ويقوّي داعي الهوى فيقول: ما هذا الزهد البارد ولِمَ تمتنع عن هواك فتؤذي نفسك؟!، وهل ترى أحدا من أهل عصرك يخالف هواه ويترك عزيمته؟ أفتترك ملاذّ الدنيا لهم يتمتّعون منها، وتحجر على نفسك حتّى تبقى محروما مطعونا يضحك عليك أهل الزمان، تريد أن يزيد منصبك على فلان وفلان، وقد فعلوا مثل ما اشتهيت ولم يمتنعوا؟ أما ترى العالم الفلاني ليس يحترز عن فعل ذلك، لو كان شرّا لامتنع عنه؟! فتميل النفسُ إلى الشيطان وتنقلب إليه، فيحمل الملك حملةً على الشيطان ويقول: هل أهلك إلاّ من اتّبع لذّة الحال ونسي العاقبة، أفتقنع بلذّة يسيرة وتترك [ لذّة ] الجنّة ونعيمها أبد الآباد، وتستثقل ألم الصبر على الشهوة ، ولا تستثقل ألم النار؟ أفتغترّ بغفلة الناس عن أنفسهم واتّباعهم الهوى ومساعدتهم الشيطان؟ مع أنّ عذاب النار لايخفّفه[عنك[معصية غيرك. فعند ذلك تميل النفس إلى قول الملك فلا يزال متردّدا بين الجندين متجاذبا إلى الجانبين إلى أن يغلب من هو أولى به، فإن غلب على النفس الصفات الشيطانيّة غلب الشيطان وأجرى على جوارحه سوابق القدر وما هو سبب بُعده [عن اللّه تعالى]، وإن غلب عليه الصفات الملكيّة لم يُصغ القلب [إلى] إغواء الشيطان وظهرت الطاعة بموجب ما سبق من القضاء ۱ . انتهى .
وهذه المطاردة والمنازعة في معركة وجود الآدمي قائم بين جندي الملك والشيطان إلى أن ينفتح لأحدهما فيتمكّن ويستوطن؛ وذلك لأنّ أشرف البقاع قلبُ الإنسان، ولا تجد ديارا عامرة ولا رياضا ناظرة إلاّ والقلب أشرف منها فإنّ فيه
جميع ما في العالم الحسّي والمجردي، وهو عرش الرحمن وبيت المنّان، وما من مملكة وسيعة معمورة إلاّ وفيها تنازع الملوك وتخاصمهم، والشيطان قد فتح وملك أكثر القلوب فاستبعدها واسترقّها وأسر أهلها، والعياذ باللّه .
1.المحجّة البيضاء ۵ : ۸۵؛ إحياء علوم الدين ۳ : ۴۷. بيان سرعة تقلّب القلب وانقسام القلوب... والمنقول في المتن مطابق لما في «المحجّة»، فراجع.