المكنون في حقائق الكلم النبويّة (2) - صفحه 129

فأمّا الحكم الّذي تنازعاه فهما في ذلك على السواء ، لا يقدر أحد أن يُسقِط الأصل الّذي هو القدر ، ولا أن يبطل الكسب الّذي هو السبب ، ومَن فعل واحداً منهما خرج عن القصد إلى أحد الطرفين من مذهب القدر أو الجبر .
وفي قول آدم عليه السلام : « أنت موسى الّذي اصطفاك اللّه برسالته وبكلامه ، ثمّ تلومني على أمر قدّر عليّ قبل أن اُخلق ! » ۱ اقتصار لعلم موسى أن يقول : إذا جعلك اللّه بالصفة الّتي أنت بها من الاصطفاء بالرسالات والكلام ، فكيف يسعك أن تلومني على القدر المقدور الّذي لا مدفع له ! فقال عليه الصلاة والسلام : « فحجّ آدم موسى » . ۲ وحقيقته أنّه دفع حجّة موسى بالّتي ألزمه بها ، وذلك أنّ الابتداء بالمسألة والاعتراض إنّما كان من موسى ، ولم يكن من آدم إنكار لما اقترفه من الذنب ؛ إنّما عارضه بأمر كان فيه دفع اللؤم ، فكان أصوب الرأس ما ذهب إليه بقضيّة المصطفى صلوات اللّه عليه .
أمّا بعد قوله رضى الله عنه ، إنّ موسى ـ صلوات اللّه عليه ـ /113/ ذهب إلى مشاهدة العظمة وطريق الهيبة في مقام الحباء والإجلال ، ثمّ عارض آدم بما فيه من حكم حقوق منازل العبودية ، وقال : كيف قرفت معصيةً وأنت في محلّ الإجلال والبهاء ، وكان آدم في رؤية سابق علم القدم وقدر الأزل ، المُذهِبان آراء العباد في قصودهم ، الناقضان عقد عزائمهم ورؤية فناء الخلق في قهر سلطان الكبرياء ، وهذا حكم مشاهدة الوحدانية وحقٌّ سبق على موسى لحقيقة التوحيد ؛ لأنّه كان في حكم القدم ، وموسى في حكم الأمر ورؤية الإجلال ، واللّه غالب على أمره .
فرأى موسى مقام الحرمة والهيبة ، ورأى آدم رؤية فنائه في سلطان اللّه وعزّته وغلبة مشيّته على ما استَعمل عباده بأمره ، وما دعاهم به إلى عبادته وترك معصيته ، فحكم الأمر ثابت في العبودية لموسى ، وحكم القدر في الربوبية سابق لآدم عليه

1.مسند أحمد ، ج۲ ، ص۲۶۴ ؛ صحيح البخاري ، ج۴ ، ص۱۳۱ .

2.مجمع البيان ، ج۱ ص۱۴۲ ؛ تفسير القرآن الكريم ، ج۱ ، ص۳۳۳ .

صفحه از 143