11
علوم الحديث 16

ولكن جاء من بعدهم خلفٌ ; اختلطت عليهم الأسباب بالمسبّبات، والأهداف بالأدوات، فجعلوا من علم الرجال ذاته غرضاً مقصوداً، بعد أن كان وسيلةً موصِلةً، فأخذوا يتنطعون بمصطلحات هذا العلم، ويستعملونها في غير مواضعها، ويستفيدون منها ما لا تفيد الغرض، بل تزيد بُعداً عنه، ممّا أدّى بهم إلى الإساءة بالحديث الشريف، وإتلافه، وانتهاك كرامته وكرامة رواته ورجاله .
مثلا : بينما كان السلف القدماء إنّما يتشدّدون في أمر الرجال، في ما يتعلّق بأُمور الأحكام الشرعيّة، وما تحته عملٌ وحكمٌ إلزاميٌّ، ويتساهلون في غير ذلك من أُمور السنن والمستحبّات، وكذلك أحاديث الفضائل وغيرها .
جاء المستسلفون الجدد يطبّقون قواعد الجرح والتعديل في كلّ صغيرة وكبيرة، وعلى كلّ حديث ورواية، حتّى في مسائل من قبيل التواريخ والأحداث .
وبينما كان السلف الصالح، لم يُعِرْ اهتماماً بالجرح والتعديل في أحاديث الآحاد في ما يتعلّق بالعقيدة; ممّا يجب العلم به والجزم بمضامينه عن فكر وعقل والتزام قلبيّ، بينما الخبر الواحد لا يفيد العلم، بإجماع العلماء، وليست تلك الأُمور ممّا يتعبّد بها، ولا يكفي فيها الالتزام الظنّي غير الجزمي والقطعي .
جاء الخلف يتعالم بتطبيق قواعد الجرح والتعديل على أحاديث العقائد، ليستخرج ـ بزعمه ـ الخبر الصحيح الدالّ على عقيدة، ويحكم بوجوب الالتزام به لأنّه من الحديث الشريف الواجب الاتّباع ! غافلا عن أنّ الاتّباع التعبّدي غير مفيد للجزم اللازم في الاعتقاديات .
وغير ذلك من الأُمور الهامّة التي أشبعها علماء الحديث المحقّقون بحثاً ودرساً في مؤلّفاتهم القيّمة .
لكن جاء من بعدهم خَلفٌ أضاعوا كلّ الجهود، واقتصروا على اجترار كلمات القدح; فقط، بغرض تقويض أعمدة الحديث، وهدم دور كتبه وبيوت علمه، بزعم الخبرة في علم الجرح .


علوم الحديث 16
10

إنّ هذا النصّ يُعدُّ أهمّ وثيقة علميّة لتأسيس علم الرجال المسمّى بعلم الجرح والتعديل، الذي يهدف إلى تحديد أحوال الرجال للوصول إلى قيمة مرويّاتهم، فقد جمع فيه أُسس ذلك العلم وقواعده، فيكون الإمام أميرالمؤمنين(عليه السلام) بهذه «التعليقة الرجاليّة» هو المؤسّس لهذا العلم، كما أسّس علم النحو بما ألقاه إلى أبي الأسود الدُؤَلي في «التعليقة النحوية» المشهورة ۱  .
إنّ الغرض الأهمّ من «علم الرجال» هو تقييم الرواة للحديث الشريف، ومن ثَمَّ تقييم ما يروونه، وتصحيحه أو تضعيفه، ليؤخذ به أو يترك، وهذا غرض مهمّ جدّاً، إذ به يتميّز الحديث الصحيح من غيره، فيعتمد عليه، وبه يتحقّق الركن الثاني من أركان الدين والعمود الثاني من أعمدة الثقافة الإسلاميّة، وهو نصوص النبي والأئمّة (عليهم السلام) التي هي بيان للإسلام وتوضيح للقرآن، وتعريف بالشريعة، والسنّة الشريفة، وما تحتويه من معارف وعلوم وآداب وحدود وقيم .
وقد أولى علماء الإسلام علم الجرح والتعديل اهتماماً بليغاً، باعتباره الأداة لتمهيد طرق إثبات الحديث، فأسّسوا له القواعد وحدّدوا له الحدود، وسدّوا منه الثغور، وأوردوا فيه البحوث حتّى تكاملت قواعده، وسلك كلّ حسب قناعاته منهجاً معيّناً، سار عليه للتوصّل إلى مبغاهُ من تحديد النصوص المعتمدة من الحديث الشريف .
فعلم الرجال، كان أداةً ووسيلةً لمثل هذا الهدف السامي، عند السلف الصالح، قد استنفذوا أغراضهم منه، وتمكّنوا من تحصيل ما ابتغوه من الجهود المبذولة حوله، وبنوا على قواعده ما استنبطوه من الأحكام الشرعيّة، وما عرفوه من الآداب والسنن الإسلاميّة .

1.تحدّثنا عن «التعليقة النحوية» في بحث نشر في مجلّة (حوزه أصفهان) العدد (۱۰) التي تصدّرها الحوزة العلمية في أصفهان ـ إيران .

  • نام منبع :
    علوم الحديث 16
    تاريخ انتشار :
    رجب المرجّب - ذی الحجّة الحرام 1425
    سردبیر :
    قاضی عسکر، السیّد علی
تعداد بازدید : 16363
صفحه از 296
پرینت  ارسال به