلٌ مِن قِبَلِ أنَّ عَلِيّاً عليه السلام قَعَدَ عَن بَيعَةِ أبي بَكرٍ ، ورَوَيتُم أنَّهُ قَعَدَ عَنها حَتّى قُبِضَت فاطِمَةُ عليهاالسلام ، وأنَّها أوصَت أن تُدفَنَ لَيلاً لِئَلّا يَشهَدا جِنازَتَها .
ووَجهٌ آخَرُ : وهُوَ أنَّهُ إن كانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه و آله استَخلَفَهُ ، فَكَيفَ كانَ لَهُ أن يَستَقيلَ وهُوَ يَقولُ لِلأَنصارِ : قَد رَضيتُ لَكُم أحَدَ هذَينِ الرَّجُلَينِ أبا عُبَيدَةَ وعُمَرَ ؟
قالَ آخَرُ : إنَّ عَمرَو بنَ العاصِ قالَ : يا نَبِيَّ اللّهِ مَن أحَبُّ النّاسِ إلَيكَ مِنَ النِّساءِ ؟ قالَ : عائِشَةَ . فَقالَ : مِنَ الرِّجالِ ؟ فَقالَ : أبوها .
فَقالَ المَأمونُ : هذا باطِلٌ مِن قِبَلِ أنَّكُم رَوَيتُم أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه و آله وُضِعَ بَينَ يَدَيهِ طائِرٌ مَشوِيٌّ فَقالَ : اللّهُمَّ ائتِني بِأَحَبِّ خَلقِكَ إلَيكَ ، فَكانَ عَلِيّا عليه السلام . فَأَيُّ رِوايَتِكُم تُقبَلُ ؟
فَقالَ آخَرُ : فَإِنَّ عَلِيّاً عليه السلام قالَ : مَن فَضَّلَني عَلى أبي بَكرٍ وعُمَرَ جَلَدتُهُ حَدَّ المُفتَري .
قالَ المَأمونُ : كَيفَ يَجوزُ أن يَقولَ عَلِيٌّ عليه السلام أجلِدُ الحَدَّ عَلى مَن لا يَجِبُ حَدٌّ عَلَيهِ ، فَيَكونَ مُتَعَدِّياً لِحُدودِ اللّهِ عَزَّوجَلَّ ، عامِلاً بِخِلافِ أمرِهِ ، ولَيسَ تَفضيلُ مَن فَضَّلَهُ عَلَيهِما فِريَةً ، وقَد رَوَيتُم عَن إمامِكُم أنَّهُ قالَ : وليتُكُم ولَستُ بِخَيرِكُم . فَأَيُّ الرَّجُلَينِ أصدَقُ عِندَكُم ؛ أبو بَكرٍ عَلى نَفسِهِ أو عَلِيٌّ عليه السلام على أبي بَكرٍ ؟ مَعَ تَناقُضِ الحَديثِ في نَفسِهِ ، ولابُدَّ لَهُ في قَولِهِ مِن أن يَكونَ صادِقاً أو كاذِباً ، فَإِن كانَ صادِقاً فَأَنّى عَرَفَ ذلِكَ ؟ بِوَحيٍ ؟ فَالوَحيُ مُنقَطِعٌ ، أو بِالتَّظَنّي ؟ فَالمُتَظَنّي مُتَحَيِّرٌ ، أو بِالنَّظَرِ ؟ فَالنَّظَرُ مَبحَثٌ ، وإن كانَ غَيرَ صادِقٍ ، فَمِنَ المُحالِ أن يَلِيَ أمرَ المُسلِمينَ ، ويَقومَ بِأَحكامِهِم ، ويُقيمَ حُدودَهُم كَذّابٌ .
قالَ آخَرُ : فَقَد جاءَ أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه و آله قالَ : أبو بَكرٍ وعُمَرُ سَيِّدا كُهولِ أهلِ الجَنَّةِ .
قالَ المَأمونُ : هذَا الحَديثُ مُحالٌ ؛ لِأَنَّهُ لا يَكونُ فِي الجَنَّةِ كَهلٌ ، ويُروى أنَّ أشجَعِيَّةً كانَت عِندَ النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله فَقالَ : لا يَدخُلُ الجَنَّةَ عَجوزٌ . فَبَكَت ، فَقالَ لَهَا النَّبِيَّ صلى الله عليه و آله : إنَّ اللّهَ تَعالى يَقولُ : «إِنَّـآ أَنشَأْنَـهُنَّ إِنشَآءً * فَجَعَلْنَـهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُبًا أَتْرَابًا»۵ فَإِن زَعَمتُم أنَّ أبا بَكرٍ يُنشَأُ شابّا إذا دَخَلَ الجَنَّةَ ، فَقَد رَوَيتُم أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه و آله قالَ لِلحَسَنِ وَالحُسَينِ عليهماالسلام : إنَّهُما سَيِّدا شَبابِ أهلِ الجَنَّةِ مِنَ الأَوَّلينَ وَالآخِرينَ ، وأبوهُما خَيرٌ مِنهُما .
قالَ آخَرٌ : فَقَد جاءَ أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه و آله قالَ : لَو لَم أكُن اُبعَثُ فيكُم لَبُعِثَ عُمَرُ.
قالَ المَأمون : هذا مُحالٌ ؛ لِأَنَّ اللّهَ تَعالى يَقولُ : «إِنَّـآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ»۶ وقالَ تَعالى : «وَ إِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَـقَهُمْ وَ مِنكَ وَ مِن نُّوحٍ وَ إِبْرَ هِيمَ وَ مُوسَى وَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ»۷ فَهَل يَجوزُ أن يَكونَ مَن لَم يُؤخَذ ميثاقُهُ عَلَى النُّبُوَّةِ مَبعوثاً ، ومَن اُخِذَ ميثاقُهُ عَلَى النُّبُوَّةِ مُؤَخَّرا ؟ !
قالَ آخَرٌ : إنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه و آله نَظَرَ إلى عُمَرَ يَومَ عَرَفَةَ فَتَبَسَّمَ فَقالَ : إنَّ اللّهَ تَبارَكَ وتَعالى باهى بِعِبادِهِ عامَّةً ، وبِعُمَرَ خاصَّةً .
فَقالَ المَأمونُ : هذا مُستَحيلٌ ؛ مِن قِبَلِ أنَّ اللّهَ تَبارَكَ وتَعالى لَم يَكُن لِيُباهِيَ بِعُمَرَ ويَدَعَ نَبِيَّهُ صلى الله عليه و آله ؛ فَيَكونَ عُمَرُ فِي الخاصَّةِ ، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه و آله فِي العامَّةِ ، ولَيسَت هذِهِ الرِّواياتُ بِأَعجَبَ مِن رِوايَتِكُم أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه و آله قالَ : دَخَلتُ الجَنَّةَ فَسَمِعتُ خَفَقَ نَعلَينِ ؛ فَإِذا بِلالٌ مَولى أبي بَكرٍ سَبَقَني إلَى الجَنَّةِ . وإنَّما قالَتِ الشّيعَةُ : عَلِيٌّ عليه السلام خَيرٌ مِن أبي بَكرٍ ، فَقُلتُم : عَبدُ أبي بَكرٍ خَيرٌ مِنَ الرَّسولِ صلى الله عليه و آله ؛ لِأَنَّ السّابِقَ أفضَلُ مِنَ المَسبوقِ ، وكَما رَوَيتُم أنَّ الشَّيطانَ يَفِرُّ مِن ظِلِّ عُمَرَ ، وألقى عَلى لِسانِ نَبِيِّ اللّهِ صلى الله عليه و آله : وأنَّهُنَّ الغَرانيقُ العُلى فَفَرَّ مِن عُمَرَ ، وألقى عَلى لِسانِ النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله ـ بِزَعمِكُم ـ الكُفرَ ۸ !
قالَ آخَرُ : قَد قالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه و آله : لَو نَزَلَ العَذابُ ما نَجا إلّا عُمَرُ بنُ الخَطّابِ .
قالَ المَأمونُ : هذا خِلافُ الكِتابِ أيضا ؛ لِأَنَّ اللّهَ تَعالى يَقولُ لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه و آله : «وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ»۹ فَجَعَلتُم عُمَرَ مِثلَ الرَّسولِ صلى الله عليه و آله !
قالَ آخَرُ : فَقَد شَهِدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه و آله لِعُمَرَ بِالجَنَّةِ في عَشَرَةٍ مِنَ الصَّحابَةِ .
فَقالَ المَأمونُ : لَو كانَ هذا كَما زَعَمتُم ، لَكانَ عُمَرُ لا يَقولُ لِحُذَيفَةَ : نَشَدتُكَ بِاللّهِ أمِنَ المُنافِقينَ أنَا ؟ فَإِن كانَ قَد قالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه و آله : أنتَ مِن أهلِ الجَنَّةِ ولَم يُصَدِّقهُ حَتّى زَكّاهُ حُذَيفَةُ ، فَصَدَّقَ حُذَيفَةَ ولَم يَصَدِّقِ النَّبِيَّ صلى الله عليه و آله ، فَهذا عَلى غَيرِ الإِسلامِ ، وإن كانَ قَد صَدَّقَ النَّبِيَّ صلى الله عليه و آله فَلِمَ سَأَلَ حُذَيفَةَ ؟ وهذانِ الخَبَرانِ مُتَناقِضانِ في أنفُسِهِما .
قالَ الآخَرُ : فَقَد قالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه و آله : وُضِعتُ في كِفَّةِ الميزانِ ووُضَعَت اُمَّتي في كِفَّةٍ اُخرى ، فَرَجَحتُ بِهِم ، ثُمَّ وُضِعَ مَكاني أبو بَكرٍَفَرَجَحَ بِهِم ، ثُمَّ عُمَرُ فَرَجَحَ بِهِم ، ثُمَّ رُفِعَ الميزانُ .
فَقالَ المَأمونُ : هذا مَحالٌ ؛ مِن قِبَلِ أنَّهُ لا يَخلو مِن أن يَكونَ أجسامَهُما أو أعمالَهُما ؛ فَإِن كانَتِ الأَجسامَ فَلا يَخفى عَلى ذي روحٍ أنَّهُ مَحالٌ ؛ لِأَنَّهُ لا يَرجَحُ أجسامُهُما بِأَجسامِ الاُمَّةِ ، وإن كانَت أفعالَهُما فَلَم تَكُن بَعدُ ، فَكَيفَ تَرجَحُ بِما لَيسَ ؟
فَأَخبِروني بِما ۱۰ يَتَفاضَلُ النّاسُ ؟ فَقالَ بَعضُهُم : بِالأَعمالِ الصّالِحَةِ .
قالَ : فَأَخبِروني فَمَن ۱۱ فَضَلَ صاحِبَهُ عَلى عَهدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله ، ثُمَّ إنَّ المَفضولَ عَمِلَ بَعدَ وَفاةِ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله بِأَكثَرَ مِن عَمَلِ الفاضِلِ عَلى عَهدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله أ يَلحَقُ بِهِ ؟ فَإِن قُلتُم : نَعَم ، أوجَدتُكُم في عَصرِنا هذا مَن هُوَ أكثَرُ جِهادا وحَجّا وصَوماً وصَلاةً وصَدَقَةً مِن أحَدِهِم .
قالوا : صَدَقتَ ، لا يَلحَقُ فاضِلُ دَهرِنا لِفاضِلِ عَصرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله .
قالَ المَأمونُ : فَانظُروا فيما رَوَت أئِمَّتُكُمُ الَّذينَ أخَذَتُم عَنهُم أديانَكُم في فَضائِلِ عَلِيٍّ عليه السلام ، وقيسوا إلَيها ما رَوَوا في فَضائِلِ تَمامِ العَشَرَةِ الَّذينَ شَهِدوا لَهُم بِالجَنَّةِ ؛ فَإِن كانَت جُزءا مِن أجزاءٍ كَثيرَةٍ فَالقَولُ قَولُكُم ، وإن كانوا قَد رَوَوا في فَضائِلِ عَلِيٍّ عليه السلام أكثَرَ ، فَخُذوا عَن أئِمَّتِكُم ما رَوَوا ولا تَعدوهُ . قالَ : فَأَطرَقَ القَومُ جَميعا .
فَقالَ المَأمونُ : ما لَكُم سَكَتُّم ؟ قالوا : قَدِ استُقصينا .
قالَ المَأمونُ : فَإِنّي أسأَلُكُم : خَبِّروني أيُّ الأَعمالِ كانَ أفضَلَ يَومَ بَعَثَ اللّهُ نَبِيَّهُ صلى الله عليه و آله ؟
قالوا : السَّبقُ إلَى الإِسلامِ ؛ لاِنَّ اللّهَ تَعالى يَقولُ : «السَّـبِقُونَ السَّـبِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ»۱۲ .
قالَ : فَهَل عَلِمتُم أحَدا أسبَقَ مِن عَلِيٍّ عليه السلام إلَى الإِسلامِ؟
قالوا : إنَّهُ سَبَقَ حَدَثا لَم يَجرِ عَلَيهِ حُكمٌ ، وأبوبَكرٍ أسلَمَ كَهلاً قَد جَرى عَلَيهِ الحُكمُ ، وبَينَ هاتَينِ الحالَتَينِ فَرقٌ .
قالَ المَأمونُ : فَخَبِّروني عَن إسلامِ عَلِيٍّ عليه السلام ؛ أ بِإِلهامٍ ۱۳ مِن قِبَلِ اللّهِ تَعالى أم بِدُعاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله ؟ فَإِن قُلتُم : بِإِلهامٍ فَقَد فَضَّلتُموهُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه و آله لَم يُلهَم بَل أتاهُ جَبرَئيلُ عَنِ اللّهِ تَعالى داعِياً ومُعَرِّفا . فَإِن قُلتُم : بِدُعاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله ؛ فَهَل دَعاهُ مِن قِبَلِ نَفسِهِ أو بِأَمرِ اللّهِ تَعالى؟ فَإِن قُلتُم : مِن قِبَلِ نَفسِهِ ، فَهذا خِلافُ ما وَصَفَ اللّهُ تَعالى بِهِ نَبِيَّهُ صلى الله عليه و آله في قَولِهِ تَعالى : «وَ مَآ أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ»۱۴ . وفي قَولِهِ تَعالى : «وَ مَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَا وَحْىٌ يُوحَى»۱۵ وإن كانَ مِن قِبَلِ اللّهِ تَعالى فَقَد أمَرَ اللّهُ تَعالى نَبِيَّهُ صلى الله عليه و آله بِدُعاءِ عَلِيٍّ عليه السلام مِن بَينِ صَبيانِ النّاسِ وإيثارِهِ عَلَيهِم ، فَدَعاهُ ثِقَةً بِهِ وعِلماً بِتَأييدِ اللّهِ تَعالى.
وخُلَّةٌ اُخرى : خَبِّروني عَنِ الحَكيمِ هَل يَجوزُ أن يُكَلِّفَ خَلقَهُ ما لا يُطيقونَ؟ فَإِن قُلتُم : نَعَم ؛ فَقَد كَفَرتُم ، وإن قُلتُم : لا ؛ فَكَيفَ يَجوزُ أن يَأمُرَ نَبِيَّهُ صلى الله عليه و آله بِدُعاءِ مَن لا يُمكِنُهُ قَبولُ ما يُؤمَرُ بِهِ لِصِغَرِهِ ، وحَداثَةِ سِنِّهِ ، وضَعفِهِ عَنِ القَبولِ؟
وخُلَّةٌ اُخرى : هَل رَأَيتُمُ النَّبِيَّ صلى الله عليه و آله دَعا أحَدا مِن صِبيانِ أهلِهِ وغَيرِهِم فَيَكونوا اُسوَةَ عَلِيٍّ عليه السلام ؟ فَإِن زَعَمتُم أنَّهُ لَم يَدعُ غَيرَهُ ، فَهذِهِ فَضيلَةٌ لِعَلِيٍّ عليه السلام عَلى جَميعِ صِبيانِ النّاسِ .
ثُمَّ قالَ : أيُّ الأَعمالِ أفضَلُ بَعدَ السَّبقِ إلَى الإِيمانِ؟ قالوا : الجِهادُ في سَبيلِ اللّهِ .
قالَ : فَهَل تَجِدونَ لِأَحَدٍ مِنَ العَشَرَةِ فِي الجِهادِ ما لِعَلِيٍّ عليه السلام في جَميعِ مَواقِفِ النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله مِنَ الأَثَرِ ؟ هذِهِ بَدرٌ قُتِلَ مِنَ المُشرِكينَ فيها نَيِّفٌ وسِتّونَ رَجُلاً ، قَتَلَ عَلِيٌّ عليه السلام مِنهُم نَيِّفاً وعِشرينَ ، وأربَعونَ لِسائِرِ النّاسِ .
فَقالَ قائِلٌ : كانَ أبو بَكرٍ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله في عَرِيشَةٍ ۱۶ يُدَبِّرُها .
فَقالَ المَأمونُ : لَقَد جِئتَ بِها عَجيبَةً ! أ كانَ يُدَبِّرُ دونَ النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله ، أو مَعَهُ فَيَشرَكُهُ ، أو لِحاجَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله إلى رَأيِ أبي بَكرٍ؟ أيُّ الثَّلاثِ أحَبُّ إلَيكَ أن تَقولَ؟
فَقالَ : أعوذُ بِاللّهِ مِن أن أزعُمَ أنَّهُ يُدَبِّرُ دونَ النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله أو يَشرَكُهُ أو بِافتِقارٍ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله إلَيهِ !
قالَ : فَمَا الفَضيلَةُ فِي العَريشِ ؟ فَإِن كانَت فَضيلَةُ أبي بَكرٍ بِتَخَلُّفِهِ عَنِ الحَربِ ، فَيَجِبُ أن يَكونَ كُلُّ مُتَخَلِّفٍ فاضِلاً أفضَلَ مِنَ المُجاهِدينَ ، وَاللّهُ عَزَّوجَلَّ يَقولُ : «لَا يَسْتَوِى الْقَـعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِى الضَّرَرِ وَالْمُجَـهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَ لِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَـهِدِينَ بِأَمْوَ لِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَـعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَـهِدِينَ عَلَى الْقَـعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا»۱۷ .
قالَ إسحاقُ بنُ حَمّادِ بنِ زَيدٍ : ثُمَّ قالَ لي : اِقرَأ «هَلْ أَتَى عَلَى الْاءِنسَـنِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ»۱۸ ، فَقَرَأتُ حَتّى بَلَغتُ : «وَ يُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَ يَتِيمًا وَ أَسِيرًا»۱۹ إلى قَولِهِ : «وَ كَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُورًا»۲۰ ، فَقالَ : فيمَن نَزَلَت هذِهِ الآياتُ ؟
فَقُلتُ : في عَلِيٍّ عليه السلام .
قالَ : فَهَل بَلَغَكَ أنَّ عَلِيّا عليه السلام قالَ حينَ أطعَمَ المِسكينَ وَاليَتيمَ وَالأَسيرَ : «إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءً وَ لَا شُكُورًا»۲۱ عَلى ما وَصَفَ اللّهُ عَزَّ وجَلَّ في كِتابِهِ؟
فَقُلتُ : لا .
قالَ : فَإِنَّ اللّهَ تَعالى عَرَفَ سَريرَةَ عَلِيٍّ عليه السلام ونِيَّتَهُ ، فَأَظهَرَ ذلِكَ في كِتابِهِ تَعريفا لِخَلقِهِ أمرَهُ ، فَهَل عَلِمتَ أنَّ اللّهَ تَعالى وَصَفَ في شَيءٍ مِمّا وَصَفَ فِي الجَنَّةِ ما في هذِهِ السّورَةِ : «قَوَارِيرَاْ مِن فِضَّةٍ»۲۲ .
قُلتُ : لا .
قالَ : فَهذِهِ فَضيلَةٌ اُخرى ، فَكَيفَ تَكونُ القَواريرُ مِن فِضَّةٍ ؟
فَقُلتُ : لا أدري .
قالَ : يُريدُ كَأَنَّها مِن صَفائِها مِن فِضَّةٍ يُرى داخِلُها كَما يُرى خارِجُها . وهذا مِثلُ قَولِهِ صلى الله عليه و آله : «يا أنجَشَةُ ۲۳ ، رُوَيدا سَوقَكَ ۲۴ بِالقَواريرِ» ؛ وعَنى بِهِ نِساءً كَأَنَّهَا القَواريرُ رِقَّةً . وقَولُهُ صلى الله عليه و آله : «رَكِبتُ فَرَسَ أبي طَلحَةَ ، فَوَجَدتُهُ بَحرا» ؛ أي كَأَنَّهُ بَحرٌ مِن كَثرَةِ جَريِهِ وعَدوِهِ . وكَقَولِ اللّهِ تَعالى : «وَ يَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَ مَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَ مِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ»۲۵ أي كَأَنَّهُ [ما] ۲۶ يَأتيهِ المَوتُ ، ولَو أتاهُ مِن مَكانٍ واحِدٍ ماتَ .
ثُمَّ قالَ : يا إسحاقُ ، أ لَستَ مِمَّن يَشهَدُ أنَّ العَشَرَةَ فِي الجَنَّةِ؟
فَقُلتُ : بَلى .
قالَ : أ رَأَيتَ لَو أنَّ رَجُلاً قالَ : ما أدري أ صَحيحٌ هذَا الحَديثُ أم لا ، أ كانَ عِندَكَ كافِرا؟
قُلتُ : لا .
قالَ : أ فَرَأَيتَ لَو قالَ : ما أدري هذِهِ السّورَةُ قُرآنٌ أم لا ، أ كانَ عِندَكَ كافِرا؟
قُلتُ : بَلى .
قالَ : أرى فَضلَ الرَّجُلِ يَتَأَكَّدُ .
خَبِّرني ۲۷ يا إسحاقُ عَن حَديثِ الطّائِرِ المَشوِيِّ ؛ أ صَحيحٌ عِندَكَ ؟
قُلتُ : بَلى .
قالَ : بانَ وَاللّهِ عِنادُكَ ؛ لا يَخلو هذا مِن أن يَكونَ كَما دَعاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه و آله ، أو يَكونَ مَردودا ، أو عَرَفَ اللّهُ الفاضِلَ مِن خَلقِهِ وكانَ المَفضولُ أحَبَّ إلَيهِ ، أو تَزعُمُ أنَّ اللّهَ لَم يَعرِفِ الفاضِلَ مِنَ المَفضولِ ؛ فَأَيُّ الثَّلاثِ أحَبُّ إلَيكَ أن تَقولَ بِهِ؟
قالَ إسحاقُ : فَأَطرَقتُ ساعَةً ثُمَّ قُلتُ : يا أميرَ المُؤمِنينَ ، إنَّ اللّهَ تَعالى يَقولُ في أبي بَكرٍ : «ثَانِىَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِى الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَـحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا»۲۸ فَنَسَبَهُ اللّهُ عَزَّ وجَلَّ إلى صُحبَةِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه و آله .
فَقالَ المَأمونُ : سُبحانَ اللّهِ ! ما أقَلَّ عِلمَكَ بِاللُّغَةِ وَالكِتابِ ، أما يَكونُ الكافِرُ صاحِبا لِلمُؤمِنِ ؟ ! فَأَيُّ فَضيلَةٍ في هذِهِ؟ أما سَمِعتَ قَولَ اللّهِ تَعالى : «قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَ هُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِى خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً» ؟ ۲۹ فَقَد جَعَلَهُ لَهُ صاحِبا ، وقالَ الهُذَلِيُّ شِعرا :
ولَقَد غَدَوتُ وصاحِبي وَحشِيَّةٌ
تَحتَ الرِّداءِ بَصيرَةٌ بِالمَشرقِ
وقالَ الأَزدِيُّ شِعرا :
ولَقَد ذَعَرتُ الوَحشَ فيهِ وصاحِبي
مَحضُ القَوائِمِ مِن هِجانٍ هَيكَلِ
فَصَيَّرَ فَرَسَهُ صاحِبَهُ ، وأمّا قَولُهُ : «إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا» فَإِنَّ اللّهَ تَبارَكَ وتَعالى مَعَ البَرِّ وَالفاجِرِ ، أما سَمِعتَ قَولَهُ تَعالى : «مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَـثَةٍ إِلَا هُوَ رَابِعُهُمْ وَ لَا خَمْسَةٍ إِلَا هُوَ سَادِسُهُمْ وَ لَا أَدْنَى مِن ذَ لِكَ وَ لَا أَكْثَرَ إِلَا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُواْ»۳۰ . وأمّا قَولُهُ : «لَا تَحْزَنْ»۳۱ فَأَخبِرني عَن ۳۲ حُزنِ أبي بَكرٍ ، أ كانَ طاعَةً أو مَعصِيَةً ؟ فَإِن زَعَمتَ أنَّهُ طاعَةٌ فَقَد جَعَلتَ النَّبِيَّ صلى الله عليه و آله يَنهى عَنِ الطّاعَةِ ، وهذا خِلافُ صِفَةِ الحَكيمِ ، وإن زَعَمتَ أنَّهُ مَعصِيَةٌ ، فَأَيُّ فَضيلَةٍ لِلعاصي ؟
وخَبِّرني عَن قَولِهِ تَعالى : «فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ»۳۳ عَلى مَن ؟
قالَ إسحاقُ : فَقُلتُ : عَلى أبي بَكرٍ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه و آله كانَ مُستَغنِياً عَنِ السَّكينَةِ ۳۴ .
قال : فخبّرني عن قوله عَزَّ وجَلَّ : «وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْـئا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَْرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ»۳۵ أ تَدري مَنِ المُؤمِنونَ الَّذينَ أرادَ اللّهُ تَعالى في هذَا المَوضِعِ؟
قالَ : فَقُلتُ : لا .
فَقالَ : إنَّ النّاسَ انهَزَموا يَومَ حُنَينٍ ، فَلَم يَبقَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله إلّا سَبعَةٌ مِن بَني هاشِمٍ : عَلِيٌّ عليه السلام يَضرِبُ بِسَيفِهِ ، وَالعَبّاسُ آخِذٌ بِلِجامِ بَغلَةِ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله ، وَالخَمسَةُ يُحدِقونَ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه و آله خَوفا مِن أن يَنالَهُ سِلاحُ الكُفّارِ ، حَتّى أعطَى اللّهُ تَبارَكَ وتَعالى رَسولَهُ صلى الله عليه و آله الظَّفَرَ ، عَنى بِالمُؤمِنينَ في هذَا المَوضِعِ عَلِيّا عليه السلام ومَن حَضَرَ مِن بَني هاشِمٍ ، فَمَن كان أفضَلَ ؛ أمَن كانَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله فَنَزَلَتِ السَّكينَةُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله وعَلَيهِ ، أم مَن كانَ فِي الغارِ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله ولَم يَكُن أهلاً لِنُزولِها عَلَيهِ ؟
يا إسحاقُ ! مَن أفضَلُ؟ منَ كانَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله فِي الغارِ ، أو مَن نامَ عَلى مِهادِهِ وفِراشِهِ ووَقاهُ بِنَفسِهِ ، حَتّى تَمَّ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه و آله ما عَزَمَ عَلَيهِ مِنَ الهِجرَةِ ؟
إنَّ اللّهَ تَبارَكَ وتَعالى أمَرَ نَبِيَّهُ صلى الله عليه و آله أن يَأمُرَ عَلِيّاً عليه السلام بِالنّومِ عَلى فِراشِهِ ووِقايَتِهِ بِنَفسِهِ ، فَأَمَرَهُ بِذلِكَ ، فَقالَ عَلِيٌّ عليه السلام : أ تَسلَمُ يا نَبِيَّ اللّهِ ؟ [قالَ : نَعَم] ۳۶ قالَ : سَمعا وطاعَةً ، ثُمَّ أتى مَضجَعَهُ وتَسَجّى بِثَوبِهِ ، وأحدَقَ المُشرِكونَ بِهِ ، لا يَشُكّونَ في أنَّهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه و آله وقَد أجمَعوا عَلى أن يَضرِبَهُ مِن كُلِّ بَطنٍ مِن قُرَيشٍ رَجُلٌ ضَربَةً لِئَلّا يَطلُبَ الهاشِمِيّونَ بِدَمِهِ ، وعَلِيٌّ عليه السلام يَسمَعُ بِأَمرِ القَومِ فيهِ مِنَ التَّدبيرِ في تَلَفِ نَفسِهِ ، فَلَم يَدعُهُ ذلِكَ إلَى الجَزَعِ كَما جَزِعَ أبو بَكرٍ فِي الغارِ ، وهُوَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله ، وعَلِيٌّ عليه السلام وَحدَهُ، فَلَم يَزَل صابِرا مُحتَسِبا، فَبَعَثَ اللّهُ تَعالى مَلائِكَتَهُ تَمنَعُهُ مِن مُشرِكي قُرَيشٍ.
فَلَمّا أصبَحَ قامَ فَنَظَرَ القَومُ إلَيهِ فَقالوا : أينَ مُحَمَّدٌ؟ قالَ : وما عِلمي بِهِ؟ قالوا : فَأَنتَ غَرَرتَنا ۳۷ ثُمَّ لَحِقَ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه و آله ، فَلَم يَزَل عَلِيٌّ عليه السلام أفضَلَ لِما بدَا مِنُه إلّا ما يَزيدُ خَيرا ، حَتّى قَبَضَهُ اللّهُ تَعالى إلَيهِ وهُوَ مَحمودٌ مَغفورٌ لَهُ .
يا إسحاقُ! أما تَروي حَديثَ الوِلايَةِ؟
فَقُلتُ : نَعَم .
قالَ : اِروِهِ ، فَرَوَيتُهُ .
فَقالَ : أما تَرى أنَّهُ أوجَبَ لِعَلِيٍّ عليه السلام عَلى أبي بَكرٍ وعُمَرَ مِنَ الحَقِّ ما لَم يوجِب لَهُما عَلَيهِ؟
قُلتُ : إنَّ النّاسَ يَقولونَ : إنَّ هذا قالَهُ بِسَبَبِ زَيدِ بنِ حارِثَةَ .
فَقالَ : وأينَ قالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه و آله هذا؟
قُلتُ : بِغَديرِ خُمٍّ بَعدَ مُنصَرَفِهِ مِن حَجَّةِ الوَداعِ .
قالَ : فَمَتى قُتِلَ زَيدُ بنُ حارِثَةَ؟
قُلتُ : بِمُؤتَةَ ۳۸ .
قالَ : أ فَلَيسَ قَد كانَ قُتِلَ زَيدُ بنُ حارِثَةَ قَبلَ غَديرِ خُمٍّ؟
قُلتُ : بَلى .
قالَ : أخبِرني لَو رَأَيتَ ابنا لَكَ أتَت عَلَيهِ خَمسَ عَشرَةَ ۳۹ سَنَةً يَقولُ : مَولايَ مَولَى ابنِ عَمّي أيُّهَا النّاسُ فَاقبَلوا ، أ كُنتَ تَكرَهُ لَهُ ذلِكَ؟
فَقُلتُ : بَلى .
قالَ : أ فَتُنَزِّهُ ابنَكَ عَمّا لا يَتَنَزَّهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه و آله عَنهُ ؟ ! ويَحَكُم ، أ جَعَلتُم فُقَهاءَكُم أربابَكُم ؟ ! إنَّ اللّهَ تَعالى يَقولُ : «اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَـنَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ»۴۰ وَاللّهِ ما صاموا لَهُم ولا صَلَّوا لَهُم ، ولكِنَّهُم أمَروا لَهُم فَاُطيعوا .
ثُمَّ قالَ : أ تَروي قَولَ النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله لِعَلِيٍّ عليه السلام : أنتَ مِنّي بِمَنزِلَةِ هارونَ مِن موسى ؟
قُلتُ : نَعَم .
قالَ : أما تَعلَمُ أنَّ هارونَ أخو موسى لِأَبيهِ واُمِّهِ؟
قُلتُ : بَلى .
قالَ : فَعَلِيٌّ عليه السلام كَذلِكَ؟
قُلتُ : لا .
قالَ : وهارونُ نَبِيٌّ ولَيسَ عَلِيٌّ كَذلِكَ ، فَمَا المَنزِلَةُ الثّالِثَةُ إلَا الخِلافَةُ ، وهذا كَما قالَ المُنافِقونَ : إنَّهُ استَخلَفَهُ استِثقالاً لَهُ ، فَأَرادَ أن يُطَيِّبَ نَفسَهُ ۴۱ ، وهذا كَما حَكَى اللّهُ تَعالى عَن موسى عليه السلام حَيثُ يَقولُ لِهارونَ : «اخْلُفْنِى فِى قَوْمِى وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ»۴۲ .
فَقُلتُ : إنَّ موسى خَلَّفَ هارونَ في قَومِهِ وهُوَ حَيٌّ ، ثُمَّ مَضى إلى ميقاتِ رَبِّهِ تَعالى ، وإنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه و آله خَلَّفَ عَلِيّاً عليه السلام حينَ خَرَجَ إلى غَزاتِهِ .
فَقالَ : أخبِرني عَن موسى حينَ خَلَّفَ هارونَ ، أ كانَ مَعَهُ حَيثُ مَضى إلى ميقاتِ رَبِّهِ عَزَّوجَلَّ أحَدٌ مِن أصحابِهِ؟
فَقُلتُ : نَعَم .
قالَ : أ وَلَيسَ قَدِ استَخلَفَهُ عَلى جَميعِهِم؟
قُلتُ : بَلى .
قالَ : فَكَذلِكَ عَلِيٌّ عليه السلام خَلَّفَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه و آله حينَ خَرَجَ إلى غَزاتِهِ فِي الضُّعَفاءِ وَالنِّساءِ وَالصِّبيانِ إذ ۴۳ كانَ أكثَرُ قَومِهِ مَعَهُ ، وإن كانَ قَد جَعَلَهُ خَليفَةً عَلى جَميعِهِم ، وَالدَّليلُ عَلى أنَّهُ جَعَلَهُ خَليفَةً عَلَيهِم في حَياتِهِ إذا غابَ وبَعدَ مَوتِهِ قَولُهُ صلى الله عليه و آله : «عَلِيٌّ مِنّي بِمَنزِلَةِ هارونَ مِن موسى ، إلّا أنَّهُ لا نَبِيَّ بَعدي» ، وهُوَ وَزيرُ النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله أيضا بِهذَا القَولِ ؛ لِأَنَّ موسى عليه السلام قَد دَعَا اللّهَ تَعالى وقالَ فيما دَعا : «وَ اجْعَل لِّى وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِى * هَـرُونَ أَخِى * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِى * وَ أَشْرِكْهُ فِى أَمْرِى»۴۴ فَإِذا كانَ عَلِيٌّ عليه السلام مِنهُ صلى الله عليه و آله بِمَنزِلَةِ هارونَ مِن موسى فَهُوَ وَزيرُهُ ، كَما كانَ هارونُ وَزيرَ موسى ، وهُوَ خَليفَتُهُ ، كَما كانَ هارونُ خَليفَةَ موسى عليه السلام .
ثُمَّ أقبَلَ عَلى أصحابِ النَّظَرِ وَالكَلامِ فَقالَ : أسأَلُكُم أو تَسأَلونّي؟ فَقالوا : بَل نسَأَلُكَ . فَقالَ : قولوا .
فَقالَ قائِلٌ مِنهُم : أ لَيسَت إمامَةُ عَلِيٍّ عليه السلام مِن قِبَلِ اللّهِ عَزَّ وجَلَّ ، نَقَلَ ذلِكَ عَن رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله مَن نَقَلَ الفَرضَ مِثلَ الظُّهرُ أربَعُ رَكَعاتٍ ، وفي مِئَتَي دِرهَمٍ خَمسَةُ دَراهِمَ ، وَالحَجُّ إلى مَكَّةَ؟ فَقالَ : بلى .
قالَ : فَما بالُهُم لَم يخَتَلِفوا في جَميعِ الفَرضِ ، وَاختَلَفوا في خِلافَةِ عَلِيٍّ عليه السلام وَحدَها؟
قالَ المَأمونُ : لِأَنَّ جَميعَ الفَرضِ لا يَقَعُ فيهِ مِنَ التَّنافُسِ وَالرَّغبَةِ ما يَقَعُ فِي الخِلافَةِ .
فَقالَ آخَرُ : ما أنكَرتَ أن يَكونَ النَّبِيُّ صلى الله عليه و آله أمَرَهُم بِاختِيارِ رَجُلٍ مِنهُم يَقومُ مَقامَهُ رَأفَةً بِهِم ورِقَّةً عَلَيهِم مِن غَيرِ أن يَستَخلِفَ هُوَ بِنَفسِهِ فَيُعصى خَليفَتُهُ ، فَيَنزِلَ بِهِمُ العَذابُ ؟
فَقالَ : أنكَرتُ ذلِكَ مِن قِبَلِ أنَّ اللّهَ تَعالى أرأَفُ بِخَلقِهِ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله ، وقَد بَعَثَ نَبِيَّهُ صلى الله عليه و آله إلَيهِم وهُوَ يَعلَمُ أنَّ فيهِمُ العاصِيَ وَالمُطيعَ ۴۵ ، فَلَم يَمنَعهُ تَعالى ذلِكَ مِن إرسالِهِ .
وعِلَّةٌ اُخرى : لَو أمَرَهُم بِاختِيارِ رَجُلٍ مِنهُم كانَ لا يَخلو مِن أن يَأمُرَهُم كُلَّهُم أو بَعضَهُم ؛ فَلَو أمَرَ الكُلَّ مَن كانَ المُختارَ ؟ ولَو أمَرَ بَعضَنا دونَ بَعضٍ كانَ لا يَخلو مِن أن يَكونَ عَلى هذَا البَعضِ عَلامَةٌ ؛ فَإِن قُلتَ : الفُقَهاءُ ، فَلابُدَّ مِن تَحديدِ الفَقيهِ وسِمَتِهِ .
قالَ آخَرُ : فَقَد رُوِيَ أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه و آله قالَ : ما رَآهُ المُسلِمونَ حَسَنا فَهُوَ عِندَ اللّهِ تَعالى حَسَنٌ ، وما رَأَوهُ قَبيحا فَهُوَ عِندَ اللّهِ قَبيحٌ .
فَقالَ : هذَا القَولُ لابُدَّ مِن أن يَكونَ يُريدُ كُلَّ المُؤمِنينَ أو البَعضَ ؛ فَإِن أرادَ الكُلَّ فَهذا مَفقودٌ ؛ لِأَنَّ الكُلَّ لا يُمكِنُ اجتِماعُهُم ، وإن كانَ البَعضَ فَقَد رَوى كُلٌّ في صاحِبِهِ حُسنا مِثلُ رِوايَةِ الشّيعَةِ في عَلِيٍّ ، ورِوايَةِ الحَشوِيَّةِ في غَيرِهِ ، فَمَتى يَثبُتُ ما تُريدونَ مِنَ الإِمامَةِ ؟
قالَ آخَرُ : فَيَجوزُ أن تَزعُمَ أنَّ أصحابَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله أخطَؤوا؟
قالَ : كَيفَ نَزعُمُ أنَّهُم أخطَؤوا وَاجتَمَعوا عَلى ضَلالَةٍ وهُم لَم يَعلَموا فَرضاً ولا سُنَّةً ؛ لِأَنَّكَ تَزعُمُ أنَّ الإِمامَةَ لا فَرضٌ مِنَ اللّهِ تَعالى ولا سُنَّةٌ مِنَ الرَّسولِ صلى الله عليه و آله ، فَكَيفَ يَكونُ فيما لَيسَ عِندَكَ بِفَرضٍ ولا سُنَّةٍ خَطَأٌ .
قالَ آخَرُ : إن كُنتَ تَدَّعي لِعَلِيٍّ عليه السلام مِنَ الإِمامَةِ دونَ غَيرِهِ ، فَهاتِ بَيِّنَتَكَ عَلى ما تَدَّعي .
فَقالَ : ما أنَا بِمُدَّعٍ ولكِنّي مُقِرٌّ ، ولا بَيِّنَةَ عَلى مُقِرٍّ ، وَالمُدَّعي مَن يَزعُمُ أنَّ إلَيهِ التَّولِيَةَ وَالعَزلَ ، وأنَّ إلَيهِ الاِختِيارَ ، وَالبَيِّنَةُ لا تَعرى مِن أن تَكونَ مِن شُرَكائِهِ ؛ فَهُم خُصَماءُ ، أو تَكونَ من غَيرِهِم وَالغَيرُ مَعدومٌ ، فَكَيفَ يُؤتى بِالبَيِّنَةِ عَلى هذا؟
قالَ آخَرُ : فَما كانَ الواجِبُ عَلى عَلِيٍّ عليه السلام بَعدَ مُضِيِّ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله ؟
قالَ : ما فَعَلَهُ .
قالَ : أ فَما وَجَبَ أن يُعلِمَ النّاسَ أنَّهُ إمامٌ؟
فَقالَ : إنَّ الإِمامَةَ لا تَكونُ بِفِعلٍ مِنهُ في نَفسِهِ ، ولا بِفِعلٍ مِنَ النّاسِ فيه مِنِ اختِيارٍ أو تَفضيلٍ أو غَيرِ ذلِكَ ، إنَّما تَكونُ ۴۶ بِفِعلٍ مِنَ اللّهِ تَعالى فيهِ ، كَما قالَ لِاءِبراهيمَ عليه السلام : «إِنِّى جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا»۴۷ ، وكَما قالَ عَزَّ وجَلَّ لِداووُدَ عليه السلام : «يَـدَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَـكَ خَلِيفَةً فِى الْأَرْضِ»۴۸ ، وكَما قالَ عَزَّ وجَلَّ لِلمَلائِكَةِ في آدَمَ عليه السلام : «إِنِّى جَاعِلٌ فِى الْأَرْضِ خَلِيفَةً»۴۹ ؛ فَالإِمامُ إنَّما يَكونُ إماما مِن قِبَلِ اللّهِ تَعالى ، وبِاختِيارِهِ إيّاهُ في بَدءِ الصَّنيعَةِ ، وَالتَّشريفِ فِي النَّسَبِ ، وَالطَّهارَةِ فِي المَنشَأِ ، وَالعِصمَةِ فِي المُستَقبَلِ ، ولَو كانَت بِفِعلٍ مِنهُ في نَفسِهِ كانَ مَن فَعَلَ ذلِكَ الفِعلَ مُستَحِقّا لِلإِمامَةِ ، وإذا عَمِلَ خِلافَهَا اعتَزَلَ ، فَيَكونُ خَليفَةً قَبلَ أفعالِهِ .
قالَ آخَرُ : فَلِمَ أوجَبَ الإمامَةَ لِعَلِيٍّ عليه السلام بَعدَ الرَّسولِ صلى الله عليه و آله ؟
فَقالَ : لِخُروجِهِ مِنَ الطُّفولِيَّةِ إلَى الإِيمانِ كَخُروجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله مِنَ الطُّفولِيَّةِ إلَى الإِيمانِ وَالبَراءَةِ مِن ضَلالَةِ قَومِهِ عَنِ الحُجَّةِ وَاجتِنابِهِ الشِّركَ ۵۰ ، كَبَراءَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله مِنَ الضَّلالَةِ وَاجتِنابِهِ لِلشِّركِ ؛ لاِنَّ الشِّركَ ظُلمٌ ، ولا يَكونُ الظّالِمُ إماما ، ولا مَن عَبَدَ وَثَنا بِإِجماعٍ ، ومَن أشَرَكَ فَقَد حَلَّ مِنَ اللّهِ تَعالى مَحَلَّ أعدائِهِ ، فَالحُكمُ فيهِ الشَّهادَةُ عَلَيهِ بِمَا اجتَمَعَت عَلَيهِ الاُمَّةُ حَتّى يَجيءَ إجماعٌ آخَرُ مِثلُهُ ، ولِأَنَّ مَن حُكِمَ عَلَيهِ مَرَّةً فَلا يَجوزُ أن يَكونَ حاكِما ، فَيَكونَ الحاكِمُ مَحكوما عَلَيهِ ، فَلا يَكونُ حينَئِذٍ فَرقٌ بَينَ الحاكِمِ وَالمَحكومِ عَلَيهِ .
قالَ آخَرُ : فَلِمَ لَم يُقاتِل عَلِيٌّ عليه السلام أبا بَكرٍ وعُمَرَ كَما قاتَلَ مُعاوِيَةَ؟
فَقالَ : المَسأَلَةُ مُحالٌ ؛ لِأنَّ «لِمَ» اقتِضاءٌ ، و «لَم يَفعَل» نَفيٌ ، وَالنَّفيُ لا يَكونُ لَهُ عِلَّةٌ ، إنَّمَا العِلَّةُ لِلإِثباتِ ، وإنَّما يَجِبُ أن يُنظَرَ في أمرِ عَلِيٍّ عليه السلام أمِن قِبَلِ اللّهِ أم مِن قِبَلِ غَيرِهِ؟ فَإِن صَحَّ أنَّهُ مِن قِبَلِ اللّهِ تَعالى فَالشَّكُّ في تَدبيرِهِ كُفرٌ ؛ لِقَولِهِ تَعالى : «فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا»۵۱ . فَأَفعالُ الفاعِلِ تَبَعٌ لِأَصلِهِ ؛ فَإِن كانَ قِيامُهُ عَنِ اللّهِ تَعالى فَأَفعالُهُ عَنهُ ، وعَلَى النّاسِ الرِّضا وَالتَّسليمُ ، وقَد تَرَكَ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله القِتالَ يَومَ الحُدَيبِيَّةِ يَومَ صَدَّ المُشرِكونَ هَديَهُ عَنِ البَيتِ ، فَلَمّا وَجَدَ الأَعوانَ وقَوِيَ حارَبَ ، كَما قالَ تعَالى فِي الأَوَّلِ ؛ «فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ»۵۲ ، ثُمَّ قالَ عَزَّ وجَلَّ : «فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ»۵۳ .
قالَ آخَرُ : إذا زَعَمتَ أنَّ إمامَةَ عَلِيٍّ عليه السلام مِن قِبَلِ اللّهِ تَعالى ، وأنَّهُ مُفتَرَضُ الطّاعَةِ ، فَلِمَ لَم يَجُز إلَا التَّبليغُ وَالدُّعاءُ لِلأَنبِياءِ عليهم السلام ، وجازَ لِعَلِيٍّ أن يَترُكَ ما اُمِرَ بِهِ مِن دَعوَةِ النّاسِ إلى طاعَتِهِ؟
فَقالَ : مِن قِبَلِ أنّا لَم نَزعُم أنَّ عَلِياً عليه السلام اُمِرَ بِالتَّبليغِ فَيَكونَ رَسولاً ، ولكِنَّهُ عليه السلام وُضِعَ عَلَما بَينَ اللّهِ تَعالى وبَينَ خَلقِهِ ؛ فَمَن تَبِعَهُ كانَ مُطيعا ، ومَن خالَفَهُ كانَ عاصِيا ؛ فَإِن وَجَدَ أعوانا يَتَقَوّى بِهِم جاهَدَ ، وإن لَم يَجِد أعوانا فَاللَّومُ عَلَيهِم لا عَلَيهِ ؛ لِأَنَّهُم اُمِروا بِطاعَتِهِ عَلى كُلِّ حالٍ ، ولَم يُؤمَر هُوَ بِمُجاهَدَتِهِم إلّا بِقُوَّةٍ ، وهُوَ بِمَنزِلَةِ البَيتِ ؛ عَلَى النّاسِ الحَجُّ إلَيهِ ؛ فَإِذا حَجّوا أدَّوا ما عَلَيهِم ، وإذا لَم يَفعَلوا كانَتِ اللّائِمَةُ عَلَيهِم ، لا عَلَى البَيتِ .
وقالَ آخَرُ : إذا اُوجِبَ أنَّهُ لابُدَّ مِن إمامٍ مُفتَرَضِ الطّاعَةِ بِالاِضطِرارِ ، كَيفَ يَجِبُ بِالاِضطِرارِ أنَّهُ عَلِيٌّ عليه السلام دونَ غَيرِهِ؟
فَقالَ : مِن قِبَلِ أنَّ اللّهَ تعَالى لا يَفرِضُ مَجهولاً ، ولا يَكونُ المَفروضُ مُمتَنِعا ؛ إذِ المَجهولُ مُمتَنِعٌ ، فَلابُدَّ مِن دَلالَةِ الرَّسولِ صلى الله عليه و آله عَلَى الفَرضِ ؛ لِيَقطَعَ العُذرَ بَينَ اللّهِ عَزَّ وجَلَّ وبَينَ عِبادِهِ ، أ رَأَيتَ لَو فَرَضَ اللّهُ تَعالى عَلَى النّاسِ صَومَ شَهرٍ ، ولَم يُعلِمِ النّاسَ أيُّ شَهرٍ هُوَ ، ولَم يوسَم بِوَسمٍ ، وكانَ عَلَى النّاسِ استِخراجُ ذلِكَ بِعُقولِهِم ، حَتّى يُصيبوا ما أرادَ اللّهُ تَعالى ، فَيَكونُ النّاسُ حينَئِذٍ مُستَغنينَ عَنِ الرَّسولِ المُبَيِّنِ لَهُم ، وعَنِ الإِمامِ النّاقِلِ خَبَرَ الرَّسولِ إلَيهِم .
وقالَ آخَرُ : مِن أينَ أوجَبتَ أنَّ عَلِيّا عليه السلام كانَ بالِغا حينَ دَعاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه و آله ؟ فَإِنَّ النّاسَ يَزعُمونَ أنَّهُ كانَ صَبِيّا حينَ دُعِيَ ، ولَم يَكُن جازَ عَلَيهِ الحُكمُ ، ولا بَلَغَ مَبلَغَ الرِّجالِ .
فَقالَ : مِن قِبَلِ أنَّهُ لا يَعرى في ذلِكَ الوَقتِ مِن أن يَكونَ مِمَّن اُرسِلَ إلَيهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه و آله لِيَدعُوَهُ ؛ فَإِن كانَ كَذلِكَ فَهُوَ مُحتَمِلُ التَّكليفِ ، قَوِيٌّ عَلى أداءِ الفَرائِضِ . وإن كانَ مِمَّن لَم يُرسَل إلَيهِ فَقَد لَزِمَ النَّبِيَّ صلى الله عليه و آله قَولُ اللّهِ عَزَّ وجَلَّ : «وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ۵۴»۵۵ وكانَ مَعَ ذلِكَ فَقَد كَلَّفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه و آله عِبادَ اللّهِ ما لا يُطيقونَ عَنِ اللّهِ تَبارَكَ وتَعالى ، وهذا مِنَ المُحالِ الَّذي يَمتَنِعُ كَونُهُ ، ولا يَأمُرُ بِهِ حَكيمٌ ، ولا يَدُلُّ عَلَيهِ الرَّسولُ ، تَعالَى اللّهُ عَن أن يَأمُرَ بِالمُحالِ ، وجَلَّ الرَّسولُ مِن أن يَأمُرَ بِخِلافِما يُمكِنُ كَونُهُ في حِكمَةِ الحَكيمِ . فَسَكَتَ القَومُ عِندَ ذلِكَ جَميعا .
فَقالَ المَأمونُ : قَد سَأَلتُموني ونَقَضتُم عَلَيَّ ، أ فَأَسأَلُكُم؟
قالوا : نَعَم .
قالَ : أ لَيسَ قَد رَوَتِ الاُمَّةُ بِإِجماعٍ مِنها أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه و آله قالَ : مَن كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدا فَليَتَبَوَّأ مَقعَدَهُ مِنَ النّارِ؟ قالوا : بَلى . قالَ : ورَوَوا عَنهُ عليه السلام أنَّهُ قالَ : مَن عَصَى اللّهَ بِمَعصِيَةٍ صَغُرَت أو كَبُرَت ثُمَّ اتَّخَذَها دينا ومَضى مُصِرّا عَلَيها فَهُو مُخَلَّدٌ بَينَ أطباقِ الجَحيمِ؟ قالوا : بَلى .
قالَ : فَخَبِّروني عَن رَجُلٍ تَختارُهُ الاُمَّةُ فَتَنصِبُهُ خَليفَةً ، هَل يَجوزُ أن يُقالَ لَهُ : خَليفَةُ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله ، ومِن قِبَلِ اللّهِ عَزَّوجَلَّ ولَم يَستَخلِفهُ الرَّسولُ؟ فَإِن قُلتُم : نَعَم ؛ فَقَد كابَرتُم ، وإن قُلتُم : لا ، وَجَبَ أنَّ أبا بَكرٍ لَم يَكُن خَليفَةَ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله ، ولا كانَ مِن قِبَلِ اللّهِ عَزَّ وجَلَّ ، وأنَّكُم تَكذِبونَ عَلى نَبِيِّ اللّهِ صلى الله عليه و آله ؛ فَإِنَّكُم مُتَعَرِّضونَ لِأَن تَكونوا مِمَّن وَسَمَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه و آله بِدُخولِ النّارِ .
وخَبِّروني في أيِّ قَولَيكُم صَدَقتُم؟ أ في قَولِكُم : مَضى عليه السلام ولَم يَستَخلِف ، أو في قَولِكُم لِأَبي بَكرٍ : يا خَليفَةَ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله ؟ فَإِن كُنتُم صَدَقتُم فِي القَولَينِ ، فَهذا ما لا يُمكِنُ كَونُهُ ؛ إذ كانَ مُتَناقِضا ، وإن كُنتُم صَدَقتُم في أحَدِهِما بَطَلَ الآخَرُ .
فَاتَّقُوا اللّهَ ، وَانظُروا لِأَنفُسِكُم ، ودَعُوا التَّقليدَ ، وتَجَنَّبُوا الشُّبُهاتِ ، فَوَاللّهِ ما يَقبَلُ اللّهُ تَعالى إلّا مِن عَبدٍ لا يَأتي إلّا بِما يَعقِلُ ، ولا يَدخُلُ إلّا فيما يَعلَمُ أنَّهُ حَقٌّ ، وَالرَّيبُ شَكٌّ ، وإدمانُ الشَّكِّ كُفرٌ بِاللّهِ تَعالى ، وصاحِبُهُ فِي النّارِ .
وخَبِّروني هَل يَجوزُ أن يَبتاعَ أحَدُكُم عَبدا ، فَإِذَا ابتَاعَهُ صارَ مَولاهُ ، وصارَ المُشتَري عَبدَهُ؟
قالوا : لا .
قالَ : كَيفَ جازَ أن يَكونَ مَنِ اجتَمَعتُم عَلَيهِ أنتُم لِهَواكُم وَاستَخلَفتُموهُ صارَ خَليفَةً عَلَيكُم ، وأنتُم وَلَّيتُموهُ؟ أ لّا كُنتُم أنتُمُ الخُلَفاءَ عَلَيهِ؟ بَل تُؤتونَ خَليفَةً وتَقولونَ : إنَّهُ خَليفَةُ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله ، ثُمَّ إذا سَخِطتُم ۵۶ عَلَيهِ قَتَلتُموهُ ، كَما فُعِلَ بِعُثمانَ بنِ عَفّانِ !
فَقالَ قائِلٌ مِنهُم : لِأَنَّ الإِمامَ وَكيلُ المُسلِمينَ ، إذا رَضوا عَنهُ وَلَّوهُ ، وإذا سَخِطوا عَلَيهِ عَزَلوهُ .
قالَ : فَلِمَنِ المُسلِمونَ وَالعِبادُ وَالبِلادُ؟
قالوا : لِلّهِ تَعالى .
قالَ : فَاللّهُ ۵۷ أولى أن يُوَكِّلَ عَلى عِبادِهِ وبِلادِهِ مِن غَيرِهِ ؛ لِأَنَّ مِن إجماعِ الاُمَّةِ أنَّهُ مَن أحدَثَ حَدَثا في مُلكِ غَيرِهِ فَهُوَ ضامِنٌ ، ولَيسَ لَهُ أن يُحدِثَ ، فَإِن فَعَلَ فَآثِمٌ غارِمٌ ۵۸ .
ثُمَّ قالَ : خَبِّروني عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله هَلِ استَخلَفَ حينَ مَضى أم لا ؟
فَقالوا : لَم يَستَخلِف .
قالَ : فَتَركُهُ ذلِكَ هُدىً أم ضَلالٌ؟
قالوا : هُدىً .
قالَ : فَعَلَى النّاسِ أن يَتَّبِعُوا الهُدى ويَترُكُوا الباطِلَ ويَتَنَكَّبُوا الضَّلالَ .
قالوا : قَد فَعَلوا ذلِكَ .
قالَ : فَلِمَ استَخلَفَ النّاسُ بَعدَهُ وقَد تَرَكَهُ هُوَ؟ فَتَركُ فِعلِهِ ضَلالٌ ، ومُحالٌ أن يَكونَ خِلافُ الهُدى هُدىً ، وإذا كانَ تَركُ الِاستِخلافِ هُدىً ، فَلِمَ استَخلَفَ أبو بَكرٍ ولَم يَفعَلهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه و آله ؟ ولِمَ جَعَلَ عُمَرُ الأَمرَ بَعدَهُ شورى بَينَ المُسلِمينَ خِلافا عَلى صاحِبِهِ ؟ لِأَنَّكُم زَعَمتُم أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه و آله لَم يَستَخلِف ، وأنَّ أبا بَكرٍ استَخلَفَ ، وعُمَرُ لَم يَترُكِ الِاستِخلافَ كَما تَرَكَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه و آله بِزَعمِكُم ، ولَم يَستَخلِف كَما فَعَلَ أبو بَكرٍ ، وجاءَ بِمَعنىً ثالِثٍ ، فَخَبِّروني أيُّ ذلِكَ تَرَونَهُ صَوابا؟ فَإِن رَأَيتُم فِعلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله صَوابا فَقَد خَطَّأتُم ۵۹ أبا بَكرٍ ، وكَذلِكَ القَولُ في بَقِيَّةِ الأَقاويلِ .
وخَبِّروني أيُّهُما أفضَلُ ، ما فَعَلَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه و آله بِزَعمِكُم مِن تَركِ الِاستِخلافِ ، أو ما صَنَعَت طائِفَةٌ مِنَ الِاستِخلافِ؟
وخَبِّروني هَل يَجوزُ أن يَكونَ تَركُهُ مِنَ الرَّسولِ صلى الله عليه و آله هُدىً ، وفِعلُهُ مِن غَيرِهِ هُدىً ، فَيَكونُ هُدىً ضِدَّ هُدىً ، فَأَينَ الضَّلالُ حَينَئِذٍ؟
وخَبِّروني هَل وُلِّيَ أحَدٌ بَعدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله بِاختِيارِ الصَّحابَةِ مُنذُ قُبِضَ النَّبِيُّ صلى الله عليه و آله إلَى اليَومِ؟ فَإِن قُلتُم : لا ؛ فَقَد أوجَبتُم أنَّ النّاسَ كُلَّهُم عَمِلوا ضَلالَةً بَعدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله ، وإن قُلتُم نَعَم ، كَذَّبتُمُ الاُمَّةَ وأبطَلَ قَولَكُم الوُجودُ الَّذي لا يُدفَعُ .
وخَبِّروني عَن قَولِ اللّهِ عَزَّ وجَلَّ : «قُل لِّمَن مَّا فِى السَّمَـوَ تِ وَالْأَرْضِ قُل لِّلَّهِ»۶۰ أ صِدقٌ هذا أم كِذبٌ ؟
قالوا : صِدقٌ .
قالَ : أ فَلَيسَ ما سِوَى اللّهِ لِلّهِ ؛ إذ كانَ مُحدِثَهُ ومالِكَهُ؟
قالوا : نَعَم .
قالَ : فَفي هذا بُطلانُ ما أوجَبتُم مِنِ اختِيارِكُم خَليفَةً تَفتَرِضونَ طاعَتَهُ ، وتُسَمّونَهُ خَليفَةَ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله وأنتُمُ استَخلَفتُموهُ وهُوَ مَعزولٌ عَنكُم إذا غَضِبتُم عَلَيهِ ، وعَمِلَ بِخِلافِ مَحَبَّتِكُم ، ومَقتولٌ إذا أبَى الِاعتِزالَ .
وَيلَكُم! لا تَفتَروا عَلَى اللّهِ كَذِبا ، فَتَلقَوا وَبالَ ذلِكَ غَدا إذا قُمتُم بَينَ يَدَيِ اللّهِ تَعالى ، وإذا وَرَدتُم عَلى رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله وقَد كَذَبتُم عَلَيهِ متُعَمِّدينَ ، وقَد قالَ : مَن كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدا فَليَتَبَوَّأ مَقعَدَهُ مِنَ النّارِ .
ثُمَّ استَقبَلَ القِبلَةَ ورَفَعَ يَدَيهِ وقالَ : اللّهُمَّ إنّي قَد أرشَدتُهُم ، اللّهُمَّ إنّي قَد أخرَجتُ ما وَجَبَ عَلَيَّ إخراجُهُ مِن عُنُقي ، اللّهُمَّ إنّي لم أدَعهُم في رَيبٍ ولا في شَكٍّ ، اللّهُمَّ إنّي أدينُ بِالتَّقَرُّبِ إلَيكَ بِتَقديمِ عَلِيٍّ عليه السلام عَلَى الخَلقِ بَعدَ نَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله كَما أمَرَنا بِهِ رَسولُكَ صلى الله عليه و آله .
قالَ : ثُمَّ افتَرَقنا فَلَم نَجتَمِع بَعدَ ذلِكَ حَتّى قُبِضَ المَأمونُ .
قالَ مُحَمَّدُ بنُ أحمَدَ بنِ يَحيَى بنِ عِمرانَ الأَشعَرِيُّ : وفي حَديثٍ آخَرَ :
قالَ : فَسَكَتَ القَومُ ، فَقالَ لَهُم : لِمَ سَكَتُّم ؟ قالوا : لا نَدري ما تَقولُ ۶۱ . قالَ : تَكفيني هذِهِ الحُجَّةُ عَلَيكُم . ثُمَّ أمَرَ بِإِخراجِهِم .
قالَ : فَخَرَجنا مُتَحيِّرينَ خَجِلينَ . ثُمَّ نَظَرَ المَأمونُ إلَى الفَضلِ بنِ سَهلٍ فَقالَ : هذا أقصى ما عِندَ القَومِ ، فَلا يَظُنَّ ظانٌّ أنَّ جَلالَتي مَنَعَتهُم مِنَ النَّقضِ عَلَيَّ . ۶۲
1.المأمون الخليفة العبّاسي : ولد سنة ۱۷۰ ه ومات سنة ۲۱۸ ه وله ثمان وأربعون سنة . وقرأ العلم والأدب والأخبار والعقليّات وعلوم الأوائل ، وأمر بتعريب كتبهم (راجع سير أعلام النبلاء : ج ۱۰ ص ۲۷۲ الرقم ۷۲) .
2.في المصدر : «جمعنا» ، والأنسب ما أثبتناه كما في بحار الأنوار .
3.هو الذي حبس بوله (النهاية : ج ۱ ص ۴۱۶ «حقن») .
4.ما بين المعقوفين زيادة يقتضيها السياق .
5.الواقعة : ۳۵ ـ۳۷.
6.النساء : ۱۶۳ .
7.الأحزاب : ۷ .
8.في المصدر : «الكفّار» ، والتصويب من بحار الأنوار .
9.الأنفال : ۳۳ .
10.كذا في المصدر ، والصحيح : «بِمَ» .
11.في المصدر : «فممّن» ، والصحيح ما أثبتناه كما في بحار الأنوار .
12.الواقعة : ۱۰ و ۱۱ .
13.في المصدر : «أم بإلهام» ، والصحيح ما أثبتناه كما في بحار الأنوار .
14.ص : ۸۶ .
15.النجم : ۳ و۴ .
16.العَرِيْش : كلّ ما يستظلّ به (النهاية : ج ۳ ص ۲۰۷ «عرش») .
17.النساء : ۹۵ .
18.الإنسان : ۱ .
19.الإنسان : ۸ .
20.الإنسان : ۲۲ .
21.الإنسان : ۹ .
22.الإنسان : ۱۶ .
23.أنْجَشة : عبدٌ أسود ، وكان حسن الصوت بالحداء ، فحدا بأزواج النبيّ صلى الله عليه و آله في حجّة الوداع ، فأسرعت الإبل ، فقال النبيّ صلى الله عليه و آله ... الحديث (اُسد الغابة : ج ۱ ص ۲۸۴) .
24.في المصدر : «يا إسحاق ، رويدا شوقك بالقوارير» ، والصحيح ما أثبتناه كما في بحار الأنوار.
25.إبراهيم : ۱۷ .
26.أضفنا ما بين المعقوفين من بحار الأنوار .
27.في المصدر : «خبّروني» ، والصحيح ما أثبتناه كما في بحار الأنوار .
28.التوبة : ۴۰ .
29.الكهف : ۳۷ .
30.المجادلة : ۷ .
31.في المصدر : «من» ، والصحيح ما أثبتناه كما في بحار الأنوار .
32.في المصدر : «الصفة السكينة» وحذفنا «الصفة» كما في بحار الأنوار .
33.التوبة : ۲۵ و ۲۶ .
34.سقط ما بين المعقوفين من المصدر ، وأثبتناه من بحار الأنوار .
35.في المصدر : «غدرتنا» ، والصحيح ما أثبتناه كما في بحار الأنوار .
36.مُؤتَة : قرية من قرى البلقاء في حدود الشام ، وقيل : إنّها بمشارف الشام على اثني عشر ميلاً من أذرح حيث فيه قتل ذوالجناحين جعفر بن أبي طالب (تاج العروس :ج ۳ ص ۱۳۱ «مأت») .
37.في المصدر : «خمسة عشر» ، والصحيح ما أثبتناه كما في بحار الأنوار .
38.التوبة : ۳۱ .
39.في المصدر : «بنفسه» ، وما أثبتناه من بحار الأنوار .
40.الأعراف : ۱۴۲ .
41.في المصدر : «إذا» ، والصحيح ما أثبتناه كما في بحار الأنوار .
42.طه : ۲۹ ـ ۳۲ .
43.في المصدر : «عاص ومطيع» ، والصحيح ما أثبتناه كما في بحار الأنوار .
44.في المصدر : «وإنّها يكون» ، والصحيح ما أثبتناه كما في بحار الأنوار.
45.البقرة : ۱۲۴ .
46.ص : ۲۶ .
47.البقرة : ۳۰ .
48.في المصدر : «لشرك» ، والصحيح ما أثبتناه كما في بحار الأنوار .
49.النساء : ۶۵ .
50.الحِجر : ۸۵ .
51.التوبة : ۵ .
52.الوتين : عرق يسقي الكَبِد ، وإذا انقطع مات صاحبه (مفردات ألفاظ القرآن : ص ۸۵۲ «وتن») .
53.الحاقّة : ۴۴ ـ ۴۶ .
54.في المصدر : «أسخطتم» ، وما أثبتناه من بحار الأنوار .
55.في المصدر : «فوَاللّه » بدل «قال : فاللّه » ، والمناسب ما أثبتناه كما في بحار الأنوار .
56.الغارِم : الذي يلتزم ما ضَمِنه وتكفّل به ويؤدّيه . والغُرم : أداء شيء لازم (النهاية : ج ۳ ص ۳۶۳ «غرم») .
57.في المصدر : «أخطأتم» ، والصحيح ما أثبتناه كما في بحار الأنوار .
58.الأنعام : ۱۲ .
59.في بحار الأنوار : «نقول» وهو أظهر .
60.عيون أخبار الرضا عليه السلام : ج ۲ ص ۱۸۵ ح ۲ ، بحار الأنوار : ج ۴۹ ص ۱۸۹ ح ۲ وراجع العقد الفريد : ج ۴ ص ۷۴ .