ولكن جاء من بعدهم خلفٌ ; اختلطت عليهم الأسباب بالمسبّبات، والأهداف بالأدوات، فجعلوا من علم الرجال ذاته غرضاً مقصوداً، بعد أن كان وسيلةً موصِلةً، فأخذوا يتنطعون بمصطلحات هذا العلم، ويستعملونها في غير مواضعها، ويستفيدون منها ما لا تفيد الغرض، بل تزيد بُعداً عنه، ممّا أدّى بهم إلى الإساءة بالحديث الشريف، وإتلافه، وانتهاك كرامته وكرامة رواته ورجاله .
مثلا : بينما كان السلف القدماء إنّما يتشدّدون في أمر الرجال، في ما يتعلّق بأُمور الأحكام الشرعيّة، وما تحته عملٌ وحكمٌ إلزاميٌّ، ويتساهلون في غير ذلك من أُمور السنن والمستحبّات، وكذلك أحاديث الفضائل وغيرها .
جاء المستسلفون الجدد يطبّقون قواعد الجرح والتعديل في كلّ صغيرة وكبيرة، وعلى كلّ حديث ورواية، حتّى في مسائل من قبيل التواريخ والأحداث .
وبينما كان السلف الصالح، لم يُعِرْ اهتماماً بالجرح والتعديل في أحاديث الآحاد في ما يتعلّق بالعقيدة; ممّا يجب العلم به والجزم بمضامينه عن فكر وعقل والتزام قلبيّ، بينما الخبر الواحد لا يفيد العلم، بإجماع العلماء، وليست تلك الأُمور ممّا يتعبّد بها، ولا يكفي فيها الالتزام الظنّي غير الجزمي والقطعي .
جاء الخلف يتعالم بتطبيق قواعد الجرح والتعديل على أحاديث العقائد، ليستخرج ـ بزعمه ـ الخبر الصحيح الدالّ على عقيدة، ويحكم بوجوب الالتزام به لأنّه من الحديث الشريف الواجب الاتّباع ! غافلا عن أنّ الاتّباع التعبّدي غير مفيد للجزم اللازم في الاعتقاديات .
وغير ذلك من الأُمور الهامّة التي أشبعها علماء الحديث المحقّقون بحثاً ودرساً في مؤلّفاتهم القيّمة .
لكن جاء من بعدهم خَلفٌ أضاعوا كلّ الجهود، واقتصروا على اجترار كلمات القدح; فقط، بغرض تقويض أعمدة الحديث، وهدم دور كتبه وبيوت علمه، بزعم الخبرة في علم الجرح .