الباب الثاني : خلق الملائكة
۵۳۰۴.الإمام عليّ عليه السلامـ في صِفَةِ المَلائِكَةِ عليهم السلام ـ: ثُمَّ خَلَقَ سُبحانَهُ لِاءِسكانِ سَماواتِهِ ، وعِمارَةِ الصَّفيحِ الأَعلى مِن مَلَكوتِهِ خَلقاً بَديعاً مِن مَلائِكَتِهِ ، وَملَأَ بِهِم فُروجَ فِجاجِها ، وحَشى بِهِم فُتوقَ أجوائِها . وبَينَ فَجَواتِ تِلكَ الفُروجِ زَجَلُ ۱ المُسَبِّحينَ مِنهُم في حَظائِرِ القُدُسِ وُستُراتِ الحُجُبِ وسُرادِقاتِ ۲ المَجدِ . ووَراءَ ذلِكَ الرَّجيجِ ۳ الَّذي تَستَكُّ مِنهُ الأَسماعُ سُبُحاتُ نورٍ تَردَعُ الأَبصارَ عَن بُلوغِها ، فَتَقِفُ خاسِئَةً عَلى حُدودِها ، وأنشَأَهُم عَلى صُوَرٍ مُختَلِفاتٍ وأقدارٍ مُتَفاوِتاتٍ . «أُوْلِى أَجْنِحَةٍ»۴ تُسَبِّحُ جَلالَ عِزَّتِهِ لا يَنتَحِلونَ ما ظَهَرَ فِي الخَلقِ مِن صُنعِهِ ، ولا يَدَّعونَ أنَّهُم يَخلُقونَ شَيئاً مَعَهُ مِمّا انفَرَدَ بِهِ . «بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُو بِالْقَوْلِ وَ هُم بِأَمْرِهِى يَعْمَلُونَ»۵ .
جَعَلَهُمُ اللّهُ فيما هُنالِكَ أهلَ الأَمانَةِ عَلى وَحيِهِ ، وحَمَّلَهُم إلَى المُرسَلينَ وَدائِعَ أمرِهِ ونَهيِهِ، وعَصَمَهُم مِن رَيبِ الشُّبُهاتِ، فَما مِنهُم زائِغٌ عَن سَبيلِ مَرضاتِهِ.وأمَدَّهُم بِفَوائِدِ المَعونَةِ ، وأشعَرَ قُلوبَهُم تَواضُعَ إخباتِ السَّكينَةِ ، وفَتَحَ لَهُم أبواباً ذُلُلاً إلى تَماجيدِهِ . ونَصَبَ لَهُم مَناراً واضِحَةً عَلى أعلامِ تَوحيدِهِ . لَم تُثقِلهُم مُؤصِراتُ ۶ الآثامِ ، ولَم تَرتَحِلهُم عُقَبُ اللَّيالي وَالأَيّامِ،ولَم تَرمِ الشُّكوكُ بِنَوازِعِها عَزيمَةَ إيمانِهِم،ولَم تَعتَرِكِ الظُّنونُ عَلى مَعاقِدِ يَقينِهِم ، ولا قَدَحَت قادِحَةُ الإِحَنِ ۷ فيما بَينَهم ، ولا سَلَبَتهُمُ الحَيرَةُ ما لاقَ مِن مَعرِفَتِهِ بِضَمائِرِهِم ، وما سَكَنَ مِن عَظَمَتِهِ وهَيبَةِ جَلالَتِهِ في أثناءِ صُدورِهِم ، ولَم تَطمَع فيهِمُ الوَساوِسُ فَتَقتَرِعَ بِرَينِها عَلى فِكرِهِم ، ومِنهُم مَن هُوَ في خَلقِ الغَمامِ الدُّلَّحِ ۸ ، وفي عِظَمِ الجِبالِ الشُّمَّخِ ، وفي قَترَةِ ۹ الظَّلامِ الأَيهَمِ ۱۰ ، ومِنهُم مَن قَد خَرَقَت أقدامُهُم تَخومَ الأَرضِ السُّفلى ، فَهِيَ كَراياتٍ بيضٍ قَد نَفَذَت في مَخارِقِ الهَواءِ ، وتَحتَها ريحٌ هَفّافَةٌ ۱۱ تَحبِسُها عَلى حَيثُ انتَهَت مِنَ الحُدودِ المُتَناهِيَةِ ، قَدِ استَفرَغَتهُم أشغالُ عِبادَتِهِ ، ووَصَلَت حَقائِقُ الإِيمانِ بَينَهُم وبَينَ مَعرِفَتِهِ ، وقَطَعَهُمُ الإِيقانُ بِهِ إلَى الوَلَهِ إلَيهِ ، ولم تُجاوِز رَغَباتُهُم ما عِندَهُ إلى ما عِندَ غَيرِهِ .
قد ذاقوا حَلاوَةَ مَعرِفَتِهِ ، وشَرِبوا بِالكَأسِ الرَّوِيَّةِ مِن مَحَبَّتِهِ ، وتَمَكَّنَت مِن سُوَيداءِ قُلوبِهِم وَشيجَةُ خيفَتِهِ ، فَحَنوا بِطولِ الطّاعَةِ اعتِدالَ ظُهورِهِم ، ولَم يُنفِد طولُ الرَّغبَةِ إلَيهِ مادَّةَ تَضَرُّعِهِم ، ولا أطلَقَ عَنهُم عَظيمُ الزُّلفَةِ رِبَقَ ۱۲ خُشوعِهِم ، ولم يَتَوَلَّهُم الإِعجابُ فَيَستَكثِروا ما سَلَفَ مِنهُم ، ولا تَرَكَت لَهُم استِكانَةُ الإِجلالِ نَصيباً في تَعظيمِ حَسَناتِهِم . ولَم تَجرِ الفَتَراتُ فيهِم عَلى طولِ دُؤوبِهِم ، ولَم تَغِض ۱۳ رَغَباتُهُم فَيُخالِفوا عَن رَجاءِ رَبِّهم ، ولَم تَجِفَّ لِطولِ المُناجاةِ أسلاتُ ۱۴ ألسِنَتِهِم ، ولا مَلَكَتهُمُ الأَشغالُ فَتَنقَطِعَ بِهَمسِ الجُؤارِ ۱۵ إلَيهِ أصواتُهُم ، ولَم تَختَلِف في مَقاوِمِ الطّاعَةِ مَناكِبُهُم ، ولَم يَثنوا إلى راحَةِ التَّقصيرِ في أمرِهِ رِقابَهُم ، ولا تَعدو عَلى عَزيمَةِ جَدِّهِم بَلادَةُ الغَفَلاتِ ، ولا تَنتَضِلُ ۱۶ في هِمَمِهِم خَدائِعُ الشَّهَواتِ .
قَدِ اتَّخَذوا ذَا العَرشِ ذَخيرَةً لِيَومِ فاقَتِهِم ، ويَمَّموهُ عِندَ انقِطاعِ الخَلقِ إلَى المَخلوقينَ بِرَغبَتِهِم ، لا يَقطَعونَ أمَدَ غايَةِ عِبادَتِهِ ، ولا يَرجِعُ بِهِمُ الِاستِهتارُ ۱۷ بِلُزومِ طاعَتِهِ ، إلّا إلى مَوادَّ مِن قُلوبِهِم غَيرَ مُنقَطِعَةٍ مِن رَجائِهِ ومَخافَتِهِ ، لَم تَنقَطِع أسبابُ الشَّفَقَةِ مِنهُم ، فَيَنوا ۱۸ في جِدِّهِم ، ولَم تَأسِرهُمُ الأَطماعُ فَيُؤثرِوا وَشيكَ السَّعيِ عَلَى اجتِهادِهِم . لَم يَستَعظِموا ما مَضى مِن أعمالِهِم ، ولَوِ استَعظَموا ذلِكَ لَنَسَخَ الرَّجاءُ مِنهُم شَفَقاتِ وَجَلِهِم ، ولَم يَختَلِفوا في رَبِّهِم بِاستِحواذِ الشَّيطانِ عَلَيهِم . ولَم يُفَرِّقهُم سوءُ التَّقاطُعِ ، ولا تَوَلّاهُم غِلُّ التَّحاسُدِ ، ولا تَشَعَّبَتهُم مَصارِفُ الرِّيبِ ، ولا اقتَسَمَتهُم أخيافُ الهِمَمِ ، فَهُم اُسَراءُ إيمانٍ لَم يَفُكَّهُم مِن رِبقَتِهِ زَيغٌ ولا عُدولٌ ولا وَنًى ولا فُتورٌ . ولَيسَ في أطباقِ السَّماءِ مَوضِعُ إهابٍ إلّا وعَلَيهِ مَلَكٌ ساجِدٌ ، أو ساعٍ حافِدٌ ۱۹ ، يَزدادونَ عَلى طولِ الطّاعَةِ بِرَبِّهِم عِلماً ، وتَزدادُ عِزَّةُ رَبِّهِم في قُلوبِهِم عِظَماً . ۲۰
1.أي صوت رفيع عالٍ (النهاية : ج ۲ ص ۲۹۷ «زجل») .
2.السُّرادِق : وهو كلّ ما أحاطَ بشيء من حائطٍ أو مضرَبٍ أو خِبَاء (النهاية : ج ۲ ص ۳۵۹ «سردق») .
3.الرَّجّ : الحركةُ الشَّديدَةُ (النهاية : ج ۲ ص ۱۹۷ «رجج») .
4.فاطر : ۱ .
5.الأنبياء : ۲۶ و۲۷ .
6.يقال للثقلِ : إصر ؛ لأنّه يَأصِرُ صاحِبه من الحرَكة لثقله (مجمع البحرين : ج ۱ ص ۵۰ «ثقل») .
7.الإحْنَةُ : الحقد ، وجمعها إحَن وإحَنَاتٌ (النهاية : ج ۱ ص ۲۷ «أحن») .
8.الدَّلح : أن يَمشي بالحمل وقد أثقلَه (النهاية : ج ۲ ص ۱۲۹ «دلح») .
9.القترة : غَبرَة يعلوها سواد كالدخان (لسان العرب : ج ۵ ص ۷۱ «قتر») .
10.الأيْهَمُ : البلد الذي لا عَلَمَ به . واليَهمَاء : الفَلاةُ التي لا يُهتَدى لِطُرقِها ، ولا ماء فيها ولا عَلَمَ بِها (النهاية : ج ۵ ص ۳۰۴ «يهم») .
11.هفّافة : سريعة المرور في هُبُوبها (النهاية : ج ۵ ص ۲۶۶ «هفف») .
12.الربقة : عروة في حَبل تجعل في عنق البهيمة أو يَدِها تُمسِكها ، وتجمع الرِّبقة على رِبَق (النهاية : ج ۲ ص ۱۹۰ «ربق») .
13.غاضَ الماء: نقَص أو غارَ فذهب (لسان العرب: ج۷ ص۲۰۱ «غضض»).
14.جمع أسَلَة ؛ وهي طرف اللسان (النهاية : ج ۱ ص ۴۹ «أسل») .
15.الجؤار : رَفْع الصَّوت والاستِغاثة ، جأر يَجْأر (النهاية : ج ۱ ص ۲۳۲ «جأر») .
16.نَضِلَ البعير والرجُل نَضلاً : هزُل وأعيا وأنضلَه هو (لسان العرب : ج ۱۱ ص ۶۶۶ «نضل») .
17.مُستهتَر : أي مُولَع به لا يَتَحدّث بغيره ، ولا يَفعل غَيره (النهاية : ج ۵ ص ۲۴۳ «هتر») .
18.أي يَفتُروا في عَزمِهم واجتهادِهِم (النهاية : ج ۵ ص ۲۳۱ «ونا») .
19.نَحفِد : أي نُسرع في العمل والخِدمة (النهاية : ج ۱ ص ۴۰۶ «حفد») .
20.نهج البلاغة : الخطبة ۹۱ عن مسعدة بن صدقة عن الإمام الصادق عليه السلام ، بحار الأنوار : ج ۵۷ ص ۱۰۹ ح ۹۰ .