111
الهدايا لشيعة ائمة الهدي ج1

خطبة الكافي

بسم اللّه الرحمن الرحيم
المقدّمة الثانية عشر في بيان خطبة الكافي بما يتيسّر، وهداياه اثنا عشر:
قال ثقة الإسلام طاب ثراه في خطبة الكافي:
بِسْمِ اللّه ِ الرَّحمنِ الرَّحِيمِ، الْحَمْدُ لِلّهِ الْمَحْمُودِ لِنِعْمَتِهِ ، الْمَعْبُودِ لِقُدْرَتِهِ ، الْمُطَاعِ لِسُلْطَانِهِ ۱ ، الْمَرْهُوبِ لِجَلَالِهِ ، الْمَرْغُوبِ إِلَيْهِ فِيمَا عِنْدَهُ ، النَّافِذِ أَمْرُهُ فِي جَميعِ خَلْقِهِ ؛ عَلَا فَاسْتَعْلى ، ودَنَا فَتَعَالى ، وَارْتَفَعَ فَوْقَ كُلِّ مَنْظَرٍ ؛ الَّذي لَا بَدْءَ لِأَوَّلِيَّتِهِ ، وَلَاغَايَةَ لِأَزَلِيَّتِهِ ، القَائِمُِ قَبْلَ الْأَشْيَاءِ ، وَالدَّائِمُِ الَّذِي بِهِ قِوَامُهَا ، وَالْقَاهِرُِ الَّذِي لَايَؤُودُهُ حِفْظُهَا ، وَالْقَادِرُِ الَّذِي بِعَظَمَتِهِ تَفَرَّدَ بِالْمَلَكُوتِ ، وَبِقُدْرَتِهِ تَوَحَّدَ بِالْجَبَرُوتِ ، وَبِحِكْمَتِهِ أَظْهَرَ حُجَجَهُ عَلى خَلْقِهِ .

الهديّة الاُولى

اُسوته طاب ثراه بنسق القرآن المجيد في التعبير عن أعظم نِعم اللّه العزيز الحميد؛ حيث عبّر ـ كما في القرآن ـ عن التشيّع بالنعمة، وهو أعظم نِعَم اللّه ؛ ولا نجاة، ولا تقرّب، ولا نعيم الجنّة، ولا نعمة خلودها إلّا به، قال اللّه تبارك وتعالى في الفاتحة: «صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ»۲ ، وفي المائدة: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي»۳ ، وفي الضحى: «وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ»۴ ، وفي التكاثر: «ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنْالنَّعِيمِ»۵ ، وفي النحل: «يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللّه ِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا»۶ ، وفي الحجرات: «وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللّه ِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللّه َ حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الْاءِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمْ الرَّاشِدُونَ * فَضْلاً مِنْ اللّه ِ وَنِعْمَةً وَاللّه ُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ»۷ وأمثالها في الآيات كثيرة. قد عبّر تبارك وتعالى في هذه الآية عن الأئمّة الاثني عشر صلوات اللّه عليهم بالإيمان بدليل «اُولئك»ولا مشار إليه لها فيها سواها؛ إشارةً إلى أنّهم عليهم السلام من نور واحدٍ، وأنّهم شخص الإيمان.
وعن الأوّل بالكفر، ۸ ونسق القرآن كذلك، وقد نزلت فيه: «قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ»۹ ، وكانت مدّة طغيانه سنتين.
وفي المائدة: «وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللّه ُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ»۱۰ ، ثمّ: «وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللّه ُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ»۱۱ ، ثمّ: «وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللّه ُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ»۱۲ .
وعن الثاني بالفسوق ، والفسق لغةً الظلم، والفسوق مصدر وجمع، فإفراده للتناظر وطرفيه على الإفراد، وجمعيّته للإشارة على كثرة ظلمه، وأنّه مصدر كلّ ظلم.
وعن الثالث بالعصيان، وهو مشهور في المخالفين أيضا بذلك كشهرة شيخيهم بالاعتبار.
ولمّا علم اللّه تعالى أنّهم بعد انقراض زمان خلفائهم يلقّبونهم بالخلفاء الراشدين أنزل اللّه تعالى «اُولئك هم ۱۳ الراشدون» يعني الذين عبّر عنهم بالإيمان، لا الذين عبّر عنهم بالكفر والفسوق والعصيان.
وأشار ـ طاب ثراه ـ بإضافة النِّعمة إلى أنّ الهداية والتوفيق الإيمان من اللّه سبحانه كما سيبيّن في بابه، وهو آخر أبواب كتاب التوحيد إن شاء اللّه تعالى.
(المعبود لقدرته). ردّ على القائلين بالإيجاب كزنادقة الفلاسفة والذين يلزمهم القول به كالصوفيّة القَدَريّة لعنهم اللّه .
(المطاع لسلطانه) أي لجميع ما سواه فدلالة على قدم ربوبيّته، ووحدانيّة أزليّته، وعموم سلطنته؛ ردّا على القائلين بتعدّد القديم كالأشاعرة، وهم زعموا قيام الصفات الحقيقيّة بأنفسها زائدة على الذات، وعلى المفوّضة من المعتزلة حيث توهّموا استقلال العبد في القدرة على الفعل والترك. وسيبيّن الحقّ وبطلانهم في الأواخر من أبواب كتاب التوحيد كتاب الخير والشرّ، وباب الجبر والقدر والأمر بين الأمرين، وباب الاستطاعة إن شاء اللّه .
وفي بعض النسخ : «في سلطانه» بمعنىً. ۱۴
(المرهوب لجلاله المرغوب إليه فيما عنده) دلالةً على ما دلّت عليه الفقرتان السابقتان عليها من وجههما ووجه آخر؛ إذ لا رهبة وخوف للجميع، ولذا لا رغبة ورجاء إلّا من السلطان القادر القاهر القديم ربوبيّته، الوحيد أزليّته؛ وإشارةً إلى أنّ الخائف الراجي من اللّه تعالى إنّما جزاؤه الجزاء الأوفى.
وفي بعض النسخ : «بجلاله» بالمفردة بمعنىً. ۱۵
(النافذ أمره في جميع خلقه) دلالة على مادلّت عليه الفقرات الثلاث من وجهها ووجهٍ آخر على ما لايخفى بيانه من بيانها.
(علا): كان ذا المجد والعُلى قبل خلقه ۱۶ الأشياء. (فاستعلى) فشاء إظهار المجد والعُلى، فخلق الخلق ليعرفوه ويعبدوه.
وفي الحديث القدسي: «كنت كنزا مخفيّا أحببت أن اُعرف، فخلقت الخلق ليعرفون». وفي رواية: «ليعبدون». وفي اُخرى: «كي أعرف». ۱۷
(دنا) ؛ لإحاطته بالجميع، (فتعالى) لكون إحاطته بالجميع كإحاطته بالجميع، جميع المكانيّات والزمانيّات والعقليّات والوهميّات، فَدَهَش ۱۸ كلّ واحد من المجموع في تعاليه ـ تعالى شأنه ـ كدَهْش المجموع من حيث المجموع. فنِعم ما عَطَف:
(وارتفع فوق كلّ منظر) على «تعالى»، يعني جميع المناظر: حسيّها ووهميّها وعقليّها.
(الذي لا بدء لأوليّته)؛ لوحدانيّة قدمه.
(ولا غاية لأزليّته)؛ للعينيّة بين أزليّة أوّليّته وديموميّة آخريّته.
(القائم) بذاته (قبل) خلقه (الأشياء ، والدائم) الربوبيّة الذي بتدبيره ۱۹ قوام الأرض والسماء وما بينهما وما تحت الثرى.
(والقاهر الذي لا يؤده حفظها) أي المسخّر القويّ الذي لا يَتَكَأّده ولا يثقله حفظها عرشه وحلمته وما أحاطا به ۲۰ وكرسيّه وحَفَظَته، وما أطافا عليه «وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَـوَ تِوَالْأَرْضَ وَلَا يَئودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِىُّ الْعَظِيمُ» . ۲۱
(القادر الذي بعظمته تفرّد بالملكوت، وبقدرته توحّد بالجبروت) دلالةً على وحدانيّة قدرته وفردانيّة عظمة سلطنته وقدرة جبّاريّته ، فكما أنّ توحّده بالعظمة دليل تفرّده بالسلطنة، كذلك تفرّده بالقدرة دليل توحّده بالجبّاريّة ، فمعنى ثنائه تبارك وتعالى بقولنا: له وحدانيّة الشيئيّة أنّه ليس كمثله شيء ، فشيئيّته خاصّة؛ وله فردانيّة القدرة أنّه على كلّ شيءٍ قدير، فقدرته قدرته.
ومعنى قوله عليه السلام في الصحيفة الكاملة السجّادية: «لك وَحْدانيّةُ العدد، ومَلَكَة القدرةِ الصَّمَد» ۲۲ أنّ وحدانيّة وحدته خاصّة. ووجه التعبير عن الوحدة بالعدد ظاهر .
أو المعنى أنّ وحدانيّته تعالى بحسب العدد؛ يعني باعتبار (شماره).
وما «مِن نَّجْوَى ثَلَـثَةٍ إِلَا هُوَ رَابِعُهُمْ»۲۳ ليس من قبيل الوحدة العدديّة، كيف؟! وهذه يلزمها الاثنينيّة، وتلك قبل الأعداد والمعدودات ومحيطة بما أوجد منها مع العينيّة بين أوّليّته قبل كلّ أوّل وآخريّته بعد كلّ آخر؛ لتوحّده بالقدم والأزليّة، وتفرّده بالبقاء والديموميّة.
(وبحكمته أظهر حججه على خلقه) أي بعلم شرائعه، أو بأن عرّف لهم أوّلاً عظمة ربوبيّته وجلالة صانعيّته بشواهد الربوبيّة من الأرض والسماء وسائر عجائب الآثار وغرائب الصنائع بهذا ۲۴ النظام والتقدير، وهذا النسق والتدبير؛ لتعمّ بفضله العظيم ولطفه العميم معرفته الفطريّة التي فطر الناس عليها ـ وقد قال أمير المؤمنين عليه السلام : «الحمد للّه ۲۵ المُلْهِم عبادَه حَمْدَه، وفاطِرهم على معرفة ربوبيّته». ۲۶ وسيجيء في الخامس في باب جوامع التوحيد في كتابه في التوحيد ـ لتحصل لهم بعدها المعرفة الدينيّة التي لا تحصل إلّا بإرسال الرُّسل وإنزال الكتب؛ للقطع بأنّ الأعلم بهذا النظام هو مدبّره، فانحصر القطع بحقّيّة شيء في إخباره، فتجب الواسطة؛ لامتناع الرؤية والمعاشرة بالملامسة ونحوها، فيقول الرسول إليهم للمعرفة الدينيّة الّتي هي معرفة خصوصيّات الربوبيّة كما عرّف اللّه به نفسه بالآيات البيّنات وخصائص النبوّة والإمامة، كما ورد به الكتاب والسنّة ودلّت عليه المعجزات والدلالات: أنا رسول إليكم من الذي قطعتم بوجوده من شواهد ربوبيّته؛ «لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَىَّ عَنْ بَيِّنَةٍ»۲۷ ، فمن أقبل وقبل هُدي بتوفيق اللّه ، ومَن أدبر وأنكر ضلّ بخذلانه، واللّه يهدي مَنْ يشاء ويضلّ من يشاء ۲۸ ، ولا جبر كما سيفصّل في الأواخر من أبواب كتاب التوحيد إن شاء اللّه تعالى في مثل قوله تعالى في سورة الزخرف: «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ» ، ۲۹ وفي آخرها: «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللّه ُ»۳۰ إشارةً إلى ما صحّ من أنّ أوّليّة شواهد الربوبيّة موجبات لحصول المعرفة الفطرية، وخواتيمها من الحجج المعصومين والكتب الإلهيّة شروط لحصول المعرفة الدينيّة.
وسمعت السيّد السند أمير حسن القائيني رحمه الله يقول:
مظنوني أيضا كما ظنّ معظم الأصحاب أنّ خطبة الكافي لمكان شأن نظامه بهذه المكانة، ونظام شأنه بهذه المتانة والرزانة من منشآت الصاحب عليه السلام ، وقد ثبت أنّ تأليف الكافي لجميع أحاديث الأئمّة عليهم السلام إنّما كان في الغيبة القُصْرى بالأمر المشافهي من صاحب الأمر عليه السلام .
وقال برهان الفضلاء مولانا خليل اللّه القزويني سلّمه اللّه تعالى:
حقّ أنّ كتاب الكافي عمدة كتب أحاديث الأئمّة عليهم السلام ألّفه ثقة الإسلام أبو جعفر محمّد بن يعقوب بن إسحاق الرازي الكليني ـ طاب ثراه ـ في الغيبة الصغرى باحتياط تامّ في عرض عشرين عاما، وكانت مدّة هذه الغيبة تسعا وستّين سنة بناءً على أنّ مبدأها من مضيّ أبي محمّد عليه السلام ، وأربعا وسبعين سنة إذا كان مبدؤها من مولد الصاحب عليه السلام . وعاشر ثقة الإسلام أكثر سفرائه عليه السلام في بغداد وغيرها أكثر الأوقات، فاُمر مشافهة ـ كما هو المشهور ـ أو بتوسّط السفراء بجمع الأحاديث المخزونة لشدّة التقيّة وتأليف الكافي. فيقرب أن يكون المراد بالعالم في هذا الكتاب في كلّ حديث كان في عنوانه «وقد قال العالم عليه السلام » أو «في حديث آخر» الصاحب عليه السلام بلا واسطة، أو بواسطة السفراء، إلّا أن تكون قرينة صارفة. والمظنون أنّ الكافي شرّف بنظره ۳۱ عليه السلام وكان مضيّ ثقة الإسلام ـ طاب ثراه ـ سنة مضيّ الأخير من سفرائه عليه السلام أبي الحسن عليّ بن محمّد السمري رضى الله عنه، وهي سنة تسع وعشرين وثلاثمائة هجريّة أو بعدها بسنة واحدة.
ثمّ قال برهان الفضلاء:
«المحمود» ونظائره إمّا بالجرّ على الوصف، أو الرفع بتقدير «هو» واللام في «لنعمته» ونظائرها للسببيّة. والسبب على قسمين؛ إمّا فائدة أو غيرها، والأوّل يسمّى بالعلّة الغائيّة ، و«لنعمته» على الأوّل إشارة إلى أنّ الابتداء في سورة الفاتحة بالحمد بعد البسملة؛ لأنّه سبب لاستجابة الدعاء وطلب النِّعمة. ونعمته عبارة عن توفيقه للصراط المستقيم المطلوب في «اهْدِنَا الصِّرَ طَ الْمُسْتَقِيمَ» وهو الإيمان بولاية الأئمّة الاثني عشر صلوات اللّه عليهم وحقّيّة طريق النبيّين عليهم السلام ، والتبعيّة الحقّة منحصرة في طريقهم، في تبعيّة العلم في نفس أحكام اللّه عزّ وجلّ إلى آخر العمر. وهذا هو المراد في الآيتين في سورة يونس، قال اللّه تعالى: «فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَا الضَّلَالُ فَأَنَّا تُصْرَفُونَ»۳۲ ، وقال: «أَفَمَنْ يَهْدِى إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّى إِلَا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ»۳۳ .
واستقامته باعتبار أنّ الاختلاف والتعدّد لا يكون في تبعيّة العلم، بل هو ثابت راسخ بخلاف تبعيّة الظنّ، نظيره أنّ الخطّ المستقيم بين النقطتين لا يكون إلّا واحدا بخلاف الخطّ المعوجّ ، فظهر أنّ تبعيّة الظنّ في نفس أحكام اللّه صراط المغضوب عليهم والضالّين، قال اللّه تعالى في سورة يونس وسورة النجم: «إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئا»۳۴ .
وفي قول المصنّف «المحمود لنعمته» إشارة إلى أنّ سورة الفاتحة أوّل براهين القاطعة القرآنيّة على حقّيّة مذهب الشيعة الإماميّة الاثني عشريّة، ووجوب وجود إمام معصوم مفترض الطاعة، عالم بجميع نفس أحكام اللّه في كلّ زمان إلى انقراض الدنيا، وما أظهر أنّ الناس في كلّ زمان لابدَّ لهم من المُفتين والقُضاة فيما بينهم، وأنّ الإفتاء علما، وكذا القضاء يمتنع في أكثر الاُمور والقضايا بدون ظهور ذلك الإمام، فلو أنّ المفتين والقضاة بالظنّ منعوا أنفسهم وكفّوا أيديهم عن الإفتاء والقضاء بالظنّ في زمن الغيبة، فإمّا أن تنقرض الدنيا أو يظهر الإمام عليه السلام ، والدنيا لا تخرب قبل ظهور المهدي باتّفاق أهل الإسلام.
وقد روى البخاري في صحيحه في باب مناقب قريش بعدّة من الطرق عن النبيّ صلى الله عليه و آله أنّه قال: «الأئمّة الحقّ بعدي إلى انقراض الدنيا اثنا عشر كلّهم من قريش». ۳۵
فإن قيل: فيلزم أن لا يكون العمل بظاهر القرآن والخبر الواحد المستجمع للشرائط جائزا في زمن غيبة الإمام أيضا؛ لأنّهما لا يفيدان ما خلا الظنّ.
قلنا: جواز العمل بهما ليس مستلزما لجواز العمل بالظنّ في نفس أحكام اللّه سبحانه؛ إذ الممنوع الإفتاء والقضاء بمضمونهما، لا محض عمل كلّ أحد لنفسه بمضمونهما، سواء حصل الظنّ بمضمونهما أو لا، كما هو مذهب الأخباريّين من أصحابنا رضوان اللّه عليهم؛ وذلك لأنّ هذا العمل استناده إنّما على دليل قطعيّ على جوازه، نظيره حكم القاضي بشهادة العدلين، سواء كان المشهود به مظنونا أو لا. وشيخ الطائفة أبو جعفر محمّد بن الحسن بن عليّ الطوسيّ، قال في كتاب عدّة الاُصول في فصل ذكر خبر الواحد وجملة من القول في أحكامه: «وليس من عمل بخبر الواحد يضيف إليه أنّ اللّه تعالى قد قال ما تضمّنه الخبر، وذلك معلوم عنده بدليل دلّ عليه » ۳۶ . انتهى.
وهذا لا ينافي جواز تبعيّة الظنّ في الجملة في غير نفس أحكام اللّه تعالى، كثبوت عدالة الشاهدين، وتعيين القبلة في مكان معيّن، وتعيين مقادير الجنايات وقيم المتلفات، ونحو ذلك ممّا لا يكون التنازع فيه مستمرّا في الأزمنة بعده، وأمثال المذكورات تسمّى بمحالّ أحكام اللّه .
وما ذكرنا يوافق قوله تعالى في سورة الحجرات: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرا مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ»۳۷ بناءً على أن يكون كلّ من كثير الظنّ وبعضه في هذه الآية عبارة عن المذكور في آية سورة يونس وسورة النجم ۳۸ ، وقد مرّ ذكرهما.
أقول: كما لا شكّ في ثبوت الرخصة عنهم عليهم السلام لا سيّما في زمن الغيبة في العمل بالظنّ للإماميّ المستجمع لشرائط الإفتاء والقضاء، إمّا مطلقا كما عليه معظم الأصحاب بل جميع متأخّريهم، ما عدا قليل منهم كالفاضل مولانا محمّد أمين الاسترآبادي نزيل مكّة ثمّ المدينة، صاحب [ال] فوائد المدنيّة رحمه الله، وبرهان الفضلاء سلّمه اللّه ؛ أو في الجملة بالاتّفاق؛ للاتّفاق على أنّ ظنّية الطريق ـ كما في الخبر الواحد المقرون بشرائط الصحّة ـ لا تنافي قطعيّة الحكم، لا شكّ ۳۹ أنّ وقت ظهور الصاحب عليه السلام من المقدّرات المحتومة لا بداء فيه، إذا جاءهم لا يستقدمون ساعة ولا يستأخرون، وأنّ المفتين والقضاة لا يتّفقون قطّ على منع أنفسهم من الإفتاء وكفّ أيديهم من القضاء، وأنّ غير المستجمع شرائطهما ۴۰ كقضاة العامّة ومفتيهم بالآراء والمقاييس مؤاخذون بهما كما بمذاهبهم، فلم يبق كلام مثل الفاضلين مع سائر أصحابنا المتأخّرين إلّا في عموم الرخصة في العمل بالظنّ للإماميّ الموصوف وخصوصها.
وظاهر أنّ ظاهر أحاديث الرخصة كمنطوق لفظ الإفتاء والقضاء من أدلّة العموم، وهو ظاهر ثقة الإسلام في أواخر الخطبة كما سيفصّل في الهديّة الحادية عشرة.
ثمّ قال برهان الفضلاء سلّمه اللّه تعالى:
«المعبود لقدرته» ردّ على القائلين بالإيجاب المنكرين لقدرته تعالى، كزنادقة الفلاسفة ومن يقتفي أثرهم؛ حيث قالوا: ما يفعله ليس له أسباب تركه، وما لا يفعله ليس له أسباب فعله، فأنكروا كونه سبحانه مستحقّا للعبادة، بل كونه مستحقّا للحمد أيضا.
و«الاستعلاء» إظهار العلوّ.
و«التعالي» كمال التنزّه عن أن يشكّ فيه، فإنكار الجاحدين بمجرّد اللسان والمكابرة .
و«الفاء» في الفقرتين للتعقيب. و«ارتفع» عطف على «تعالى» أو حاليّة بتقدير «قد» .
و«المنظر» بفتح الميم مصدر ميميّ بمعنى الإبصار، إبصار الأبصار أو القلوب، ۴۱ واسم مكان يطلق على العين والغرفة وكلّ مكان مرتفع. و«القوام» بالكسر: الوجود والبقاء، وقوام الخيمة عمادها. و«القوام» بالفتح: العدل.
و«القاهر» أي الغالب على كلّ ما يريد.
«تفرّد بالملكوت» أي بسلطنة القدرة على شيء بمحض نفوذ الإرادة من دون حركةٍ لاستعمال آلة وعضو ، فردّ على اليهود والفلاسفة ومن تبعهم في القول بتجرّد العقول العشرة والنفوس الناطقة.
و«الجبروت» مبالغة في الجبر بمعنى أنّ كلّ ممكن باق محتاج في بقائه بقوّته وحفظه سبحانه.
و«بحكمته أظهر حججه على خلقه» أي الأنبياء والأوصياء، بمعنى أنّه لم يُظْهِرهم بحيث لا يكون لوسوسة الشيطان إلى حقّيتهم سبيل؛ ليفوز المؤالف فوزا عظيما، ولم يُخْفِهم بحيث يكون المخالف معذورا بعدم إتمام الحجّة عليه.
أقول: أراد سلّمه اللّه تعالى بقوله: «ومن يقتفي أثرهم» الصوفيّة والقدريّة لعنهم اللّه ، وهم يقولون بناءً على طريقتهم المبتنية في الأكثر على اُصول زنادقة الفلاسفة: إنّه تعالى ليس مستحقّا لجميع المحامد، بل لحمد إفاضة الوجود فقط.
قال بعض المعاصرين في كتابه في بيان الحديث الثاني في الباب الثامن والعشرين في كتاب التوحيد، وهو باب السعادة والشقاء:
ما قدّر اللّه تعالى على الخلق الكفر والعصيان من نفسه بل باقتضاء أعيانهم وذواتهم، وطلبهم بألسنة استعداداتهم أن يجعلهم كافرا أو عاصيا، فما كانوا في علمه تعالى ظهروا به في وجوداتهم العينيّة، فليس للحقّ إلّا إفاضة الوجود عليهم والحكم لهم وعليهم، فلا يحمدوا إلّا أنفسهم، ولا يذمّوا إلّا أنفسهم، ولا يبقى للحقّ إلّا حمد إفاضة الوجود؛ لأنّ ذلك له لا لهم. ۴۲ انتهى.
وفي توحيد الصدوق في باب القضاء والقدر بإسناده عن أبي عبداللّه عليه السلام : «إنّ القدريّة مجوس هذه الاُمّة، وهم الذين أرادوا أن يصفوا اللّه بعدله، فأخرجوه من سلطانه، وفيهم نزلت هذه الآية: «يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِى النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ إِنَّا كُلَّ شَىْ ءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ» » ۴۳ .
وعن السيّد المرتضى علم الهدى وابن حمزة عن المفيد بإسناده المتّصل عن الهادي أبي الحسن الثالث عليه السلام أنّه قال: «إنّ أخسّ الطوائف الصوفيّة، والصوفيّة كلّهم من مخالفينا، وطريقتهم مغايرة لطريقتنا، وإن هم إلّا نصارى ومجوس هذه الاُمّة، اُولئك الذين يجهدون في إطفاء نور اللّه ، واللّه يتمّ ولو كره الكافرون». ۴۴
وقال السيّد الأجلّ النائيني ميرزا رفيعا رحمه الله في شرح خطبة الكافي ـ وهو قدس سره من المائلين من متأخّري أصحابنا الإماميّة رضوان اللّه عليهم إلى استقامة نَبْذٍ من اُصول الفلاسفة، كتجرّد العقول والنفوس الناطقة؛ وتأويل نَبْذٍ اُخر منها، كإيجاب الصانع، وقِدَم العالَم بالإيجاب الخاصّ والقدم الزماني ولن ترضى الفلاسفة فقط، وذلك لصرفهم من العمر مدّة في مطالعة كتبهم وتدريسها باقتضاء كثير من الطبائع في عصرهم ذلك ـ :
لمّا كان إنعامه تعالى باعثا لأن يُحمد شكرا لما وقع، وقدرته على ما يشاء سببا للتذلّل والعبوديّة له، أسند المحموديّة بالنعمة والمعبوديّة بالقدرة. ولعلّ المراد بكونه «مطاعا في سلطانه» أنّ المبرم من قضائه وحكمه لا يتمكّن أحدٌ من مخالفته ونقضه؛ حيث اضمحلّ كلّ تمكّن وسلطنة في جنب سلطانه ، فالمطلوب ۴۵ على طريق السلطنة لا يُقاوَم ولا يُعارضُ . وأمّا الأوامر والنواهي التي ربّما لا يطاع فيها فليست من هذا القبيل، ولذا قال : «المطاع في سلطانه» لا «المطاع في أوامره ونواهيه».
«المرهوب لجلاله» إمّا متعدّ بالحرف، والمعنى مرهوب منه، فحذفت أداة النفي المتعدّية في اللفظة، كما يقال: المصطلح ويراد المصطلح عليه ؛ وإمّا متعدّيا بنفسه.
قال المطرّزي: رهبه: خافه، واللّه مرهوب [ومنه] لبّيك ۴۶ مرهوب ومرغوب إليك.
و«الاستعلاء» استفعال من العلوّ بمعنى فعل.
وعن عبد القاهر: أنّ المعنى في لفظ «استفعل» يتغيّر قليلاً، وأنّ استقرّ واستعلى أقوى من قرّ وعلا.
فالتفريع في قوله : «فاستعلى» على تقدير المغايرة يصحّ على كونهما متعدّيين أو لازمين، وعلى كونه بمعنى فعل بلا مغايرة يبنى على كون أحدهما متعدّيا والآخر لازما، والأخير أولى باللّزوم.
و«الملكوت» فعلوت من الملك، كالرّغبوت من الرغبة، والرهبوت من الرّهبة، والرّحموت من الرحمة، والجبروت من الجبر . وعالم الملكوت يُطلق على المجرّدات والمفارقات، كما أنّ عالم الملك يُطلق على الجسمانيّات والمقارنات. ۴۷
وقال الفاضل الاسترآبادي رحمه الله:
«علا» أي كان متفرّدا بالعلوّ الذي لا علوّ فوقه «فاستعلى» فأظهره بعجائب آثار الصنع وغرائب صنايع القدرة.
وقال السيّد السند أمير حسن القائني رحمه الله:
أي علا بالذات علوّا مطلقا لا إضافيّا «فاستعلا» أي فاستحقّ العلوّ والعبودية على الإطلاق؛ من باب استحصد الزرع، أي استحقّ الحصاد. ۴۸

1.في الكافي المطبوع : «في سلطانه».

2.الفاتحة (۲): ۷. راجع: معاني الأخبار، ص ۳۲، باب معنى الصراط؛ شواهد التنزيل، ج ۱، ص ۸۵ ، ح ۱۰۵.

3.المائدة (۵): ۳.

4.الضحي (۹۳): ۱۱. راجع: المناقب، ج ۳، ص ۱۰۰؛ وعنه في البحار، ج ۳۵، ص ۴۲۵.

5.التكاثر (۱۰۲): ۸ . راجع: الكافي، ج ۶ ، ص ۲۸۱، باب آخر في التقدير و...، ح ۵ ؛ الأمالي للطوسي المجلس ۱۰، ح ۴۸؛ المناقب، ج ۲، ص ۱۵۳.

6.النحل (۱۶): ۸۳.

7.الحجرات (۴۹): ۷ و ۸.

8.راجع: الكافي، ج ۱، ص ۴۲۶، باب فيه نكت ونتف...، ح ۷۱؛ المناقب، ج ۳، ص ۹۴؛ تفسير القمّي، ج ۲، ص ۳۱۹.

9.الزمر (۳۹): ۸ . راجع: الكافي، ج ۸ ، ص ۲۰۴، ح ۲۴۶.

10.المائدة (۵): ۴۴.

11.المائدة (۵): ۴۵.

12.المائدة (۵): ۴۷.

13.في «الف»: - «هم».

14.في «ب» و «ج»: - «بمعنى».

15.في «ب» و «ج»: - «بمعنى».

16.في «الف»: «خلقه».

17.هذا الحديث مشهور على الألسنة وفي كتب العرفاء والصوفيّة، ولكن لم يثبت عند المحدّثين ولا أصل له وإن كان معناه صحيح ظاهرا. راجع: بحارالأنوار، ج ۸۴ ، ص ۱۹۹، باب كيفية صلاة الليل، ذيل الحديث ۶ ؛ مفاتيح الغيب لفخرالدين الرازي، ج ۲۸، ص ۱۹۴ ذيل الآية: ۵۶ من سورة الذاريات (۵۱). ولفظ الحديث على ما في تعليقة تفسير المحيط الأعظم...، ج ۱، ص ۳۲۴ هكذا: «قال داود عليه السلام : يا ربّ، لما ذا خلقت الخلق؟ قال: كنتُ كنزا مخفيّا، فأحببت أن اُعرف، فخلقتُ الخلق لكي اُعرف».

18.«الدَهَش»: ذهاب العقل من الذَهَل والوَلَه، وقيل: من الفزع ونحوه. لسان العرب، ج ۶ ، ص ۳۰۳ (دهش).

19.في «الف»: «تدبيره».

20.في «الف»: - «وما أحاطا به».

21.البقرة (۲): ۲۵۵.

22.الصحيفة السجّاديّة، ص ۱۳۵، الدعاء ۲۸.

23.المجادلة (۵۸): ۷.

24.في «الف»: «لهذا».

25.في «الف»: - «الحمد للّه ».

26.الكافي، ج ۱، ص ۱۳۹، باب جوامع التوحيد، ح ۵ ؛ ورواه الصدوق في التوحيد، ص ۵۶ ، باب التوحيد ونفي التشبيه، ح ۱۴ عن أبي الحسن الرضا عليه السلام .

27.الأنفال (۸): ۴۲.

28.اقتباس من الآية ۹۳، سورة النحل (۱۶)؛ والآية ۸ ، سورة فاطر (۳۵).

29.الزخرف (۴۳): ۹.

30.الزخرف (۴۳): ۸۷ .

31.في «الف»: «بمنظره».

32.يونس (۱۰): ۳۲.

33.يونس (۱۰): ۳۵.

34.يونس (۱۰): ۳۶ ، النجم (۵۳): ۲۸.

35.لم أجد لفظ الحديث كما في المتن في المجاميع الحديثيّة العامّة والخاصّة، ولفظ الحديث في صحيح البخاري، ج ۶ ، ص ۲۶۴۰، ح ۶۷۹۶ هكذا : «سمعت جابر بن سمرة، قال: سمعت النبيّ صلى الله عليه و آله يقول: يكون اثنا عشر أميرا، فقال كلمة لم أسمعها، فقال أبي: إنّه قال: كلّهم من قريش». وللمزيد راجع: صحيح مسلم، ج ۳، ص ۱۴۵۲ ـ ۱۴۵۳، ح ۱۸۲۱ ـ ۱۸۲۲.

36.عدّة الاُصول، ج ۱، ص ۱۰۲.

37.الحجرات (۴۹): ۱۲.

38.يونس (۱۰): ۳۶؛ النجم (۵۳): ۲۸.

39.عطف على قوله قبيل هذا : «كما لاشكّ».

40.في «الف»: «لشرائطها».

41.في «الف»: «والأبصار والقلوب».

42.الوافي، ج ۱، ص ۵۳۰ ، ح ۲۴۳۳. بتفاوت.

43.التوحيد، ص ۳۸۲، باب القضاء والقدر و...، ح ۲۹. والآية في القمر (۵۴): ۴۸ ـ ۴۹.

44.حديقة الشيعة، ص ۶۰۲ ـ ۶۰۳ ؛ و رواه عن كتاب قرب الإسناد في إكليل المنهج، ص ۱۲۹.

45.في المصدر : «فالمطاع».

46.في النسخ : «إنّك» وما أثبتناه من المصدر، وهو الصحيح.

47.الحاشية على اُصول الكافي لميرزا رفيع النائيني، ص ۳۱ ـ ۳۲.

48.له حواش على الكافي، نقل عنه بعض الفضلاء والشارحين كالمصنّف في هذا الشرح والملّا خليل القزويني في شرحيه وغيرهما، لكن حواشيه على الكافي غير مطبوع و لم عثر على مخطوطة منه.


الهدايا لشيعة ائمة الهدي ج1
110
  • نام منبع :
    الهدايا لشيعة ائمة الهدي ج1
    سایر پدیدآورندگان :
    تحقیق : الدرایتی، محمد حسین ؛ القیصریه ها، غلام حسین
    تعداد جلد :
    2
    ناشر :
    دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1388 ش
    نوبت چاپ :
    الاولی
تعداد بازدید : 116569
صفحه از 644
پرینت  ارسال به