ونظرا إلى أنّ مؤسّسة دار الحديث قد أزمعت إصدار كتابين مستقلّين يتناولان ترجمة وافية لكلّ من الإمام الحسن والإمام الحسين عليهما السلام ، فلذا نكتفي هنا بترجمة سائر البارزين من أولاد الإمام عليه السلام ـ غيرهما ـ على نحو الإيجاز .
4 / 1
زَينَبُ
حاملة رسالة دماء الشهداء ، وحاكية الملحمة الحسينيّة ، وفاضحة الأشقياء المدلّسين الناشرين للظلم ، ومظهر الوقار ، ورمز الحياء ، ومثال العزّ والرفعة ، واُسوة الثبات والصلاة والصبر .
وبلغت منزلتها الرفيعة ومكانتها السامية في البيت النبوي مبلغا يعجز القلم عن بيانه ، ويحسر عن تبيان مكارمها ومناقبها وفضائلها عليها السلام .
وقد رسم الفقيه المؤرّخ المصلح الكبير العلّامة السيّد محسن الأمين العاملي معالم شخصيّتها بقوله :
كانت زينب عليها السلام من فضليات النساء ، وفضلها أشهر من أن يُذكر ، وأبين من أن يسطَّر . وتعلم جلالة شأنها وعلوّ مكانها ، وقوّة حجّتها ، ورجاحة عقلها ، وثبات جنانها ، وفصاحة لسانها ، وبلاغة مقالها ـ حتى كأنّها تُفرغ عن لسان أبيها أمير المؤمنين عليه السلام ـ من خطبها بالكوفة والشام ، واحتجاجها على يزيد وابن زياد بما فحمهما ، حتى لجآ إلى سوء القول والشتم وإظهار الشماتة والسباب الذي هو سلاح العاجز عن إقامة الحجّة . وليس عجيبا من زينب الكبرى أن تكون كذلك وهي فرع من فروع الشجرة الطيّبة ... .
وكانت متزوّجة بابن عمّها عبد اللّه بن جعفر بن أبي طالب ، وولد له منها : عليّ الزينبي ، وعون ، ومحمّد ، وعبّاس ، واُمّ كلثوم . وعون ومحمّد قُتلا مع خالهما الحسين عليه السلام بطفّ كربلاء .
سُمّيت اُمّ المصائب ، وحقّ لها أن تسمّى بذلك ! فقد شاهدت مصيبة وفاة جدّها رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، ومصيبة وفاة اُمّها الزهراء عليها السلام ومحنتها ، ومصيبة قتل أبيها أمير المؤمنين عليّ عليه السلام ومحنته ... وحُملت أسيرة من كربلاء . ۱
كانت عليها السلام مع أخيها الحسين عليه السلام منذ بدء الثورة ، وكانت رفيقة دربه وأمينة سرّه . فليلة عاشوراء وحوارها مع أخيها ، ويوم عاشوراء وحفاوتها بالشهداء ، وليلة الحادي عشر ورثاؤها المؤلم لأخيها ، وجلوسها عند جثمانه المدمّى ، وخطابها لرسول اللّه صلى الله عليه و آله ، كلّ اُولئك من الصفحات الذهبيّة الخالدة في حياتها المليئة بالجلالة والرفعة ، المصطبغة بالصبر والجلد .
تولّت شؤون السبايا بعد عاشوراء بجلال وثبات ، وعندما رأت الكوفيّين يبكون على أبناء الرسول صلى الله عليه و آله خاطبتهم قائلة :
يا أهلَ الكوفَةِ ، يا أهلَ الخَتلِ وَالغَدرِ وَالخَذلِ ! ألا فَلا رَقَأَتِ العَبرَةُ ولا هَدَأَتِ الزَّفرَةُ ! إنّما مَثَلُكُم كَمَثَلِ الَّتي نَقَضَت غَزلَها مِن بَعدِ قُوَّةٍ أنكاثا ! ... أ تَدرونَ ـ وَيلَكُم ! ـ أيَّ كَبِدٍ لِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله فَرَيتمُ ۲ ؟ ! وأيَّ عَهدٍ نَكَثتُم ؟ ! وأيَّ كَريمَةٍ لَهُ أبرَزتُم ؟ ! وأيَّ حُرمَةٍ لَهُ هَتَكتُم ؟ ! وأيَّ دَمٍ لَهُ سَفَكتُم ؟ ! ۳
كان لها لسان عليّ حقّا ! وحين نطقت بكلماتها الحماسيّة ، فإنّ اُولئك الذين طالما سمعوا خطب الإمام ، هاهم يرونه باُمّ أعينهم يخطب فيهم !
وقال قائل : واللّه لم أرَ خَفِرةً ۴ قطّ أنطق منها ، كأنّها تنطق وتُفرغ عن لسان عليّ عليه السلام .
وكان ابن زياد قد أثمله التكبّر ، ومَرَد على الضراوة والتوحّش ، فنال من آل اللّه ؛ فانبرت إليه الحوراء وألقمته حجرا بكلماتها الخالدة التي أخزته . وممّا قالت :
لَعَمري لَقدَ قَتَلتَ كَهلي ، وأبَرتَ أهلي ، وقَطَعتَ فَرعي ، وَاجتَثَثتَ أصلي ؛ فَإِن يَشفِكَ هذا فَقَدِ اشتَفَيتَ . ۵
وعندما نظرت إلى يزيد متربّعا على عرش السلطة ومعه الأكابر ومندوبون عن بعض البلدان ـ وكان يتباهى بتسلّطه ، ويتحدّث بسفاهة مهوِّلاً على الآخرين ، ناسبا قتل الأبرار إلى اللّه ـ قامت إليه عقيلة بني هاشم ، فصكّت مسامعه بخطبتها البليغة العصماء . وممّا قالته فيها :
أمِنَ العَدلِ ـ يَابنَ الطُّلَقاءِ ـ تَخديرُكَ حَرائِرَكَ وإماءَكَ ، وسَوقُكَ بَناتِ رَسولِ اللّهِ سَبايا ! قَد هَتَكتَ سُتورَهُنَّ ، وأبدَيتَ وُجوهَهُنَّ ، يَحدو بِهِنَّ الأَعداءُ مِن بَلَدٍ إلى بَلَدٍ ؟ ! ۶
وبتلك الكلمات القصيرة الدامغة ذكّرته بماضي أهله حين قُبض عليهم أذلّاء في مكّة ثمّ اُطلقوا بعد أن أسلموا خائفين من بارقة الحقّ ، فدلّت على عدم جدارته للحكم من جهة ، وعلى جوره ونشره للظلم من جهة اُخرى . واستَشهدت أخيرا بآيات قرآنيّة لتعلن بصراحة أنّ موقعه ليس كرامة إلهيّة ـ كما زعم أو حاول أن يلقّن الناس به ـ بل هو انغماس ملوّث بالكفر في أعماق الجحود ، وزيادة في الكفر ، وأمّا الشهادة فهي كرامة لآل اللّه ... .
كانت خطب زينب الكبرى في ذروة الفصاحة والبلاغة والتأثير ، كما كانت حكيمة في تشخيص الموقف المناسب .
ولم نعثر على تاريخ وفاتها بالتحديد في المصادر المعتمدة ، ۷ وأمّا قبرها فمثار جدال ونقاش .
1.أعيان الشيعة : ج ۷ ص ۱۳۷ .
2.الفَرْي : القطع (النهاية : ج ۳ ص ۴۴۲ «فرا») .
3.الاحتجاج : ج ۲ ص ۱۱۰ ح ۱۷۰ ، الأمالي للمفيد : ص ۳۲۱ ح ۸ ، الملهوف : ص ۱۹۲ ، المناقب لابن شهر آشوب : ج ۴ ص ۱۱۵ .
4.الخَفِر : الكثير الحياء (النهاية : ج ۲ ص ۵۳ «خفر») .
5.تاريخ الطبري : ج ۵ ص ۴۵۷ ، الكامل في التاريخ : ج ۲ ص ۵۷۵ وفيه «أبرزت» بدل «أبرت» ؛ الإرشاد : ج ۲ ص ۱۱۶ وفيه «أبدت» بدل «أبرت» ، إعلام الورى : ج ۱ ص ۴۷۲ .
6.الاحتجاج : ج ۲ ص ۱۲۵ ح ۱۷۳ ، الملهوف : ص ۲۱۵ ؛ مقتل الحسين للخوارزمي : ج۲ ص۶۴، بلاغات النساء : ص۳۵ نحوه.
7.في أخبار الزينبات المنسوب إلى العبيدلي ذكر أنّ وفاتها كان في مصر في الخامس من شهر رجب سنة ۶۲ ه ، لكنّ التحقيق يوصلنا إلى أنّ الكتاب هو ليس من تأليف العبيدلي ، وهو غير قابل للاعتماد ، وقد انتقد العلّامة التستري في كتابه قاموس الرجال بشدّة نسبة الكتاب إلى العبيدلي ، وكذلك انتقد محتوى الكتاب ، فقال في بعض كلامه : «لم يذكر أحدٌ من الخاصّة والعامّة ممّن كتب في أنساب قريش تاريخا لوفاتها» (راجع قاموس الرجال : ج ۱۱ ص ۳۸) .