حاضر جوابى - صفحه 13

كلامُ ابنِ أبي الحديد في علوم الإمام

قالَ ابنُ أبِي الحَديدِ في مُقَدَّمَةِ شَرحِ نَهجِ البَلاغَةِ : قَد عَرَفتَ أنَّ أشرَفَ العُلومِ هُوَ العِلمُ الإِلهِيُّ ؛ لِأَنَّ شَرَفَ العِلمِ بِشَرَفِ المَعلومِ ، ومَعلومُهُ أشرَفُ المَوجوداتِ ، فَكانَ هُوَ أشرَفَ العُلومِ . ومِن كَلامِهِ عليه السلام اقتُبِسَ ، وعَنهُ نُقِلَ ، وإلَيهِ انتُهِيَ ، ومِنهُ ابتُدِئَ .
فَإِنَّ المُعتَزِلَةَ ـ الَّذينَ هُم أهلُ التَّوحيدِ وَالعَدلِ ، وأربابُ النَّظَرِ ، ومِنهُم تَعَلَّمَ النّاسُ هذَا الفَنَّ ـ تَلامِذَتُهُ وأصحابُهُ ؛ لِأَنَّ كَبيرَهُم واصِلَ بنَ عَطاءٍ تِلميذُ أبي هاشِمٍ عَبدِ اللّهِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ الحَنَفِيَّةِ ، وأبو هاشِمٍ تِلميذُ أبيهِ ، وأبوهُ تِلميذُهُ عليه السلام .
وأمَّا الأَشعَرِيَّةُ : فَإِنَّهُم يَنتَمونَ إلى أبِي الحَسَنِ عَلِيِّ بنِ إسماعيلَ بنِ أبي بِشرٍ الأَشعَرِيِّ ، وهُوَ تِلميذُ أبي عَلِيٍّ الجُبّائِيِّ ، وأبو عَلِيٍّ أحَدُ مَشايِخِ المُعتَزِلَةِ ، فَالأَشعَرِيَّةُ يَنتَهونَ بِأَخَرَةٍ إلى اُستاذِ المُعتَزِلَةِ ومُعَلِّمِهِم ، وهُوَ عَلِيُّ بنُ أبي طالِبٍ عليه السلام .
وأمَّا الإِمامِيَّةُ وَالزَّيدِيَّةُ فَانتِماؤُهُم إلَيهِ ظاهِرٌ .
ومِنَ العُلومِ عِلمُ الفِقهِ ، وهُوَ عليه السلام أصلُهُ وأساسُهُ ، وكُلُّ فَقيهٍ فِي الإِسلامِ فَهُوَ عِيالٌ عَلَيهِ ، ومُستَفيدٌ مِن فِقهِهِ .
أمّا أصحابُ أبي حَنيفَةَ ، كَأَبي يوسُفَ ومُحَمَّدٍ وغَيرِهِما ، فَأَخَذوا عَن أبي حَنيفَةَ .
وأمَّا الشّافِعِيُّ فَقَرَأَ عَلى مُحَمَّدِ بنِ الحَسَنِ ، فَيَرجِعُ فِقهُهُ أيضا إلى أبي حَنيفَةَ .
وأمّا أحمَدُ بنُ حَنبَلٍ فَقَرَأَ عَلَى الشّافِعِيِّ ، فَيَرجِعُ فِقهُهُ أيضا إلى أبي حَنيفَةَ ، وأبو حَنيفَةَ قَرَأَ عَلى جَعفَرِ بنِ مُحَمَّدٍ عليه السلام ، وقَرَأَ جَعفَرٌ عَلى أبيهِ عليه السلام ، ويَنتَهِي الأَمرُ إلى عَلِيٍّ عليه السلام .
وأمّا مالِكُ بنُ أنَسٍ فَقَرَأَ عَلى رَبيعَةِ الرَّأيِ ، وقَرَأَ رَبيعَةُ عَلى عِكرِمَةَ ، وقَرَأَ عِكرِمَةُ عَلى عَبدِ اللّهِ بنِ عَبّاسٍ ، وقَرَأَ عَبدُ اللّهِ بنُ عَبّاسٍ عَلى عَلِيِّ بنِ أبي طالِبٍ . وإن شِئتَ فَرَدَدتَ إلَيهِ فِقهَ الشّافِعِيِّ بِقِراءَتِهِ عَلى مالِكٍ كانَ لَكَ ذلِكَ .
فَهؤُلاءِ الفُقَهاءُ الأَربَعَةُ .
وأمّا فِقهُ الشّيعَةِ فَرُجوعُهُ إلَيهِ ظاهِرٌ . وأيضا فَإِنَّ فُقَهاءَ الصَّحابَةِ كانوا : عُمَرَ بنَ الخَطّابِ ، وعَبدَ اللّهِ بنَ عَبّاسٍ ؛ وكِلاهُما أخذا عَن عَلِيٍّ عليه السلام .
وأمّا ابنُ عَبّاسٍ فَظاهِرٌ ، وأمّا عُمَرُ فَقَد عَرَفَ كُلُّ أحَدٍ رُجوعَهُ إلَيهِ في كَثيرٍ مِنَ المَسائِلِ الَّتي أشكَلَت عَلَيهِ وعَلى غَيرِهِ مِنَ الصَّحابَةِ ، وقَولَهُ غَيرَ مَرَّةٍ : «لَولا عَلِيٌّ لَهَلَكَ عُمَرُ !» ، وقَولَهُ : «لا بَقيتُ لِمُعضِلَةٍ لَيسَ لَها أبُو الحَسَنِ !» ، وقَولَهُ : «لا يُفتِيَنَّ أحَدٌ فِي المَسجِدِ وعَلِيٌّ حاضِرٌ» .
فَقَد عُرِفَ بِهذَا الوَجهِ أيضا اِنتِهاءُ الفِقهِ إلَيهِ .
وقَد رَوَتِ العامَّةُ وَالخاصَّةُ قَولَهُ صلى الله عليه و آله : «أقضاكُم عَلِيٌّ» . وَالقَضاءُ هُوَ الفِقهُ ، فَهُوَ إذا أفقَهُهُم .
ورَوَى الكُلُّ أيضا أ نَّهُ عليه السلام قالَ لَهُ وقَد بَعَثَهُ إلَى اليَمَنِ قاضِيا : «اللّهُمَّ اهدِ قَلبَهُ ، وثَبِّت لِسانَهُ» . قالَ : فَما شَكَكتُ بَعدَها في قَضاءٍ بَينَ اثنَينِ .
وهُوَ عليه السلام الَّذي أفتى في المَرأَةِ الَّتي وَضَعَت لِسِتَّةِ أشهُرٍ ، وهُوَ الَّذي أفتى في الحامِلِ الزّانِيَةِ ، وهُوَ الَّذي قالَ فِي المِنبَرِيَّةِ ۱ : «صارَ ثُمنُها تِسعا» . وهذِهِ المَسأَلَةُ لَو فَكَّرَ الفَرَضي ۲ فيها فِكرا طَويلاً لَاستُحسِنَ مِنهُ بَعدَ طولِ النَّظَرِ هذَا الجَوابُ ، فَما ظَنُّكَ بِمَن قالَهُ بَديهَةً ، وَاقتَضَبَهُ ارتِجالاً !
ومِنَ العُلومِ عِلمُ تَفسيرِ القُرآنِ ، وعَنهُ اُخِذَ ، ومِنهُ فُرِّعَ . وإذا رَجَعتَ إلى كُتُبِ التَّفسيرِ عَلِمتَ صِحَّةَ ذلِكَ ؛ لِأَنَّ أكثَرَهُ عَنهُ وعَن عَبدِ اللّهِ بنِ عَبّاسٍ ، وقَد عَلِمَ النّاسُ حالَ ابنِ عَبّاسٍ في مُلازَمَتِهِ لَهُ وانقِطاعِهِ إلَيهِ ، وأ نَّهُ تِلميذُهُ وخِرّيجُهُ . وقيلَ لَهُ : أينَ عِلمُكَ مِن عِلمِ ابنِ عَمِّكَ ؟ فَقالَ : كَنِسبَةِ قَطرَةٍ مِنَ المَطَرِ إلَى البَحرِ المُحيطِ .
ومِنَ العُلومِ عِلمُ الطَّريقَةِ وَالحَقيقَةِ وأحوالِ التَّصَوُّفِ ، وقَد عَرَفتَ أنَّ أربابَ هذَا الفَنِّ في جَميعِ بِلادِ الإِسلامِ إلَيهِ يَنتَهون ، وعِندَهُ يَقِفونَ . وقَد صَرَّحَ بِذلِكَ الشِّبِليُّ ، وَالجُنَيدُ ، وسَرِيّ ، وأبو يَزيدَ البِسطامِيّ ، وأبو مَحفوظٍ مَعروفٌ الكَرَخِيُّ ، وغَيرُهُم .
ويَكفيكَ دَلالَةً عَلى ذلِكَ ، الخِرقَةُ الَّتي هِيَ شِعارُهُم إلَى اليَومِ ، وكَونُهُم يُسنِدونَها بِإِسنادٍ مُتَّصِلٍ إلَيهِ عليه السلام .
ومِنَ العُلومِ عِلمُ النَّحوِ وَالعَرَبِيَّةِ ، وقَد عَلِمَ النّاسُ كافَّةً أ نَّهُ هُوَ الَّذي ابتَدَعَهُ وأنشَأَهُ ، وأملى عَلى أبِي الأَسوَدِ الدُّؤَلِيِّ جَوامِعَهُ واُصولَهُ ؛ مَن جُملَتِهَا : الكَلامُ كُلُّهُ ثَلاثَةُ أشياءَ : اِسمٌ وفِعلٌ وحَرفٌ . ومِن جُملَتِها : تَقسيمُ الكَلِمَةِ إلى مَعرِفَةٍ ونَكِرَةٍ ، وتَقسيمُ وُجوهِ الإِعرابِ إلَى الرَّفعِ وَالنَّصبِ وَالجَرِّ وَالجَزمِ ، وهذا يَكادُ يُلحَقُ بِالمُعجِزاتِ ؛ لِأَنَّ القُوَّةَ البَشَرِيَّةَ لا تَفي بِهذا الحَصرِ ، ولا تَنهَضُ بِهذَا الاِستِنباطِ . ۳

1.راجع : ص ۴۰۴ (علم الحساب) .

2.هو الذي يعرف الفرائض (لسان العرب : ج ۷ ص ۲۰۲ «فرض») .

3.شرح نهج البلاغة : ج ۱ ص ۱۷ .

صفحه از 18