۳۶۵۹.عنه عليه السلام :كانَ لي عَشرٌ مِن رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله لَم يُعطَهُنَّ أحَدٌ قَبلي ، ولا يُعطاهُنَّ أحَدٌ بَعدي ؛ قالَ لي : يا عَلِيُّ ، أنتَ أخي فِي الدُّنيا وَالآخِرَةِ ، وأنتَ أقرَبُ النّاسِ مِنّي مَوقِفا يَومَ القِيامَةِ ، ومَنزلي ومَنزِلُكَ فِي الجَنَّةِ مُتَواجِهَينِ ۱ كَمَنزِلِ الأَخَوَينِ ، وأنتَ الوَصِيُّ ، وأنتَ الوَلِيُّ ، وأنتَ الوَزيرُ ، عَدُوُّكَ عَدُوّي ، وعَدُوّيَعُدوُّ اللّهِ ، ووَلِيُّكَ وَلِيّي ، ووَلِيّي وَلِيُّ اللّهِ . ۲
۳۶۶۰.عنه عليه السلام :كانَت لي مِن رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله عَشرُ خِصالٍ ، ما يَسُرُّني بِإِحداهُنَّ ما طَلَعَت عَلَيهِ الشَّمسُ ، وما غَرَبَت . فَقيلَ لَهُ : بَيِّنها لَنا يا أميرَ المُؤمِنينَ .
فَقالَ عليه السلام : قالَ لي رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله : يا عَلِيُّ ، أنتَ الأَخُ ، وأنتَ الخَليلُ ، وأنتَ الوَصِيُّ ، وأنتَ الوَزيرُ ، وأنتَ الخَليفَةُ فِي الأَهلِ وَالمالِ وفي كُلِّ غَيبَةٍ أغيبُها ، ومَنزِلَتُكَ مِنّي كَمَنزِلَتي مِن رَبّي ، وأنتَ الخَليفَةُ في اُمَّتي ، وَلِيُّكَ وَلِيّي ، وعَدُوُّكَ عَدُوّي ، وأنتَ أميرُ المُؤمِنينَ وسَيِّدُ المُسلِمينَ مِن بَعدي . ۳
3 / 5 ـ 5
قَد وَفَّيتُ سَبعا وسَبعا وبَقِيَتِ الاُخرى
۳۶۶۱.الإمام الباقر عليه السلام :أتى رَأسُ اليَهودِ عَلِيَّ بنَ أبي طالِبٍ عليه السلام عِنَد مُنصَرَفِهِ عَن وَقعَةِ النَّهرَوانِ وهُوَ جالِسٌ في مَسجِدِ الكوفَةِ ، فَقالَ : يا أميرَ المُؤمِنينَ ، إني اُريدُ أن أسأَلَكَ عَن أشياءَ لا يَعلَمُها إلّا نَبِيٌّ أو وَصِيُّ نَبِيٍّ . قالَ : سَل عَمّا بَدا لَكَ يا أخَا اليَهودِ .
قالَ : إنّا نَجِدُ فِي الكِتابِ أنَّ اللّهَ عَزَّ وجَلَّ إذا بَعَثَ نَبِيّا أوحى إلَيهِ أن يَتَّخِذَ مِن أهلِ بَيتِهِ مَن يَقومُ بِأَمرِ اُمَّتِهِ مِن بَعدِهِ ، وأن يَعهَدَ إلَيهِم فيهِ عَهدا يُحتَذى عَلَيهِ ويُعمَلُ بِهِ في اُمَّتِهِ مِن بَعدِهِ ، وأنَّ اللّهَ عَزَّ وجَلَّ يَمتَحِنُ الأَوصِياءَ في حَياةِ الأَنبِياءِ ، ويَمتَحِنُهُم بَعدَ وَفاتِهِم ، فَأَخبِرني كَم يَمتَحِنُ اللّهُ الأَوصِياءَ في حَياةِ الأَنبِياءِ ؟ وكَم يَمتَحِنُهُم بَعدَ وَفاتِهِم مِن مَرَّةٍ ؟ وإلى ما يَصيرُ آخِرُ أمرِ الأَوصِياءِ إذا رَضِيَ مِحنَتَهُم ؟
فَقالَ لَهُ عَلِيٌّ عليه السلام : وَاللّهِ الَّذي لا إلهَ غَيرُهُ ، الَّذي فَلَقَ البَحرَ لِبَني إسرائيلَ ، وأنزَلَ التَّوراةَ عَلى موسى عليه السلام ، لَئِن أخبَرتُكَ بِحَقٍّ عَمّا تَسأَلُ عَنهُ لَتُقِرَّنَّ بِهِ ؟ قالَ : نَعَم .
قالَ : وَالَّذي فَلَقَ البَحرَ لِبَني إسرائيلَ ، وأنزَلَ التَّوراةَ عَلى موسى عليه السلام ، لَئِن أجَبتُكَ لَتُسلِمَنَّ ؟ قالَ : نَعَم . فَقالَ لَهُ عَلِيٌّ عليه السلام : إنَّ اللّهَ عَزَّ وجَلَّ يَمتَحِنُ الأَوصِياءَ في حَياةِ الأَنبِياءِ في سَبعَةِ مَواطِنَ ؛ لِيَبتَلِيَ طاعَتَهُم ، فَإِذا رَضِيَ طاعَتَهُم ومِحنَتَهُم أمَرَ الأَنبِياءَ أنَ يَتَّخِذوهُم أولِياءَ في حَياتِهِم ، وأوصِياءَ بَعدَ وَفاتِهِم ، ويَصيرُ طاعَةُ الأَوصِياءِ في أعناقِ الاُمَمِ مِمَّن يَقولُ بِطاعَةِ الأَنبِياءِ . ثُمَّ يَمتَحِنُ الأَوصِياءَ بَعدَ وَفاةِ الأَنبِياءِ عليهم السلام في سَبعَةِ مَواطِنَ ؛ لِيَبلُوَ صَبرَهُم ، فَإِذا رَضِيَ مِحنَتَهُم خَتَمَ لَهُم بِالسَّعادَةِ لِيُلحِقَهُم بِالأَنبِياءِ ، وقَد أكمَلَ لَهُمُ السَّعادَةَ .
قالَ لَهُ رَأسُ اليَهودِ : صَدَقتَ يا أميرَ المُؤمِنينَ . فَأَخبِرني كَمِ امتَحَنَكَ اللّهُ في حَياةِ مُحَمَّدٍ مِن مَرَّةٍ ؟ وكَمِ امتَحَنَكَ بَعدَ وَفاتِهِ مِن مَرَّةٍ؟ وإلى ما يَصيرُ آخِرُ أمرِكَ؟ فَأَخَذَ عَلِيٌّ عليه السلام بِيَدِهِ، وقالَ : اِنهَض بِنا اُنبِئكَ بِذلِكَ . فَقامَ إلَيهِ جَماعَةٌ مِن أصحابِهِ فَقالوا : يا أميرَ المُؤمِنينَ ، أنبِئنا بِذلِكَ مَعَهُ، فَقالَ:إنّي أخافُ أن لا تَحتَمِلَهُ قُلوبُكُم. قالوا: ولِمَ ذاكَ يا أميرَ المُؤمِنينَ ؟ قالَ : لِاُمورٍ بَدَت لي مِن كَثيرٍ مِنكُم . فَقامَ إلَيهِ الأَشتَرُ فَقالَ : يا أميرَ المُؤمِنينَ ، أنبِئنا بِذلِكَ،فَوَاللّهِ إنّا لَنَعلَمُ أنَّهُ ما عَلى ظَهرِ الأَرضِ وَصِيُّ نَبِيٍّ سِواكَ ، وإنّا لَنَعلَمُ أنَّ اللّهَ لا يَبعَثُ بَعدَ نَبِيِّنا صلى الله عليه و آله نَبِيّا سِواهُ ، وأنَّ طاعَتَكَ لَفي أعناقِنا ، مَوصولَةً بِطاعَةِ نَِبيِّنا .
فَجَلَسَ عَلِيٌّ عليه السلام وأقبَلَ عَلَى اليَهودِيِّ فَقالَ : يا أخَا اليَهودِ ، إنَّ اللّهَ عَزَّ وجَلَّ امتَحَنَني في حَياةِ نَبِيِّنا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله في سَبعَةِ مَواطِنَ ، فَوَجَدَني فيهِنَّ ـ مِن غَيرِ تَزكِيَةٍ لِنَفسي ـ بِنِعمَةِ اللّهِ لَهُ مُطيعا . قالَ : وفيمَ وفيمَ يا أميرَ المُؤمِنينَ ؟ قالَ : أمّا أوَّلُهُنَّ فَإِنَّ اللّهَ عَزَّ وجَلَّ أوحى إلى نَبِيِّنا صلى الله عليه و آله وحَمَّلَهُ الرِّسالَةَ ، وأنَا أحدَثُ أهلِ بَيتي سِنّا ، أخدِمُهُ في بَيتِهِ ، وأسعى في قَضاءٍ بَينَ يَدَيهِ في أمرِهِ ۴ ، فَدَعا صَغيرَ بَني عَبدِ المُطَّلِبِ وكَبيرَهُم إلى شَهادَةِ أن لا إلهَ إلَا اللّهُ وأنَّهُ رَسولُ اللّهِ، فَامتَنَعوا مِن ذلِكَ ، وأنكَروهُ عَلَيهِ، وهَجَروهُ ، ونابَذوهُ ، وَاعتَزَلوهُ ، وَاجتَنَبوهُ ، وسائِرُ النّاسِ مُقصينَ لَهُ ومُخالِفينَ عَلَيهِ ، قَد استَعظَموا ما أورَدَهُ عَلَيهِم مِمّا لَم تَحتَمِلهُ قُلوبُهُم وتُدرِكهُ عُقولُهُم ، فَأَجَبتُ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله وَحدي إلى ما دَعا إلَيهِ مُسرِعاً مُطيعاً موقِناً ، لَم يَتَخالَجني في ذلِكَ شَكٌّ ، فَمَكَثنا بِذلِكَ ثَلاثَ حِجَجٍ وما عَلى وَجهِ الأَرضِ خَلقٌ يُصَلّي أو يُشهَدُ لِرَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله بِما آتاهُ اللّهُ غَيري وغَيرُ ابنَةِ خُوَيلِدٍ رَحِمَهَا اللّهُ ، وقَد فَعَلَ . ثُمَّ أقبَلَ عليه السلام عَلى أصحابِهِ فَقالَ : أ لَيسَ كَذلِكَ ؟ قالوا : بَلى يا أميرَ المُؤمِنينَ .
فَقالَ عليه السلام : وأمَّا الثّانِيَةُ يا أخَا اليَهودِ ، فَإِنَّ قُرَيشاً لَم تَزَل تَخَيَّلُ الآراءَ وتَعمَلُ الحِيَلَ في قَتلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله حَتّى كانَ آخِرُ مَا اجتَمَعَت في ذلِكَ يَومَ الدّارِ ـ دارِالنَّدوَةِ ـ وإبليسُ المَلعونُ حاضِرٌ في صورَةِ أعوَرِ ثَقيفٍ ، فَلَم تَزَل تَضرِبُ أمرَها ظَهرا لِبَطنٍ حَتَّى اجتَمَعَت آراؤُها عَلى أن يَنتَدِبَ مِن كُلِّ فَخِذٍ مِن قُرَيشٍ رَجُلٌ ، ثُمَّ يَأخُذَ كُلُّ رَجُلٍ مِنهُم سَيفَهُ ، ثُمَّ يَأتِيَ النَّبِيَّ صلى الله عليه و آله وهُوَ نائِمٌ عَلى فِراشِهِ فَيَضرِبونَهُ جَميعاً بِأَسيافِهِم ضَربَةَ رَجُلٍ واحِدٍ فَيَقتُلوهُ ، وإذا قَتَلوهُ مَنَعَت قُرَيشٌ رِجالَها ولَم تُسَلِّمها ، فَيَمضي دَمُهُ هَدَراً .
فَهَبَطَ جَبرَئيلُ عليه السلام عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله ، فَأَنبَأَهُ بِذلِكَ وأخبَرَهُ بِاللَّيلَةِ الَّتي يَجتَمِعونَ فيها ، وَالسّاعَةِ الَّتي يَأتونَ فِراشَهُ فيها ، وأمَرَهُ بِالخُروجِ فِي الوَقتِ الَّذي خَرَجَ فيهِ إلَى الغارِ . فَأَخبَرَني رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله بِالخَبَرِ ، وأمَرَني أن أضطَجِعَ في مَضجَعِهِ ، وأقِيَهُ بِنَفسي ، فَأَسرَعتُ إلى ذلِكَ مُطيعاً لَهُ ، مَسروراً لِنَفسي بِأَن اُقتَلَ دونَهُ ، فَمَضى عليه السلام لَوَجهِهِ ، وَاضطَجَعتُ في مَضجَعِهِ ، وأقبَلَت رَجّالاتُ قُرَيشٍ موقِنَةً في أنفُسِها أن تَقتُلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه و آله ، فَلَمَّا استَوى بي وبِهِمُ البَيتُ الَّذي أنَا فيهِ ناهَضتُهُم بِسَيفي ، فَدَفَعتُهُم عَن نَفسي بِما قَد عَلِمَهُ اللّهُ وَالنّاسُ . ثُمَّ أقبَلَ عليه السلام عَلى أصحابِهِ فَقالَ : أ لَيسَ كَذلِكَ ؟ قالوا : بَلى يا أميرَ المُؤمِنينَ .
فَقالَ عليه السلام : وأمَّا الثّالِثَةُ يا أخَا اليَهودِ ، فَإِنَّ ابنَي رَبيعَةَ وَابنَ عُتبَةَ ـ كانوا فُرسانَ قُرَيشٍ ـ دَعَوا إلَى البِرازِ يَومَ بَدرٍ ، فَلَم يَبرُز لَهُم خَلقٌ مِن قُرَيشٍ ، فَأَنهَضَني رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله مَعَ صاحِبَيَّ رَضِيَ اللّهُ عَنهُما وقَد فَعَلَ وأنَا أحدَثُ أصحابي سِنّاً ، وأقَلُّهُم لِلحَربِ تَجرِبَةً ، فَقَتَلَ اللّهُ عَزَّ وجَلَّ بِيَدي وَليداً وشَيبَةَ سِوى مَن قَتَلتُ مِن جَحاجِحَةِ قُرَيشٍ في ذلِكَ اليَومِ ، وسِوى مَن أسَرتُ ، وكانَ مِنّي أكثَرُ مِمّا كانَ مِن أصحابي ، وَاستُشهِدَ ابنُ عَمّي ۵ في ذلِكَ رَحمَةُ اللّهِ عَلَيهِ . ثُمَّ التَفَتَ إلى أصحابِهِ فَقالَ : ألَيسَ كَذلِكَ ؟ قالوا : بَلى يا أميرَ المُؤمِنينَ .
فَقالَ عَلِيٌّ عليه السلام : وأمَّا الرّابِعَةُ يا أخَا اليَهودِ ، فَإِنَّ أهلَ مَكَّةَ أقبَلوا إلَينا عَلى بَكرَةِ أبيهِم قَدِ استَحاشوا مَن يَليهِم مِن قَبائِلِ العَرَبِ وقُرَيشٍ ؛ طالِبينَ بِثَأرِ مُشرِكي قُرَيشٍ في يَومِ بَدرٍ ، فَهَبَطَ جَبرَئيلُ عليه السلام عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله فَأَنبَأَهُ بِذلِكَ ، فَذَهَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه و آله وعَسكَرَ بِأَصحابِهِ في سَدِّ اُحُدٍ ، وأقبَلَ المُشرِكونَ إلَينا فَحَمَلوا إلَينا ۶ حَملَةَ رَجُلٍ واحِدٍ ، وَاستُشهِدَ مِنَ المُسلِمينَ مَنِ استُشهِدَ ، وكانَ مِمَّن بَقِيَ [ماكانَ] ۷ مِنَ الهَزيمَةِ ، وبَقيتُ مَعَ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله ، ومَضَى المُهاجِرونَ وَالأَنصارُ إلى مَنازِلِهِم مِنَ المَدينَةِ، كُلٌّ يَقولُ : قُتِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه و آله وقُتِلَ أصحابُهُ . ثُمَّ ضَرَبَ اللّهُ عَزَّ وجَلَّ وُجوهَ المُشرِكينَ ، وقَد جُرِحتُ بَينَ يَدَي رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله نَيِّفاً وسَبعينَ جِراحَةً ، مِنها هذِهِ وهذِهِ ـ ثُمَّ ألقى عليه السلام رِداءَهُ وأمَرَّ يَدَهُ عَلى جِراحاتِهِ ـ وكانَ مِنّي في ذلِكَ ما عَلَى اللّهِ عَزَّ وجَلَّ ثَوابُهُ ، إن شاءَ اللّهُ . ثُمَّ التَفَتَ عليه السلام إلى أصحابِهِ فَقالَ : أ لَيسَ كَذلِكَ ؟ قالوا : بَلى يا أميرَ المُؤمِنينَ .
فَقالَ عليه السلام : وأمَّا الخامِسَةُ يا أخَا اليَهودِ ، فَإِنَّ قُرَيشاً وَالعَرَبُ تَجَمَّعَت وعَقَدَت بَينَها عَقداً وميثاقاً لا تَرجِعُ مِن وَجهِها حَتّى تَقتُلَ رَسولَ اللّهِ وتَقتُلَنا مَعَهُ مَعاشِرَ بَني عَبدِ المُطَّلِبِ ، ثُمَّ أقبَلَت بِحَدِّها وحَديدِها حَتّى أناخَت عَلَينا بِالمَدينَةِ واثِقَةً بِأَنفُسِها فيما تَوَجَّهَت لَهُ ، فَهَبَطَ جَبرَئيلُ عليه السلام عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله فَأَنبَأَهُ بِذلِكَ ، فَخَندَقَ عَلى نَفسِهِ ومَن مَعَهُ مِنَ المُهاجِرينَ وَالأَنصارِ . فَقَدِمَت قُرَيشٌ فَأَقامَت عَلَى الخَندَقِ مُحاصِرَةً لَنا ، تَرى في أنفُسِهَا القُوَّةَ وفينَا الضَّعفَ ، تُرعِدُ وتُبرِقُ ، ورَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله يَدعوها إلَى اللّهِ عَزَّ وجَلَّ ويُناشِدُها بِالقَرابَةِ وَالرَّحِمِ فَتَأبى ، ولا يَزيدُها ذلِكَ إلّا عُتُوّاً ، وفارِسُها وفارِسُ العَرَبِ يَومَئِذٍ عَمرُو بنُ عَبدِ وَدٍّ يَهدِرُ كَالبَعيرِ المُغتَلِمِ ، يَدعو إلَى البِرازِ ، ويَرتَجِزُ ، ويَخطِرُ بِرُمحِهِ مَرَّةً وبِسَيفِهِ مَرَّةً ، لا يُقدِمُ عَلَيهِ مُقدِمٌ ، ولا يَطمَعُ فيهِ طامِعٌ، ولا حَمِيَّةٌ تُهَيِّجُهُ ، ولا بَصيرَةٌ تُشَجِّعُهُ ، فَأَنهَضَني إلَيهِ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله ، وعَمَّمَني بِيَدِهِ ، وأعطاني سَيفَهُ هذا ـ و ضَرَبَ بِيَدِهِ إلى ذِي الفَقارِ ـ فَخَرَجتُ إلَيهِ ونِساءُ أهلِ المَدينَةِ بَواكٍ ؛ إشفاقاً عَلَيَّ مِن ابنِ عَبدِ وَدٍّ ، فَقَتَلَهُ اللّهُ عَزَّ وجَلَّ بِيَدي ، وَالعَرَبُ لا تَعُدُّ لَها فارِساً غَيرَهُ ، وضَرَبَني هذِهِ الضَّربَةَ ـ وأومَأَ بِيَدِهِ إلى هامَتِهِ ـ فَهَزَمَ اللّهُ قُرَيشاً وَالعَرَبَ بِذلِكَ ، وبِما كان مِنّي فيهِم مِنَ النِّكايَةِ . ثُمَّ التَفَتَ عليه السلام إلى أصحابِهِ فَقالَ : أ لَيسَ كَذلِكَ ؟ قالوا : بَلى يا أميرَ المُؤمِنينَ .
فَقالَ عليه السلام : وأمَّا السّادِسَةُ يا أخَا اليَهودِ ، فَإِنّا وَرَدنا مَعَ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله مَدينَةَ أصحابِكَ خَيبَرَ عَلى رِجالٍ مِنَ اليَهودِ وفُرسانِها مِن قُرَيشٍ وغَيرِها ، فَتَلَقَّونا بِأَمثالِ الجِبالِ مِنَ الخَيلِ وَالرِّجالِ وَالسِّلاحِ ، وهُمَ في أمنَعِ دارٍ وأكثَرِ عَدَدٍ ، كُلٌّ يُنادي ويَدعو ويُبادِرُ إلَى القِتالِ ، فَلَم يَبرُز إلَيهِم مِن أصحابي أحَدٌ إلّا قَتَلوهُ ، حَتّى إذَا احمَرَّتِ الحَدَقُ ، ودُعيتُ إلَى النِّزالِ ، وأهَمَّت كُلَّ امرِىٍ نَفسُهُ . وَالتَفَتَ بَعضُ أصحابي إلى بَعضٍ وكُلٌّ يَقولُ : يا أبَا الحَسَنِ انهَض . فَأَنهَضَني رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله إلى دارِهِم ، فَلَم يَبرُز إلَيَّ مِنهُم أحَدٌ إلّا قَتَلتُهُ ، ولا يَثبُتُ لي فارِسٌ إلّا طَحَنتُهُ ، ثُمَّ شَدَدتُ عَلَيهِم شِدَّةَ اللَّيثِ عَلى فَريسَتِهِ ، حَتّى أدخَلتُهُم جَوفَ مَدينَتِهِم مُسَدَّداً عَلَيهِم ، فَاقتَلَعتُ بابَ حِصنِهِم بِيَدي ، حَتّى دَخَلتُ عَلَيهِم مَدينَتَهُم وَحدي أقتُلُ مَن يَظهَرُ فيها مِن رِجالها ، وأسبي مَن أجِدُ مِن نِسائِها حَتَّى افتَتَحتُها ۸ وَحدي ، ولَم يَكُن لي فيها مُعاوِنٌ إلَا اللّهُ وَحدَهُ . ثُمَّ التَفَتَ عليه السلام إلى أصحابِهِ فَقالَ : أ لَيسَ كَذلِكَ ؟ قالوا : بَلى يا أميرَ المُؤمِنينَ .
فَقالَ عليه السلام : وأمَّا السّابِعَةُ يا أخَا اليَهودِ ، فَإِنَّ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله لَمّا تَوَجَّهَ لِفَتحِ مَكَّةَ أحَبَّ أن يُعذِرَ إلَيهِم ويَدعُوَهُم إلَى اللّهِ عَزَّ وجَلَّ آخِراً كَما دَعاهُم أوَّلاً ، فَكَتَبَ إلَيهِم كِتاباً يُحَذِّرُهُم فيهِ ويُنذِرُهُم عَذابَ اللّهِ ، ويَعِدُهُمُ الصَّفحَ ، ويُمَنّيهِم مَغفِرَةَ رَبِّهِم ، ونَسَخَ لَهُم في آخِرِهِ سورَةَ بَراءَةٌ لِيَقرَأَها عَلَيهِم . ثُمَّ عَرَضَ عَلى جَميعِ أصحابِهِ المُضِيَّ بِهِ ، فُكُلُّهُم يَرَى التَّثاقُلَ فيهِ ، فَلَمّا رَأى ذلِكَ نَدَبَ مِنهُم رَجُلاً فَوَجَّهَهُ بِهِ ، فَأَتاهُ جَبرَئيلُ فَقالَ : يا مُحَمَّدُ ، لا يُؤَدّي عَنكَ إلّا أنتَ أو رَجُلٌ مِنكَ . فَأَنبَأَني رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله بِذلِكَ ، ووَجَّهَني بِكِتابِهِ ورِسالَتِهِ إلى أهلِ مَكَّةَ ، فَأَتَيتُ مَكَّةَ وأهلُها مَن قَد عَرَفتُم ؛ لَيسَ مِنهُم أحَدٌ إلّا ولَو قَدَرَ أن يَضَعَ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنّي إرباً لَفَعَلَ ، ولَو أن يَبذُلَ في ذلِكَ نَفسَهُ وأهلَهُ ووُلدَهُ ومالَهُ ، فَبَلَّغتُهُم رِسالَةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله ، وقَرَأتُ عَلَيهِم كِتابَهُ ، فَكُلُّهُم يَلقاني بِالتَّهَدُّدِ وَالوَعيدِ ، ويُبدي لِيَ البَغضاءَ ، ويُظهِرُ الشَّحناءَ مِن رِجالِهِم ونِسائِهِم ، فَكانَ مِنّي في ذلِكَ ما قَد رَأَيتُم . ثُمَّ التَفَتَ إلى أصحابِهِ فَقالَ : أ لَيسَ كَذلِكَ ؟ قالوا : بَلى يا أميرَ المُؤمِنينَ .
فَقالَ عليه السلام : يا أخَا اليَهودَ ، هذِهَ المَواطِنُ الَّتِي امتَحَنَني فيهِ رَبّي عَزَّ وجَلَّ مَعَ نَبِيِّهِ صلى الله عليه و آله ، فَوَجَدَني فيها كُلِّها بِمَنِّهِ مُطيعاً ، لَيسَ لِأَحَدٍ فيها مِثلُ الَّذي لي ، ولَو شِئتُ لَوَصَفتُ ذلِكَ ، ولكِنَّ اللّهَ عَزَّ وجَلَّ نَهى عَنِ التَّزكِيَةِ .
فَقالوا : يا أميرَ المُؤمِنينَ ، صَدَقتَ وَاللّهِ ، ولَقَد أعطاكَ اللّهُ عَزَّ وجَلَّ الفَضيلَةَ بِالقَرابَةِ مِن نَبِيِّنا صلى الله عليه و آله ، وأسعَدَكَ بِأَن جَعَلَكَ أخاهُ ، تَنزِلُ مِنهُ بِمَنزِلَةِ هارونَ مِن موسى ، وفَضَّلَكَ بِالمَواقِفِ الَّتي باشَرتَها ، وَالأَهوالِ الَّتي رَكِبتَها ، وذَخَرَ لَكَ الَّذي ذَكَرتَ وأكثَرَ مِنهُ مِمّا لَم تَذكُرهُ ، ومِمّا لَيسَ لِأَحَدٍ مِنَ المُسلِمينَ مِثلُهُ ، يَقولُ ذلِكَ مَن شَهِدَكَ مِنّا مَعَ نَبِيِّنا صلى الله عليه و آله ومَن شَهِدَكَ بَعدَهُ ، فَأَخبِرنا يا أميرَ المُؤمِنينَ ، مَا امتَحَنَكَ اللّهُ عَزَّ وجَلَّ بِهِ بَعدَ نَبِيِّنا صلى الله عليه و آله فَاحتَمَلتَهُ وصَبَرتَ ؟ فَلَو شِئنا أن نَصِفَ ذلِكَ لَوَصَفناهُ ، عِلماً مِنّا بِهِ ، وظُهوراً مِنّا عَلَيهِ ، إلّا أنّا نُحِبُّ أن نَسمَعَ مِنكَ ذلِكَ كَما سَمِعنا مِنكَ مَا امتَحَنَكَ اللّهُ بِهِ في حَياتِهِ فَأَطَعتَهُ فيهِ .
فَقالَ عليه السلام : يا أخَا اليَهودِ ، إنَّ اللّهَ عَزَّ وجَلَّ امتَحَنَني بَعدَ وَفاةِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه و آله في سَبعَةِ مَواطِنَ ، فَوَجَدَني فيهِنَّ ـ مِن غَيرِ تَزكِيَةٍ لِنَفسي ـ بِمَنِّهِ ونِعمَتِهِ صَبوراً .
أمّا أوَّلُهُنَّ يا أخَا اليَهودِ ، فَإِنَّهُ لَم يَكُن لي خاصَّةً دونَ المُسلِمينَ عامَّةً أحَدٌ آنَسُ بِهِ أو أعتَمِدُ عَلَيهِ أو أستَنيمُ ۹ إلَيهِ أو أتَقَرَّبُ بِهِ غَيرُ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله ، هُوَ رَبّاني صَغيراً ، وبَوَّأَني ۱۰ كَبيراً ، وكَفانِي العَيلَةَ ، وجَبَرَني مِنَ اليُتمِ ، وأغناني عَنِ الطَّلَبِ ، ووَقانِيَ المَكسَبَ ، وعالَ لِيَ النَّفسَ وَالوَلَدَ وَالأَهلَ . هذا في تَصاريفِ أمرِ الدُّنيا ، مَعَ ما خَصَّني بِهِ مِنَ الدَّرَجاتِ الَّتي قادَتني إلى مَعالِي الحَقِّ ۱۱ عِندَ اللّهِ عَزَّ وجَلَّ ، فَنَزَلَ بي مِن وَفاةِ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله ما لَم أكُن أظُنُّ الجِبالَ لَو حُمَّلَتهُ عَنوَةً كانَت تَنهَضُ بِهِ ، فَرَأَيتُ النّاسَ مِن أهلِ بَيتي ما بَينَ جازِعٍ لا يَملِكُ جَزَعَهُ ، ولا يَضبِطُ نَفسَهُ ، ولا يَقوى عَلى حَملِ فادِحِ ما نَزَلَ بِهِ ؛ قَد أذهَبَ الجَزَعُ صَبرَهُ ، وأذهَلَ عَقلَهُ ، وحالَبَينَهُ وبَينَ الفَهمِ وَالإِفهامِ ، وَالقَولِ وَالإِسماعِ ، وسائِرُ النّاسِ مِن غَيرِ بَني عَبدِ المُطَّلِبِ بَينَ مُعَزٍّ يَأمُرُ بِالصَّبرِ ، وبَينَ مُساعِدٍ باكٍ لِبُكائِهِم ، جازِعٍ لِجَزَعِهِم ، وحَمَلتُ نَفسي عَلَى الصَّبرِ عِندَ وَفاتِهِ بِلُزومِ الصَّمتِ ، وَالاِشتِغالِ بِما أمَرَني بِهِ مِن تَجهيزِهِ وتَغسيلِهِ وتَحنيطِهِ وتَكفينِهِ وَالصَّلاةِ عَلَيهِ ووَضعِهِ في حُفرَتِهِ ، وجَمعِ كِتابِ اللّهِ وعَهدِهِ إلى خَلقِهِ ، لا يَشغَلُني عَن ذلِكَ بادِرُ دَمعَةٍ ، ولا هائِجُ زَفرَةٍ ، ولا لاذِعُ حُرقَةٍ ، ولا جَزيلُ مُصيبَةٍ ، حَتّى أدَّيتُ في ذلِكَ الحَقَّ الواجِبَ للّهِِ عَزَّ وجَلَّ ولِرَسولِهِ صلى الله عليه و آله عَلَيَّ ، وبَلَّغتُ مِنهُ الَّذي أمَرَني بِهِ ، وَاحتَمَلتُهُ صابِراً مُحتَسِباً . ثُمَّ التَفَتَ عليه السلام إلى أصحابِهِ فَقالَ : أ لَيسَ كَذلِكَ ؟ قالوا : بلى يا أميرَ المُؤمِنينَ .
فَقالَ عليه السلام : وأمَّا الثّانِيَةُ يا أخَا اليَهودِ ، فَإِنَّ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله أمَّرَني في حَياتِهِ عَلى جَميعِ اُمَّتِهِ ، وأخَذَ عَلى جَميعِ مَن حَضَرَهُ مِنهُمُ البَيعَةَ وَالسَّمعَ وَالطّاعَةَ لاِمري ، وأمَرَهُم أن يُبَلِّغَ الشّاهِدُ الغائِبَ ذلِكَ ، فَكُنتُ المُؤَدِّيَ إلَيهِم عَن رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله أمرَهُ إذا حَضَرتُهُ ، وَالأَميرَ عَلى مَن حَضَرَني مِنهُم إذا فارَقتُهُ ، لا تَختَلِجُ في نَفسي مُنازَعَةُ أحَدٍ مِنَ الخَلقِ لي في شَيءٍ مِنَ الأَمرِ في حَياةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله ، ولا بَعدَ وَفاتِهِ .
ثُمَّ أمَرَ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله بِتَوجيهِ الجَيشِ الَّذي وَجَّهَهُ مَعَ اُسامَةَ بنِ زَيدٍ عِندَ الَّذي أحدَثَ اللّهُ بِهِ مِنَ المَرَضِ الَّذي تَوَفّاهُ فيهِ ، فَلَم يَدَعِ النَّبِيُّ أحَداً مِن أفناءِ العَرَبِ ولا مِنَ الأَوسِ وَالخَزرَجِ وغَيرِهِم مِن سائِرِ النّاسِ مِمَّن يَخافُ عَلى نَقضِهِ ومُنازَعَتِهِ ، ولا أحَداً مِمَّن يَراني بِعَينِ البَغضاءِ مِمَّن قَد وَتَرتُهُ بِقَتلِ أبيهِ أو أخيهِ أو حَميمِهِ إلّا وَجَّهَهُ في ذلِكَ الجَيشِ ، ولا مِنَ المُهاجِرينَ وَالأَنصارِ ، وَالمُسلِمينَ وغَيرِهِم ، وَالمُؤَلَّفَةِ قُلوبُهُم ، وَالمُنافِقينَ ؛ لِتَصفُوَ قُلوبُ مَن يَبقى مَعي بِحَضرَتِهِ ، ولِئَلّا يَقولَ قائِلٌ شَيئاً مِمّا أكرَهُهُ ، ولا يَدفَعَني دافِعٌ مِنَ الوِلايَةِ وَالقِيامِ بِأَمرِ رَعِيَّتِهِ مِن بَعدِهِ .
ثُمَّ كانَ آخِرُ ما تَكَلَّمَ بِهِ في شَيءٍ مِن أمرِ اُمَّتِهِ أن يَمضِيَ جَيشُ اُسامَةَ ولا يَتَخَلَّفَ عَنهُ أحَدٌ مِمّن أنهَضَ مَعَهُ ، وتَقَدَّمَ في ذلِكَ أشَدَّ التَّقَدُّمِ ، وأوعَزَ فيهِ أبلَغَ الإِيعازِ ، وأكَّدَ فيهِ أكثَرَ التَّأكيدِ ، فَلَم أشعُر بَعدَ أن قُبِضَ النَّبِيُّ صلى الله عليه و آله إلّا بِرِجالٍ مِن بَعثِ اُسامَةَ بنِ زَيدٍ وأهلِ عَسكَرِهِ قَد تَرَكوا مَراكِزَهُم ، وأخَلّوا مَواضِعَهُم ، وخالَفوا أمرَ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله فيما أنهَضَهُم لَهُ وأمَرَهُم بِهِ وتَقَدَّمَ إلَيهِم ؛ مِن مُلازَمَةِ أميرِهِم ، وَالسَّيرِ مَعَهُ تَحتَ لِوائِهِ حَتّىَينفُذَ لِوَجهِهِ الَّذي أنفَذَهُ إلَيهِ ، فَخَلَّفوا أميرَهُم مُقيماً في عَسكَرِهِ ، وأقبَلوا يَتَبادَرونَ عَلَى الخَيلِ رَكضاً إلى حَلِّ عُقدَةٍ عَقَدَهَا اللّهُ عَزَّ وجَلَّ لي ولِرَسولِهِ صلى الله عليه و آله في أعناقِهِم فَحَلّوها ، وعَهدٍ عاهَدُوا اللّهَ ورَسولَهُ فَنَكَثوهُ ، وعَقَدوا لِأَنفُسِهِم عَقداً ضَجَّت بِهِ أصواتُهُم ، وَاختَصَّت بِهِ آراؤُهُم مِن غَيرِ مُناظَرَةٍ لِأَحَدٍ مِنّا بَني عَبدِ المُطَّلِبِ ، أو مُشارَكَةٍ في رَأيٍ ، أوِ استِقالَةٍ لِما في أعناقِهِم مِن بَيعَتي ، فَعَلوا ذلِكَ وأنَا بِرَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله مَشغولٌ ، وبِتَجهيزِهِ عَن سائِرِ الأَشياءِ مَصدودٌ ، فَإِنَّهُ كانَ أهَمَّها ، وأحَقَّ ما بُدِئَ بِهِ مِنها . فَكانَ هذا ـ يا أخَا اليَهودِ ـ أقرَحَ ما وَرَدَ عَلى قَلبي مَعَ الَّذي أنَا فيهِ مِن عَظيمِ الرَّزِيَّةِ وفاجِعِ المُصيبَةِ ، وفَقِد مَن لا خَلَفَ مِنهُ إلَا اللّهُ تَبارَكَ وتَعالى ، فَصَبَرتُ عَلَيها إذ ۱۲ أتَت بَعدَ اُختِها عَلى تَقارُبِها وسُرعَةِ اتِّصالِها. ثُمَّ التَفَتَ عليه السلام إلى أصحابِهِ فَقالَ: أ لَيسَ كَذلِكَ؟ قالوا: بَلى يا أميرَالمُؤمِنينَ.
فَقالَ عليه السلام : وأمَّا الثّالِثَةُ يا أخَا اليَهودِ ، فَإِنَّ القائِمَ بَعدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله كانَ يَلقاني مُعتَذِراً في كُلِّ أيّامِهِ ، ويَلومُ غَيرَهُ مَا ارتَكَبَهُ مِن أخذِ حَقّي ، ونَقضِ بَيعَتي ، ويَسأَلُني تَحليلَهُ ، فَكُنتُ أقولُ : تَنقَضي أيّامُهُ ثُمَّ يَرجِعُ إلَيَّ حَقِّيَ الَّذي جَعَلَهُ اللّهُ لي عَفواً هَنيئاً مِن غَيرِ أن اُحدِثَ فِي الإِسلامِ ـ مَعَ حُدوثِهِ وقُربِ عَهدِهِ بِالجاهِلِيَّةِ ـ حَدَثاً في طَلَبِ حَقّي بِمُنازَعَةٍ ، لَعَلَّ فُلاناً يَقولُ فيها : نَعَم ، وفُلاناً يَقولُ : لا ، فَيَؤولُ ذلِكَ مِنَ القَولِ إلَى الفِعلِ ، وجَماعَةٌ مِن خَواصِّ أصحابِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله أعرِفُهُم بِالنُّصحِ للّهِِ ولِرَسولِهِ ولِكِتابِهِ ودينِهِ الإِسلامِ يَأتُونِّي عَوداً وبَدءاً وعَلانِيَةً وسِرّاً فَيَدعُونِّي إلى أخذِ حَقّي ، ويَبذُلونَ أنفُسَهُم في نُصرَتي ، لِيُؤَدّوا إلَيَّ بِذلِكَ بَيعَتي في أعناقِهِم ، فَأَقولُ : رُوَيداً وصَبراً قَليلاً ؛ لَعَلَّ اللّهَ يَأتيني بِذلِكَ عَفواً بِلا مُنازَعَةٍ ، ولا إراقَةِ الدِّماءِ ، فَقَدِ ارتابَ كَثيرٌ مِنَ النّاسِ بَعدَ وَفاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله ، وطَمِعَ فِي الأَمرِ بَعدَهُ مَن لَيسَ لَهُ بِأَهلٍ ، فَقالَ كُلُّ قَومٍ : مِنّا أميرٌ ، وما طَمِعَ القائِلونَ في ذلِكَ إلّا لِتَناوُلِ غَيرِي الأَمرَ .
فَلَمّا دَنَت وَفاةُ القائِمِ وَانقَضَت أيّامُهُ صَيَّرَ الأَمرَ بَعدَهُ لِصاحِبِهِ ، فَكانَت هذِهِ اُختَ اُختِها ، ومَحَلُّها مِنّي مِثلُ مَحَلِّها ، وأخَذا مِنّي ما جَعَلَهُ اللّهُ لي ، فَاجتَمَعَ إلَيَّ مِن أصحابِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله مِمَّن مَضى ومِمَّن بَقِيَ مِمَّن أخَّرَهُ اللّهُ مَنِ اجتَمَعَ ، فَقالوا لي فيها مِثلَ الَّذي قالوا في اُختِها ، فَلَم يَعدُ قولِيَ الثّاني قولِيَ الأَوَّلَ،صَبراً وَاحتِساباً ويَقيناً وإشفاقاً مِن أن تَفنى عُصبَةٌ تَأَلَّفَهُم رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله بِاللّينِ مَرَّةً وبِالشِّدَّةِ اُخرى ، وبِالنُّذرِ مَرَّةً وبِالسَّيفِ اُخرى ، حَتّى لَقَد كانَ مِن تَأَلُّفِهِ لَهُم أن كانَ النّاسُ في الكَرِّ وَالفِرارِ وَالشَّبَعِ وَالرَّيِّ وَاللِّباسِ وَالوِطاءِ وَالدِّثارِ ، ونَحنُ أهلُ بَيتِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله لا سُقوفَ لِبُيوتِنا ، ولا أبوابَ ولاسُتورَ إلَا الجَرائِدُ وما أشبَهَها ، ولا وِطاءَ لَنا ، ولا دِثار عَلَينا ، يَتَداوَلُ الثَّوبَ الواحِدَ فِي الصَّلاةِ أكثَرُنا ، ونَطوِي اللَّيالِيَ وَالأَيّامَ عامَّتُنا ، ورُبَّما أتانَا الشَّيءُ مِمّا أفاءَهُ اللّهُ عَلَينا وصَيَّرَهُ لَنا خاصَّةً دونَ غَيرِنا ـ ونَحنُ عَلى ما وَصَفتُ مِن حالِنا ـ فَيُؤثِرُ بِهِ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله أربابَ النِّعَمِ وَالأَموالِ تَأَلُّفاً مِنهُ لَهُم .
فَكُنتُ أحَقَّ مَن لَم يُفَرِّق هذِهِ العُصبَةَ الَّتي أَلَّفَها رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله ، ولَم يَحمِلها عَلَى الخُطَّةِ الَّتي لا خَلاصَ لَها مِنها دونَ بُلوغِها ، أو فَناءِ آجالِها ؛ لِأَنّي لَو نَصَبتُ نَفسي فَدَعَوتُهُم إلى نُصرَتي كانوا مِنّي وفي أمري عَلى إحدى مَنزِلَتَينِ ؛ إمّا مُتَّبِعٌ مُقاتِلٌ ، وإمّا مَقتولٌ إن لَم يَتَّبِعِ الجَميعَ ، وإمّا خاذِلٌ يَكفُرُ بِخِذلانِهِ إن قَصَّرَ في نُصرَتي أو أمسَكَ عَن طاعَتي ، وقَد عَلِمَ اللّهُ أنّي مِنهُ بِمَنزِلَةِ هارونَ مِن موسى ، يَحُلُّ بِهِ في مُخالَفَتي وَالإِمساكِ عَن نُصرَتي ما أحَلَّ قَومُ موسى بِأَنفُسِهِم في مُخالِفَةِ هارونَ وتَركِ طاعَتِهِ . ورَأَيتُ تَجَرُّعَ الغُصَصِ ، ورَدَّ أنفاسِ الصُّعَداءِ ، ولُزومَ الصَّبرِ حَتّى يَفتَحَ اللّهُ أو يَقضِيَ بِما أحَبَّ أزيَدَ لي في حَظّي ، وأرفَقَ بِالعِصابَةِ الَّتي وَصَفتُ أمرَهُم «وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا»۱۳ .
ولَو لَم أتَّقِ هذِهِ الحالَةَ ـ يا أخَا اليَهودِ ـ ثُمَّ طَلَبتُ حَقّي لَكُنتُ أولى مِمَّن طَلَبَهُ ؛ لِعِلمِ مَن مَضى مِن أصحابِ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله ومَن بِحَضرَتِكَ مِنهُ بِأَنّي كُنتُ أكثَرَ عَدَداً ، وأعَزَّ عَشيرَةً ، وأمنَعَ رِجالاً ، وأطوَعَ أمراً ، وأوضَحَ حُجَّةً ، وأكثَرَ فِي هذَا الدّينِ مَناقِبَ وآثاراً ؛ لِسَوابِقي وقَرابَتي ووِراثَتي ، فَضلاً عَنِ استِحقاقي ذلِكَ بِالوَصِيَّةِ الَّتي لا مَخرَجَ لِلعِبادِ مِنها ، وَالبَيعَةِ المُتَقَدِّمَةِ في أعناقِهِم مِمَّن تَناوَلَها ، وقَد قُبِضَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه و آله وإنَّ وِلايَةَ الاُمَّةِ في يَدِهِ وفي بَيتِهِ ، لا في يَدِ الاُلى تَناوَلوها ولا في بُيوتِهِم ، ولَأَهلُ بَيتِهِ الَّذينَ أذهَبَ اللّهُ عَنهُمُ الرِّجسَ وطَهَّرَهُم تَطهيرا أولى بِالأَمرِ مِن بَعدِهِ مِن غَيرِهِم في جَميعِ الخِصالِ . ثُمَّ التَفَتَ عليه السلام إلى أصحابِهِ فَقالَ : أ لَيسَ كَذلِكَ ؟ قالوا : بَلى يا أميرَ المُؤمِنينَ .
فَقالَ عليه السلام : وأمَّا الرّابِعَةُ يا أخَا اليَهودِ ، فَإِنَّ القائِمَ بَعدَ صاحِبِهِ كانَ يُشاوِرُني في مَوارِدِ الاُمورِ فَيُصدِرُها عَن أمري ، ويُناظِرُني في غَوامِضِها فَيُمضيها عَن رَأيي ، لا أعلَمُ أحَداً ولايَعلَمُهُ أصحابي يُناظِرُهُ في ذلِكَ غَيري ، ولا يَطمَعُ فِي الأَمرِ بَعدَهُ سِوايَ ، فَلَمّا أن أتَتهُ مَنِيَّتُهُ عَلى فَجأَةٍ بِلا مَرَضٍ كان قَبلَهُ ، ولا أمرٍ كانَ أمضاهُ في صِحَّةٍ مِن بَدَنِهِ ، لَم أشُكَّ أنّي قَدِ استَرجَعتُ حَقّي في عافِيَةٍ بِالمَنزِلَةِ الَّتي كُنتُ أطلُبُها ، وَالعاقِبَةِ الَّتي كُنتُ ألتَمِسُها ، وإنَّ اللّهَ سَيَأتي بِذلِكَ عَلى أحسَنِ ما رَجَوتُ ، وأفضَلِ ما أمَّلتُ ، وكانَ مِن فِعلِهِ أن خَتَمَ أمرَهُ بِأَن سَمّى قَوماً أنَا سادِسُهُم ، ولَم يَستَوِني ۱۴ بِواحِدٍ مِنهُم ، ولا ذَكَرَ لي حالاً في وِراثَةِ الرَّسولِ ، ولا قَرابَةٍ ، ولا صِهرٍ ، ولا نَسَبٍ ، ولا لِواحِدٍ مِنهُم مِثلُ سابِقَةٍ مِن سَوابِقي ، ولا أثَرٌ مِن آثاري ، وصَيَّرَها شورى بَينَنا ، وصَيَّرَ ابنَهُ فيها حاكِماً عَلَينا ، وأمَرَهُ أن يَضرِبَ أعناقَ النَّفَرِ السَّتَّةِ الَّذينَ صَيَّرَ الأَمرَ فيهم إن لَم يُنفِذوا أمرَهُ ، وكَفى بِالصَّبرِ عَلى هذا ـ يا أخَا اليَهودِ ـ صَبراً .
فَمَكَثَ القَومُ أيّامَهُم كُلَّها كُلٌّ يَخطُبُ لِنَفسِهِ ، وأنَا مُمسِكٌ عَن أن سَأَلوني عَن أمري ، فَناظَرتُهُم في أيّامي وأيّامِهِم ، وآثاري وآثارِهِم ، وأوضَحتُ لَهُم ما لَم يَجهَلوهُ مِن وُجوهِ استِحقاقي لَها دونَهُم ، وذَكَّرتُهُم عَهدَ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله إلَيهِم ، وتأكيدَ ما أكَّدَهُ مِنَ البَيعَةِ لي في أعناقِهِم . دَعاهُم حُبُّ الإِمارَةِ ، وبَسطُ الأَيدي وَالأَلسُنِ فِي الأَمرِ وَالنَّهيِ ، وَالرُّكونُ إلَى الدُّنيا ، وَالِاقتِداءُ بِالماضينَ قَبلَهُم إلى تَناوُلِ ما لَم يَجعَلِ اللّهُ لَهُم .
فَإِذا خَلَوتُ بِالواحِدِ ذَكَّرتُهُ أيّامَ اللّهِ ، وحَذَّرتُهُ ما هُوَ قادِمٌ عَلَيهِ وصائِرٌ إلَيهِ ، التَمَسَ مِنّي شَرطاً أن اُصَيِّرَها لَهُ بَعدي ، فَلَمّا لَم يَجِدوا عِندي إلَا المَحَجَّةَ البَيضاءَ ، وَالحَملَ عَلى كِتابِ اللّهِ عَزَّ وجَلَّ ووَصِيَّةِ الرَّسولِ ، وإعطاءَ كُلِّ امرِئٍ مِنهُم ماجَعَلَهُ اللّهُ لَهُ ، ومَنعَهُ ما لَم يَجعَلِ اللّهُ لَهُ ، أزالَها عَنّي إلَى ابنِ عَفّانَ ؛ طَمَعاً فِي الشَّحيحِ مَعَهُ فيها ، وَابنُ عَفّانَ رَجُلٌ لَم يَستَوِ بِهِ وبِواحِدٍ مِمَّن حَضَرَهُ حالٌ قَطُّ ، فَضلاً عَمَّن دونَهُم ، لا بِبَدرٍ ـ الَّتي هِيَ سَنامُ فَخرِهِم ـ ولا غَيرِها مِنَ المَآثِرِ الَّتي أكرَمَ اللّهُ بِها رَسولَهُ ، ومَنِ اختَصَّهُ مَعَهُ مِن أهلِ بَيتِهِ عليهم السلام .
ثُمَّ لَم أعلَمِ القَومَ أمسَوا مِن يَومِهِم ذلِكَ حَتّى ظَهَرَت نَدامَتُهُم ، ونَكَصوا عَلى أعقابِهِم ، وأحالَ بَعضُهُم عَلى بَعضٍ ، كُلٌّ يَلومُ نَفسَهُ ويَلومُ أصحابَهُ ، ثُمَّ لَم تَطُلِ الأَيّامُ بِالمُستَبِدِّ بِالأَمرِ ؛ ابنِ عَفّانَ حَتّى أكفَروهُ وتَبَرَّؤوا مِنهُ ، ومَشى إلى أصحابِهِ خاصَّةً وسائِرَ أصحابِ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله عامَّةً يَستَقيلُهُم مِن بَيعَتِهِ ، ويَتوبُ إلَى اللّهِ مِن فَلتَتِهِ ، فَكانَت هذِهِ ـ يا أخَا اليَهودِ ـ أكبَرَ مِن اُختِها ، وأفظَعَ وأحرى أن لا يُصبَرَ عَلَيها ، فَنالَني مِنهَا الَّذي لا يُبلَغُ وَصفُهُ ، ولا يُحَدُّ وَقتُهُ ، ولَم يَكُن عِندي فيها إلَا الصَّبرُ عَلى ما أمَضُّ وأبلَغُ مِنها .
ولَقَد أتانِيَ الباقونَ مِنَ السِّتَّةِ مِن يَومِهِم كُلٌّ راجِعٌ عَمّا كانَ رَكِبَ مِنّي يَسأَلُني خَلعَ ابنِ عَفّانَ ، وَالوُثوبَ عَلَيهِ ، وأخذَ حَقّي ، ويُؤتيني صَفقَتَهُ وبَيعَتَهُ عَلَى المَوتِ تَحتَ رايَتي ، أو يَرُدَّ اللّهُ عَزَّ وجَلَّ عَلَيَّ حَقّي . فَوَاللّهِ ـ يا أخَا اليَهودِ ـ ما مَنَعَني مِنها إلَا الَّذي مَنَعَني مِن اُختَيها قَبلَها ، ورَأَيتُ الإِبقاءَ عَلى مَن بَقِيَ مِنَ الطّائِفَةِ أبهَجَ لي وآنَسَ لِقَلبي مِن فَنائِها ، وعَلِمتُ أنّي إن حَمَلتُها عَلى دَعوَةِ المَوتِ رَكِبتُهُ .
فَأَمّا نَفسي فَقَد عَلِمَ مَن حَضَرَ مِمَّن تَرى ومَن غابَ مِن أصحابِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله أنَّ الموتَ عِندي بِمَنزِلَةِ الشَّربَةِ البارِدَةِ فِي اليَومِ الشَّديدِ الحَرِّ مِن ذِي العَطَشِ الصَّدى ۱۵ ، ولَقَد كُنتُ عاهَدتُ اللّهَ عَزَّ وجَلَّ ورَسولَهُ صلى الله عليه و آله أنَا وعَمّيحَمزَةُ وأخي جَعفَرٌ وَابنُ عَمّي عُبَيدَةُ عَلى أمرٍ وَفَينا بِهِ للّهِِ عَزَّ وجَلَّ ولِرَسولِهِ ، فَتَقَدَّمَني أصحابي وتَخَلَّفتُ بَعدَهُم لِما أرادَ اللّهُ عَزَّ وجَلَّ ، فَأَنزَلَ اللّهُ فينا : «مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَـهَدُواْ اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَ مِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَ مَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً »۱۶ حَمزَةُ وجَعفَرٌ وعُبَيدَةُ ، وأنَا وَاللّهِ المُنتَظِرُ ـ يا أخَا اليَهودِ ـ وما بَدَّلتُ تَبديلاً ، وما سَكَّتَني عَنِ ابنِ عَفّانَ وحَثَّني عَلَى الإِمساكِ عَنهُ إلّا أنّي عَرفتُ مِن أخلاقِهِ فيمَا اختَبَرتُ مِنهُ بِما لَن يَدَعَهُ حَتّى يَستَدعِيَ الأَباعِدَ إلى قَتلِهِ وخَلعِهِ ، فَضلاً عَنِ الأَقارِبِ ، وأنَا في عُزلَةٍ ، فَصَبَرتُ حَتّى كانَ ذلِكَ ، لَم أنطِق فيهِ بِحَرفٍ مِن «لا» ولا «نَعَم» .
ثُمَّ أتانِيَ القَومُ وأنَا ـ عَلِمَ اللّهُ ـ كارِهٌ ؛ لِمَعرِفَتي بِما تَطاعَموا بِهِ مِنِ اعتِقالِ الأَموالِ ، وَالمَرَحِ فِي الأَرضِ ، وعِلمِهِم بِأَنَّ تِلكَ لَيسَت لَهُم عِندي ، وشَديدٌ عادَةٌ مُنتَزِعَةٌ ، فَلَمّا لَم يَجِدوا عِندي تَعَلَّلُوا الأَعاليلَ . ثُمَّ التَفَتَ عليه السلام إلى أصحابِهِ فَقالَ : أ لَيسَ كَذلِكَ ؟ فَقالوا : بَلى يا أميرَ المُؤمِنينَ .
فَقالَ عليه السلام : وأمَّا الخامِسَةُ يا أخَا اليَهودِ ، فَإنَّ المُتابِعينَ لي لَمّا لَم يَطمَعوا في تِلكَ مِنّي وَثَبوا بِالمَرأَةِ عَلَيَّ وأنَا وَلِيُّ أمرِها ، وَالوَصِيُّ عَلَيها ، فَحَمَلوها عَلَى الجَمَلِ ، وشَدّوها عَلَى الرِّحالِ ، وأقبَلوا بِها تَخبِطُ الفَيافِيَ ۱۷ ، وتَقطَعُ البَرارِيَ ، وتَنبَحُ عَلَيها كِلابُ الحَوأَبِ ، وتُظهِرُ لَهُم عَلاماتِ النَّدَمِ في كُلِّ ساعَةٍ وعِندَ كُلِّ حالٍ ، في عُصبَةٍ قَد بايَعوني ثانِيَةً بَعدَ بَيعَتِهِمُ الاُولى في حَياةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله ، حَتّى أتَت أهلَ بَلدَةٍ قَصيرَةٍ أيديهِم ، طَويلَةٍ لِحاهُم ، قَليلَةٍ عُقولُهُم ، عازِبَةٍ آراؤُهُم، وهُم جيرانُ بَدوٍ، ووُرّادُ بَحرٍ، فَأَخرَجَتهم يَخبِطونَ بِسُيوفِهِم مِن غَيرِ عِلمٍ ، ويَرمونَ بِسِهامِهِم بِغَيرِ فَهمٍ .
فَوَقَفتُ مِن أمرِهِم عَلَى اثنَتَينِ كِلتاهُما في مَحَلَّةِ المَكروهِ ؛ مِمَّن إن كَفَفتُ لَم يَرجِع ولمَ يَعقِل ، وإن أقَمتُ كُنتُ قَد صِرتُ إلَى الَّتي كَرِهتُ ، فَقَدَّمتُ الحُجَّةَ بِالإِعذارِ وَالإِنذارِ ، ودَعَوتُ المَرأَةَ إلَى الرُّجوعِ إلى بَيتِها ، وَالقَومَ الَّذينَ حَمَلوها عَلَى الوَفاءِ بِبَيعَتِهِم لي ، وَالتَّركِ لِنَقضِهِم عَهدَ اللّهِ عَزَّ وجَلَّ فِيَّ ، وأعطَيتُهُم مِن نَفسي كُلَّ الَّذي قَدَرتُ عَلَيهِ ، وناظَرتُ بَعضَهُم فَرَجَعَ ، وذَكَّرتُ فَذَكَرَ .
ثُمَّ أقبَلتُ عَلَى النّاسِ بِمِثلِ ذلِكَ فَلَم يَزدادوا إلّا جَهلاً وتَمادِياً وغَيّاً ، فَلَمّا أبَوا إلّا هِيَ ، رَكِبتُها مِنهُم ، فَكانَت عَلَيهِمُ الدَّبرَةُ ۱۸ ، وبِهِمُ الهَزيمَةُ ، ولَهُمُ الحَسرَةُ ، وفيهِمُ الفَناءُ وَالقَتلُ . وحَمَلتُ نَفسي عَلَى الَّتي لَم أجِد مِنها بُدّاً ، ولَم يَسَعني إذ فَعَلتُ ذلِكَ وأظهَرتُهُ آخِراً مِثلُ الَّذي وَسَعَني مِنهُ أوَّلاً ؛ مِنَ الإِغضاءِ وَالإِمساكِ ، ورَأَيتُني إن أمسَكتُ كُنتُ مُعيناً لَهُم عَلَيَّ بِإِمساكي عَلى ما صاروا إلَيهِ ، وطَمِعُوا فيهِ مِن تَناوُلِ الأَطرافِ ، وسَفكِ الدِّماءِ ، وقَتلِ الرَّعِيَّةِ ، وتَحكيمِ النِّساءِ النَّواقِصِ العُقولِ وَالحُظوظِ عَلى كُلِّ حالٍ ، كَعادَةِ بَني الأَصفَرِ ومَن مَضى مِن مُلوكِ سَبَاً وَالاُمَمِ الخالِيَةِ ، فَأَصيرُ إلى ما كَرِهتُ أوَّلاً وآخِراً .
وقَد أهمَلتُ المَرأَةَ وجُندَها يَفعَلونَ ما وَصَفتُ بَينَ الفَريقَينِ مِنَ النّاسِ ، ولَم أهجُم عَلَى الأَمرِ إلّا بعَدَما قَدَّمتُ وأخَّرتُ ، وتَأَنَّيتُ وراجَعتُ ، وأرسَلتُ وسافَرتُ ، وأعذَرتُ وأنذَرتُ ، وأعطَيتُ القَومَ كُلَّ شَيءٍ التَمَسوهُ بَعدَ أن عَرَضتُ عَلَيهِم كُلَّ شَيءٍ لَم يَلتَمِسوهُ ، فَلَمّا أبَوا إلّا تِلكَ ، أقدَمتُ عَلَيها ، فَبَلَغَ اللّهُ بي وبِهِم ما أرادَ ، وكانَ لي عَلَيهِم بِما كانَ مِنّي إلَيهِم شَهيداً . ثُمَّ التَفَتَ عليه السلام إلى أصحابِهِ فَقالَ : أ لَيسَ كَذلِكَ ؟ قالوا : بَلى يا أميرَ المُؤمِنينَ .
فَقالَ عليه السلام : وأمَّا السّادِسَةُ يا أخَا اليَهودِ ، فَتَحكيمُهُمُ الحَكَمَينِ وُمحارَبَةُ ابنِ آكِلَةِ الأَكبادِ وهُوَ طَليقٌ مُعانِدٌ للّهِِ عَزَّ وجَلَّ ولِرَسولِهِ وَالمُؤمِنينَ مُنذُ بَعَثَ اللّهُ مُحَمَّداً إلى أن فَتَحَ اللّهُ عَلَيهِ مَكَّةَ عَنوَةً ، فَاُخِذَت بَيعَتُهُ وبَيعَةُ أبيهِ لي مَعَهُ في ذلِكَ اليَومِ وفي ثَلاثَةِ مَواطِنَ بَعدَهُ ، وأبوهُ بِالأَمسِ أوَّلَ مَن سَلَّمَ عَلَيَّ بِإِمرَةِ المؤُمِنينَ ، وجَعَلَ يَحُثُّني عَلَى النُّهوضِ في أخَذِ حَقّي مِنَ الماضينَ قَبلي ، ويُجَدِّدُ لي بَيعَتَهُ كُلَّما أتاني .
وأعجَبُ العَجَبِ أنَّهُ لَمّا رَأى رَبّي تَبارَكَ وتَعالى قَد رَدَّ إلَيَّ حَقّي وأقَرَّ في مَعدِنِهِ ، وَانقَطَعَ طَمَعُهُ أن يَصيرَ في دينِ اللّهِ رابِعاً ، وفي أمانَةٍ حُمِّلناها حاكِماً ، كَرَّ عَلَى العاصِي بنِ العاصِ فَاستَمالَهُ ، فَمالَ إلَيهِ ، ثُمَّ أقبَلَ بِهِ بَعدَ أن أطمَعَهُ مِصرَ ، وحَرامٌ عَلَيهِ أن يَأخُذَ مِنَ الفَيءِ دونَ قِسمِهِ دِرهَماً ، وحَرامٌ عَلَى الرّاعي إيصالُ دِرهَمٍ إلَيهِ فَوقَ حَقِّهِ ، فَأَقبَلَ يَخبِطُ البِلادَ بِالظُّلمِ ، ويَطَأُها بِالغَشمِ ، فَمَن بايَعَهُ أرضاهُ ، ومَن خالَفَهُ ناواهُ .
ثُمَّ تَوَجَّهَ إلَيَّ ناكِثاً عَلَينا ، مُغيراً فِي البِلادِ شَرقاً وغَرباً ، ويَميناً وشِمالاً ، وَالأَنباءُ تَأتيني وَالأَخبارُ تَرِدُ عَلَيَّ بِذلِكَ ، فَأَتاني أعوَرُ ثَقيفٍ فَأَشارَ عَلَيَّ أن اُوَلِّيَهُ البِلادَ الَّتي هُوَ بِها ؛ لِاُدارِيَهُ بِما اُوَلّيهِ مِنها ، وفِي الَّذي أشارَ بِهِ الرَّأيُ في أمرِ الدُّنيا ، لَو وَجَدتُ عِندَ اللّهِ عَزَّ وجَلَّ في تَولِيَتِهِ لي مَخرَجاً ، وأصَبتُ لِنَفسي في ذلِكَ عُذراً ، فَأَعلَمتُ الرَّأيَ في ذلِكَ ، وشاوَرتُ مَن أثِقُ بِنَصيحَتِهِ للّهِِ عَزَّ وجَلَّ ولِرَسولِهِ صلى الله عليه و آله ولي ولِلمُؤمِنينَ ، فَكانَ رَأيُهُ في ابنِ آكِلَةِ الأَكبادِ كَرَأيي ، يَنهاني عنَ تَولِيَتِهِ ، ويُحَذِّرُني أن اُدخِلَ في أمرِ المُسلِمينَ يَدَهُ ، ولَم يَكُنِ اللّهُ لِيَراني أتَّخِذُ المُضِلّينَ عَضُداً ۱۹ .
فَوَجَّهتُ إلَيهِ أخا بَجيلَةَ مَرَّةً ، وأخَا الأَشعَرِيّينَ مَرَّةً ، كِلاهُما رَكَنَ إلَى الدُّنيا ، وتابَعَ هَواهُ فيما أرضاهُ ، فَلَمّا لَم أرَهُ أن يَزدادَ فيمَا انتَهَكَ مِن مَحارِمِ اللّهِ إلّا تَمادِياً شاوَرتُ مَن مَعي مِن أصحابِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله البَدرِيّينَ ، وَالَّذينَ ارتَضَى اللّهُ عَزَّ وجَلَّ أمرَهُم ورَضِيَ عَنهُم بَعدَ بَيعَتِهِم ، وغَيرِهِم مِن صُلَحاءِ المُسلِمينَ وَالتّابِعينَ ، فَكُلٌّ يُوافِقُ رَأيُهُ رَأيي ؛ في غَزوِهِ ومُحارَبَتِهِ ومَنعِهِ مِمّا نالَت يَدُهُ .
وإنّي نَهَضتُ إلَيهِ بِأَصحابي ، اُنفِذُ إلَيهِ مِن كُلِّ مَوضِعٍ كُتُبي ، واُوَجِّهُ إلَيهِ رُسُلي ، أدعوهُ إلَى الرُّجوعِ عَمّا هُوَ فيهِ ، وَالدُّخولِ فيما فيهِ النّاسُ مَعي ، فَكَتَبَ يَتَحَكَّمُ عَلَيَّ ، ويَتَمَنّى عَلَيَّ الأَمانِيَّ ، ويَشتَرِطُ عَلَيَّ شُروطاً لا يَرضاهَا اللّهُ عَزَّ وجَلَّ ورَسولُهُ ولَا المُسلِمونَ، ويَشتَرِطُ في بَعضِها أن أدفَعَ إلَيهِ أقواماً مِن أصحابِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله أبراراً ، فيهِم عَمّارُ بنُ ياسِرٍ ، وأينَ مِثلُ عَمّارٍ ؟ ! وَاللّهِ لَقَدَرَأيتُنا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله وما يُعَدُّ مِنّا خَمسَةٌ إلّا كانَ سادِسَهُم ، ولا أربَعَةٌ إلّا كانَ خامِسَهُم ، اشتَرَطَ دَفعَهُم إلَيهِ لِيَقتُلَهُم ويُصَلِّبَهُم . وَانتَحَلَ دَمَ عُثمانَ ، ولَعَمرُو اللّهِ ما ألَّبَ ۲۰ عَلى عُثمانَ ولا جَمَعَ النّاسَ عَلى قَتلِهِ إلّا هُوَ وأشباهُهُ مِن أهلِ بَيتِهِ ، أغصانُ الشَّجَرَةِ المَلعونَةِ فِي القُرآنِ .
فَلَمّا لَم اُجِب إلى مَا اشتَرَطَ مِن ذلِكَ كَرَّ مُستَعلِياً في نَفسِهِ بِطُغيانِهِ وبَغيِهِ ، بِحَميرٍ لا عُقولَ لَهُم ولا بَصائِرَ ، فَمَوَّهَ لَهُم أمراً فَاتَّبَعوهُ ، وأعطاهُم مِنَ الدُّنيا ما أمالَهُم بِهِ إلَيهِ ، فَناجَزناهُم وحاكَمناهُم إلَى اللّهِ عَزَّ وجَلَّ بَعدَ الإِعذارِ وَالإِنذارِ ، فَلَمّا لَم يَزِدهُ ذلِكَ إلّا تَمادِياً وبَغياً لَقيناهُ بِعادَةِ اللّهِ الَّتي عَوَّدَناهُ مِنَ النَّصرِ عَلى أعدائِهِ وعَدُوِّنا ، ورايَةُ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله بِأَيدينا ، لَم يَزَلِ اللّهُ تَبارَكَ وتَعالى يَفُلُّ حِزبَ الشَّيطانِ بِها حَتّى يَقضِيَ المَوتَ عَلَيهِ ، وهُوَ مُعلِمُ راياتِ أبيهِ الَّتي لَم أزَل اُقاتِلُها مَعَ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله في كُلِّ المَواطِنِ ، فَلَم يَجِد مِنَ المَوتِ مَنجى إلَا الهَرَبَ ، فَرَكَبَ فَرَسَهُ ، وقَلَبَ رايَتَهُ ، لا يَدري كَيفَ يَحتالُ .
فَاستَعانَ بِرَأيِ ابنِ العاصِ ، فَأَشارَ عَلَيهِ بِإِظهارِ المَصاحِفِ ، ورَفعِها عَلَى الأَعلامِ وَالدُّعاءِ إلى ما فيها ، وقالَ : إنَّ ابنَ أبي طالِبٍ وحِزبَهُ أهلُ بَصائِرَ ورَحمَةٍ وتُقيا ۲۱ ، وقَد دَعَوكَ إلى كِتابِ اللّهِ أوَّلاً وهُم مُجيبوكَ إلَيهِ آخِراً . فَأَطاعَهُ فيما أشارَ بِهِ عَلَيهِ ؛ إذ رَأى أنَّهُ لا مَنجى لَهُ مِنَ القَتلِ أوِ الهَرَبِ غَيرُهُ ، فَرَفَعَ المَصاحِفَ يَدعو إلى ما فيها بِزَعمِهِ .
فَمالَت إلَى المَصاحِفِ قُلوبٌ ، ومَن بَقِيَ من أصحابي بَعدَ فَناءِ أخيارِهِم وجَهدِهِم في جِهادِ أعداءِ اللّهِ وأعدائِهِم عَلى بَصائِرِهِم ، وظَنّوا أنَّ ابنَ آكِلَةِ الأَكبادِ لَهُ الوَفاءُ بِما دَعا إلَيهِ ، فَأَصغَوا إلى دَعوَتِهِ ، وأقبَلوا بِأَجمَعِهِم في إجابَتِهِ ، فَأَعلَمتُهُم أنَّ ذلِكَ مِنهُ مَكرٌ ومِنِ ابنِ العاصِ مَعَهُ ، وأنَّهُما إلَى النَّكثِ أقرَبُ مِنهُما إلَى الوَفاءِ . فَلَم يَقبَلوا قَولي ، ولَم يُطيعوا أمري ، وأَبَوا إلّا إجابَتَهُ ، كَرِهتُ أم هَويتُ ، شِئتُ أو أبَيتُ، حَتّى أخَذَ بَعضُهُم يَقولُ لِبَعضٍ : إن لَم يَفعَل فَأَلحِقوهُ بِابنِ عَفّانَ ، أوِ ادفَعوهُ إلَى ابنِ هِندٍ بِرُمَّتِهِ .
فَجَهَدتُ ـ عَلِمَ اللّهُ جَهدي ـ ولَم أدَع غُلّةً ۲۲ في نَفسي إلّا بَلَّغتُها في أن يُخَلّوني ورَأيي ، فَلَم يَفعَلوا ، وراوَدتُهُم عَلَى الصَّبرِ عَلى مِقدارِ فُواقِ النّاقَةِ أو رَكضَةِ الفَرَسِ فَلَم يُجيبوا ، ما خَلا هذَا الشَّيخَ ـ وأومَأَ بِيَدِهِ إلَى الأَشتَرِ ـ وعُصبَةً مِن أهلِ بَيتي ، فَوَاللّهِ ما مَنَعَني أن أمضِيَ عَلى بَصيرَتي إلّا مَخافَةَ أن يُقتَلَ هذانِ ـ وأومَأَ بِيَدِهِ إلَى الحَسَنِ وَالحُسَينِ عليهماالسلام ـ فَيَنقَطِعَ نَسلُ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله وذُرِّيَّتُهُ مِن اُمَّتِهِ ، ومَخافَةَ أن يُقتَلَ هذا وهذا ـ وأومَأَ بِيَدِهِ إلى عَبدِ اللّهِ بنِ جَعفَرٍ ومُحَمَّدِ ابنِ الحَنَفِيَّةِ ـ فَإِنّي أعلَمُ لَولا مَكاني لَم يَقِفا ذلِكَ المَوقِفَ ، فَلِذلِكَ صَبَرتُ عَلى ما أرادَ القَومُ ، مَعَ ما سَبَقَ فيهِ مِن عَلمِ اللّهِ عَزَّ وجَلَّ .
فَلَمّا رَفَعنا عَنِ القَومِ سُيوفَنا تَحَكَّموا فِي الاُمورِ ، وتَخَيَّروا الأَحكامَ وَالآراءَ ، وتَرَكُوا المَصاحِفَ وما دَعَوا إلَيهِ مِن حُكمِ القُرآنِ ، وما كُنتُ اُحَكِّمُ في دينِ اللّهِ أحَداً ؛ إذ كانَ التَّحكيمُ في ذلِكَ الخَطَأَ الَّذي لا شَكَّ فيهِ ولَا امتِراءَ ، فَلَمّا أبَوا إلّا ذلِكَ أرَدتُ أن اُحَكِّمَ رَجُلاً مِن أهلِ بَيتي أو رَجُلاً مِمَّن أرضى رَأيَهُ وعَقلَهُ وأثِقُ بِنَصيحَتِهِ ومَوَدَّتِهِ ودينِهِ ، وأقبَلتُ لا اُسَمّي أحَداً إلَا امتَنَعَ مِنهُ ابنُ هِندٍ ، ولا أدعوهُ إلى شَيءٍ مِنَ الحَقِّ إلّا أدبَرَ عَنهُ . وأقبَلَ ابنُ هِندٍ يَسومُنا ۲۳ عَسفاً ، وما ذاكَ إلّا بِاتِّباعِ أصحابي لَهُ عَلى ذلِكَ .
فَلَمّا أبَوا إلّا غَلَبَتي عَلَى التَّحَكُّمِ تَبَرَّأتُ إلَى اللّهِ عَزَّ وجَلَّ مِنهُم ، وفَوَّضتُ ذلِكَ إلَيهِم ، فَقَلَّدوهُ امرَءاً ، فَخَدَعَهُ ابنُ العاصِ خَديعَةً ظَهَرَت في شَرقِ الأَرضِ وغَربِها ، وأظهَرَ المَخدوعُ عَلَيها نَدَماً . ثُمَّ أقبَلَ عليه السلام عَلى أصحابِهِ فَقال : أ لَيسَ كَذلِكَ ؟ قالوا : بَلى يا أميرَ المُؤمِنينَ .
فَقالَ عليه السلام : وأمَّا السّابِعَةُ يا أخَا اليَهودِ ، فَإِنَّ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله كانَ عَهِدَ إلَيَّ أن اُقاتِلَ في آخِرِ الزَّمانِ مِن أيّامي قَوماً مِن أصحابي يَصومونَ النَّهارَ ويَقومونَ اللَّيلَ ويَتلونَ الكِتابَ ، يَمرُقونَ ـ بِخِلافِهِم عَلَيَّ ومُحارَبَتِهِم إيّايَ ـ مِنَ الدّينِ مُروقَ السَّهمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ ، فيهِم ذُو الثُدَيَّةِ ، يُختَمُ لي بِقَتلِهِم بِالسَّعادَةِ .
فَلَمَّا انصَرَفتُ إلى مَوضِعي هذا ـ يَعني بَعدَ الحَكَمَينِ ـ أقبَلَ بَعضُ القَومِ عَلى بَعضٍ بِاللائِمَةِ فيما صاروا إلَيهِ مِن تَحكيمِ الحَكَمَينِ ، فَلَم يَجِدوا لِأَنفُسِهِم مِن ذلِكَ مَخرَجاً إلّا أن قالوا : كانَ يَنبَغي لِأَميرِنا أن لا يُبايِعَ ۲۴ مَن أخطَأَ ، وأن يَقضِيَ بِحَقيقَةِ رَأيِهِ عَلى قَتلِ نَفسِهِ وقَتلِ مَن خالَفَهُ مِنّا ، فَقَد كَفَرَ بِمُتابَعَتِهِ إيّانا وطاعَتِهِ لَنا فِي الخَطَأِ ، واُحِلَّ لَنا بِذلِكَ قَتلُهُ وسَفكُ دَمِهِ .
فَتَجَمَّعوا عَلى ذلِكَ وخَرَجوا راكِبينَ رُؤوسَهُم ، يُنادونَ بِأَعلى أصواتِهِم : لا حُكمَ إلّا للّهِِ ، ثُمَّ تَفَرَّقوا ؛ فِرقَةٌ بِالنُّخَيلَةِ ، واُخرى بِحَروراءَ ، واُخرى راكِبَةٌ رَأسَها تَخبِطُ الأَرضَ شَرقاً حَتّى عَبَرَت دِجلَةَ ، فَلَم تَمُرَّ بِمُسلِمٍ إلَا امتَحَنَتهُ ؛ فَمَن تابَعَهَا استَحيَتهُ ، ومَن خالَفَها قَتَلَتهُ .
فَخَرَجتُ إلَى الاُولَيَينِ واحِدَةً بَعدَ اُخرى أدعوهُم إلى طاعَةِ اللّهِ عَزَّ وجَلَّ وَالرُّجوعِ إلَيهِ ، فَأَبَيا إلَا السَّيفَ ، لا يَقنَعُهُما غَيرُ ذلِكَ ، فَلَمّا أعيَتِ الحيلَةُ فيهِما حاكَمتُهُما إلَى اللّهِ عَزَّ وجَلَّ ، فَقَتَلَ اللّهُ هذِهِ وهذِهِ . وكانوا ـ يا أخَا اليَهودِ ـ لَولا ما فَعَلوا لَكانوا رُكناً قَوِيّاً وسَدّاً مَنيعاً ، فَأَبَى اللّهُ إلّا ما صاروا إلَيهِ .
ثُمَّ كَتَبتُ إلَى الفِرقَةِ الثّالِثَةِ ، ووَجَّهتُ رَسُلي تَترى ، وكانوا مِن جِلَّةِ أصحابي ، وأهلِ التَّعَبُّدِ مِنهُم ، وَالزُّهدِ فِي الدُّنيا ، فَأَبَت إلَا اتِّباعَ اُختَيها ، وَالِاحتِذاءَ عَلى مِثالِهِما ، وأسرَعَت في قَتلِ مَن خالَفَها مِنَ المُسلِمينَ ، وتَتابَعَت إلَيَّ الأَخبارُ بِفِعلِهِم . فَخَرَجتُ حَتّى قَطَعتُ إلَيهِم دِجلَةَ ، اُوَجِّهُ السُّفَراءَ وَالنُّصَحاءَ ، وأطلُبُ العُتبى بِجُهدي بِهذا مَرَّةً وبِهذا مَرَّةً ـ وأومَأَ بِيَدِهِ إلَى الأَشتَرِ ، والأَحنَفِ بنِ قَيسٍ ، وسَعيدِ بنِ قَيسٍ الأَرحَبِيِّ ، وَالأَشعَثِ بنِ قَيسٍ الكِندِيِّ ـ فَلَمّا أبَوا إلّا تِلكَ رَكِبتُها مِنهُم فَقَتَلَهُمُ اللّهُ ـ يا أخَا اليَهودِ ـ عَن آخِرِهِم ، وهُم أربَعَةُ آلافٍ أو يَزيدونَ ، حَتّى لَم يَفلِت مِنهُم مُخبِرٌ ، فَاستَخرَجتُ ذَا الثُّدَيَّةِ مِن قَتلاهُم بِحَضرَةِ مَن تَرى ، لَهُ ثَديٌ كَثَديِ المَرأَةِ . ثُمَّ التَفَتَ عليه السلام إلى أصحابِهِ فَقالَ : أ لَيسَ كَذلِكَ ؟ قالوا : بَلى يا أميرَ المُؤمِنينَ .
فَقالَ عليه السلام : قَد وَفَيتُ سَبعاً وسَبعاً يا أخَا اليَهودِ ، وبَقِيَتِ الاُخرى ، وأوشِك بِها فَكَأَن قَد ۲۵ . فَبَكى أصحابُ عَلِيٍّ عليه السلام ، وبَكى رَأسُ اليَهودِ ، وقالوا : يا أميرَ المُؤمِنينَ ، أخبِرنا بِالاُخرى ؟
فَقالَ : الاُخرى أن تُخضَبَ هذِهِ ـ وأومَأَ بِيَدِهِ إلى لِحيَتِهِ ـ مِن هذِهِ ـ وأومَأَ بِيَدِهِ إلى هامَتِهِ ـ . قالَ : وَارتَفَعَت أصواتُ النّاسِ فِي المَسجِدِ الجامِعِ بِالضَّجَّةِ وَالبُكاءِ ، حَتّى لَم يَبقَ بِالكوفَةِ دارٌ إلّا خَرَجَ أهلُها فَزِعاً ، وأسلَمَ رَأسُ اليَهودِ عَلى يَدَي عَلِيٍّ عليه السلام مِن ساعَتِهِ . ولَم يَزَل مُقيماً حَتّى قُتِلَ أميرُ المُؤمِنينَ عليه السلام ، واُخِذَ ابنُ مُلجَمٍ لَعَنَهُ اللّهُ ، فَأَقبَلَ رَأسُ اليَهودِ حَتّى وَقَفَ عَلَى الحَسَنِ عليه السلام وَالنّاسُ حَولَهُ وَابنُ مُلجَمٍ لَعَنَهُ اللّهُ بَينَ يَدَيهِ ، فَقالَ لَهُ : يا أبَا مُحَمَّدٍ ، اقتُلهُ قَتَلَهُ اللّهُ ؛ فَإِنّي رَأَيتُ فِي الكُتُبِ الَّتي اُنزِلَت عَلى موسى عليه السلام أنَّ هذا أعظَمُ عِندَ اللّهِ عَزَّ وجَلَّ جُرماً مِن ابنِ آدَمَ قاتِلِ أخيهِ ، ومِنَ القُدارِ عاقِرِ ناقَةِ ثَمودَ . ۲۶
1.في المصادر الاُخرى : «متواجهان» وهو الأنسب .
2.الخصال : ص ۴۲۹ ح ۷ ، الأمالي للصدوق : ص ۱۳۶ ح ۱۳۵ ، الأمالي للطوسي : ص ۱۳۷ ح ۲۲۲ كلّها عن زيد بن عليّ عن آبائه عليهم السلام .
3.كتاب سليم بن قيس : ج ۲ ص ۸۳۰ ح ۴۰ وراجع الخصال : ص ۴۲۹ ح ۶ و ۸ و ۹ .
4.كذا ، وفي بحار الأنوار نقلاً عن المصدر : «وأسعى بين يديه في أمره» .
5.ومراده : عبيدة بن الحارث بن المطّلب بن عبد مناف .
6.كذا ، وفي بحار الأنوار نقلاً عن المصدر : «علينا» .
7.سقط ما بين المعقوفين من المصدر وأثبتناه من بحار الأنوار نقلاً عن المصدر .
8.في المصدر : «أفتتحها» ، والصحيح ما أثبتناه كما في بحار الأنوار نقلاً عن المصدر .
9.استنام فلان إلى فلان : إذا أنس به واطمأنّ إليه وسكن (لسان العرب : ج ۱۲ ص ۵۹۸ «نوم») .
10.الباءة والباء : النكاح والتزويج (لسان العرب : ج ۱ ص ۳۶ «بوأ») .
11.كذا ، وفي بحار الأنوار نقلاً عن المصدر : «معالي الحظوة» .
12.في المصدر : «إذا» وهو تصحيف ، والصحيح ما أثبتناه كما في بحار الأنوار نقلاً عن المصدر .
13.الأحزاب : ۳۸ .
14.كذا في المصدر ، وفي الاختصاص : «يُساوِني» .
15.الصدى : العطش الشديد (لسان العرب : ج ۱۴ ص ۴۵۵ «صدي») .
16.الأحزاب : ۲۳.
17.الفيافي : البراري الواسعة ، جمع فيفاء (النهاية : ج ۳ ص ۴۸۵ «فيف») .
18.الدَّبْرَة : نقيض الدولة ، والعاقبة ، والهزيمة في القتال (القاموس المحيط : ج ۲ ص ۲۶ «دبر») .
19.إشارة إلى الآية ۵۱ من سورة الكهف .
20.ألبَ الإبل : جمعها وساقها ، وألبتُ الجيش ؛ إذا جمعته (لسان العرب : ج ۱ ص ۲۱۵ «ألب») .
21.كذا ، وفي بحار الأنوار نقلاً عن المصدر : «بقيا» وهو أنسب . والبُقيا : الإبقاء ، والعرب تقول للعدوّ إذا غلب : «البقيّة» ؛ أي أبقوا علينا ولا تستأصلونا (لسان العرب : ج ۱۴ ص ۸۰ «بقي») .
22.كذا ، وفي بحار الأنوار نقلاً عن المصدر : «علّة» ، وفي الاختصاص : «غاية» .
23.السَّوم : أن تُجشِّم إنسانا مشقّةً أو سوءا أو ظلما (لسان العرب : ج ۱۲ ص ۳۱۲ «سوم») .
24.في بحار الأنوار : «لايتابع» وهو الأنسب .
25.أي فكأن قد وقعت (بحار الأنوار : ج ۳۸ ص ۱۸۶) .
26.الخصال : ص ۳۶۵ ح ۵۸ عن جابر الجعفي ، الاختصاص : ص ۱۶۴ عن جابر عن الإمام الباقر عليه السلام عن محمّد بن الحنفيّة ، بحار الأنوار : ج ۳۸ ص ۱۶۷ ح ۱ .