75
بلاغة الامام علي بن الحسين (ع)

بشجن القلوب فيها دما ، ثُمَّ درست تلك المعالم ، فتنكّرت الآثار ، وجعلت في برهة من محن الدنيا ، وتفرّقت ورثة الحكمة، وبقيتُ فردا كقرن الأعضب ۱ وحيدا ، أقول فلا أجد سميعا ، وأتوجّع فلا أجد مشتكى .

وإن أبكهم اجرض۲وكيف تجلّدي
وفي القلب منّي لوعة لا أطيقها

وحتّى متى أذكر حلاوة مذاق الدنيا ، وعذوبة مشارب أيّامها ، وأقتفي آثار المريدين ، وأتنسّم أرواح الماضين ۳ مع سبقهم إلى الغلّ والفساد ، وتخلّفي عنهم في فضالة طُرق الدنيا منقطعا من الأخلاّء ، فزادني جليل الخطب لفقدهم جوى ، وخانني الصبر حتّى كأنّني أوّل ممتحن أتذكّر معارف الدنيا وفراق الأحبّة .

فلو رجعت تلك اللّيالي كعهدهارأت أهلها في صورة لا تروقها
فمَن أخصّ بمعاتبتي ، ومَن أرشد بندبتي ، ومَن أبكي ، ومَن أدع ؟ أشجو بهلكة الأموات ! أم بسوء خلف الأحياء ! وكلّ يبعث حزني ، ويستأثر بعبراتي ، ومَن يسعدني فأبكي ، وقد سلبت القلوب لبّها ، ورقّ الدمع ، وحقّ للداء أن يذوب على طول مجانبة الأطباء ، وكيف بهم وقد خالفوا الآمرين ؟ وسبقهم زمان الهادين ، ووكّلوا إلى أنفسهم ، يتنسّكون في الضلالات في دياجير الظلمات .

حيارى وليل القوم داجٍ نجومهاطوامس لا تجري بطيء خفوقها۴

1.«الأعضب» : الظبي الذي انكسر أحد قرنيه .

2.«أجرض» : أهلك .

3.في نسخة : الصّالحين .

4.الصحيفة السجادية ، دعاء ۲۱۹ ؛ كشف الغمّة ، ج۲ ، ص۳۰۶ ؛ عنه بحار الأنوار ، ج۷۸ ، ص۱۵۴ . قال الإربلي رحمه الله : هذا الفصل من كلامه ، قد نظمه بعض الشعراء ، وأجاد في قوله : قد كنت أبكي ما قد فات من زمنيوأهل وُدّي جميعٌ غير أشتاتِ واليوم إذ فرقت بيني وبينهمنوى بكيت على أهل المروّات وما حياة امرئً أضحت مدامعهمقسومةٍ بين أحياءٍ وأمواتٍ


بلاغة الامام علي بن الحسين (ع)
74

أيّها المجتهد في آثار من مضى من قبلك من الأمم السالفة ، توقّف وتفهّم ، وانظر إليه! أيّ عزّ ملك ، أو نعيم أنس ، أو بشاشة أَلف ، إلاّ نغّصت أهله قرّة أعينهم! وفرّقتهم أيدي المنون ، وألحقتهم بتجافيف التراب! فأضحَوا في فجوات قبورهم يتقلّبون ، وفي بطون الهلكات عظاما ورفاتا وصلصالاً في الأرض هامدون .

وآليت لا تبقى اللّيالي بشاشةولا جدة إلاّ سريعا خلوقها
وفي مطامع أهل البرزخ ، وخمود تلك الرقدة ، وطول تلك الإقامة ، طفئت مصابيح النظر ، واضمحلّت غوامض الفكر ، وذمّ الغفول أهل العقول . وكم بقيت متلذّذا في طوامس ۱ هوامد ۲
تلك الغرفات ، فنوهت بأسماء الملوك ، وهتفت بالجبّارين ، ودعوت الأطبّاء والحكماء ، وناديت معادن الرسالة والأنبياء ، اتملل تَملل السليم ، وأبكي بكاء الحزين ، وأُنادي ولات حين مناص .

سوى أنهم كانوا فبانوا وإنَّنيعلى جُددٍ قصد سريعا لحوقها
وتذكّرت مراتب الفهم ، وغضاضة فطن العقول ، بتذكّر قلب جريح ، فصدعت الدنيا عما التذّ بنواظر فكرها من سوء الغفلة ، ومن عجب كيف يسكن إليها مَن يعرفها ، وقد استذهلت عقله بسكونها ، وتزيّن المعاذير ، وخسأت أبصارهم عن عيب التدبير ، وكلّما تراءت الآيات ونشرها من طيّ الدهر عن القرون الخالية الماضية ، وحالهم وما بهم ، وكيف كانوا ، وما الدنيا وغرور الأيّام .

وهل هي إلاّ لوعة من ورائهاجوى قاتل أو حتف نفس يسوقها۳
وقد أغرق في ذمّ الدنيا الأدلاّءُ على طرق النّجاة من كلّ عالم ، فبكت العيون

1.«طمس الشّيء» : درس وانمحى .

2.«الهوامد» ـ جمع الهامد ـ : أرض هامدة ، يابسة مجدبة .

3.«الجوى» : الحرقة وشدة الحزن ، تطاول المرض .

  • نام منبع :
    بلاغة الامام علي بن الحسين (ع)
    تعداد جلد :
    1
    ناشر :
    دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1383
    نوبت چاپ :
    الاولی
تعداد بازدید : 116222
صفحه از 336
پرینت  ارسال به