المكنون في حقائق الكلم النبويّة (2) - صفحه 127

فكان المعنى الّذي تضمّنه الحديث لخبر أنّ كلّ مولود من البشر إنّما يولد في أوّل مبدأ الخلق وأصل الجبلّة على الفطرة السليمة والطبع المتهيئ لقبول الدين ، فلو ترك عليها وخلّى وسومها لاستمرّ على لزومها ولم ينتقل عنها إلى غيرها ؛ وذلك أنّ هذا الدين بادٍ حسنه في العقول ويُسرة في النفوس ، وإنّما يعدل عنه من يعدل إلى غيره ويؤثّره عليه لآفة من آفات النشر والتقليد ، ولو سلم المولود من تلك الآفات لم يعتقد غيره ولم يختر عليه ما سواه ، ثمّ تمثّل بأولاد اليهود والنصارى في طباعهم لآبائهم والميل إلى أديانهم ، فيزدرون بذلك من الفطرة السليمة وعن المحجّة المستقيمة .
وحاصل المعنى في هذا الحديث إنّما هو الثناء على هذا الدين والإخبار عن محلّه من العقول وحسن موقعه من النفوس ، وليس من إيجاب حكمه الإيمان بالمولود بسبيل ، واللّه أعلم .
وفيه على هذا التأويل وقوع الجمع بين الأخبار وزوال الاختلاف عنهما ، وهو واضح بيّن ، والحمد للّه .
وذُكر حديث ابن عبّاس من جملة هذا المعنى ، قال : سئل رسول اللّه صلى الله عليه و سلم عن أولاد المشركين ؟ فقال : اللّه إذا خلقهم أعلم بما كانوا عاملين . ۱
قال : في هذا إثبات علم اللّه بما كان وبما يكون وبما لم يكن ، وبأن لو كان كيف يكون . والمعنى أنّهم لو بقوا أحياءً حتّى يكبروا لكانوا يعملون عمل أهل للكفر ، فاُلحقوا الكفر بآبائهم الكفر حكماً بسابق علمه في الغيب .
يدلّ على صحّة هذا التأويل حديث عائشة قلت : يا رسول اللّه ، ذراري المشركين ؟ قال : « من آبائهم » قلت : بلا عمل ؟ قال : « اللّه أعلم بما كانوا عاملين » .
ذكر أبو سليمان رحمه الله في هذه الأحاديث خصائص خلاصة المعتقد فيه أطوار الاُمّة بتحقيق اليقين وزوال الشُّبَه وقد نفى /112/ لسان العارف ، وهو أنّ حديث أبي هريرة

1.مسند أحمد ، ج۱ ، ص۳۲۸ ؛ صحيح البخاري ، ج۲ ، ص۱۰۴ .

صفحه از 143