147
الهدايا لشيعة ائمة الهدي ج1

الهديّة السابعة:

(من اصطلاح أهل دهرنا على الجهالة) أي من اتّفاق أهل عصرنا في الغيبة الصغرى على طلب الجهالة وزيادتها مصرّين فيه ومبالغين في شهرتها.
ولانحصار حصول العلم والقطع بما هو الحقّ في الاُمور التي يجري فيه الاختلاف من غير مكابرة واعتساف فيما مأخذه المعصوم المنصوص الممتاز عن الجميع في الجميع حسبا ونسبا عاقلاً عن اللّه ؛ لانحصار الأعلمية بما في هذا النظام في صانعه ومدبّره، اختصّ اسم العلم بما مأخذه المأخوذ عن الحجّة المعصوم، واسم الجهل بخلافه.
و«التوازر»: التعاون.
و«عمارة الطريق»: عبارة عن كونه شارعا لعامّة الناس.
(ومباينتهم العلم وأهله) أي مفارقتهم، وعدم طلبهم ما هو الحقّ. وأهله الإمام وشيعته.
(كاد العلم معهم) أي مع وجود اُولئك المصطلحين على الجهالة.
(أن يأرز كلّه)، على المعلوم بتقديم المهملة، كنصر، وضرب، وعلم، يعني أن يخفى ويستتر بتمامه. قال ابن الأثير في نهايته: فيه : «إنّ الإسلام ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحيّة إلى جحرها» أي ينضمّ إليها ويجتمع بعضه إلى بعض فيها ۱ . ۲
(وتنقطع موادّهُ) أي باختفاء علماء الشيعة وكتب أحاديث أئمّتهم عليهم السلام ؛ لاشتداد التقيّة في الغيبة الصغرى، فإنّ الاُصول الأربعمائة المتعارفة المتداولة فيما بينهم اُخفيت تمامها على التدريج؛ لاشتداد التقيّة كذلك من زمن المتوكّل عاشر الخلفاء العبّاسية إلى زمن استيصالهم.
(لما قد رضوا)، بكسر اللّام للتعليل.
في بعض النسخ : «ويضيّعوا» من التضييع مكان : «ويضعوا» من الوضع بمعنى الحطّ. وضع فلان كحسن: صار وضيعا. ووضعه غيره، كعلم وضعا، وَضَعةً وضِعة بالفتح والكسر، والهاء عوض الواو .
و(المقام) بالفتح: مصدر ميميّ بمعنى الإقامة، واسم المكان أيضا، أي موضع القيام؛ وكذا «المقام» بالضمّ. [قال ]الجوهري:
وأمّا «المَقام» و«المُقام» فقد يكون كلّ واحد منهما بمعنى الإقامة، وقد يكون بمعنى موضع القيام؛ لأنّك إذا جعلته من قام يقوم فمفتوح، وإن جعلته من أقام يقيم فمضموم؛ لأنّ الفعل إذا جاوز الثلاثة فالموضع مضموم الميم؛ لأنّه مشتبه ببنات الأربع، نحو دحرجَ، وهذا مُدحرجُنا، وقوله تعالى: «لَا مُقَامَ لَكُمْ»۳ بالضمّ، أي لا إقامة لكم و «حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَ مُقَامًا» ، ۴ أي موضعا. ۵
(بجميع اُموره)، بأنّ جميعها ما جاء به النبيّ صلى الله عليه و آله .
(على جهة الاستحسان)، حالية، يعني استحسان الأنفس بأهوائها، آرائها، وقياساتها.
(والنشوء عليه) يعني وتجدّد الاتّصاف ۶ بالاستحسان الموصوف في كلّ زمان للأحكام بل لحكمٍ واحد بعد الاتّصاف به سابقا ، و«النشوء» بالضمّ: مصدر نشأ كمنع؛ أي الحدوث ابتداءً.
(والكبراء) أي الرؤساء الغير المستندين إلى العلم الموصوف آنفا.
(في دقيق الأشياء وجليلها): حقيرها وعظيمها، أو غامضها وواضحها.
(خِلقة) بالكسر: للنوع، منفصلة ممتازة.
(محتملة للأمر والنهي) أي قابلة بالاستطاعة المخلوقة فيها للإطاعة في الأمر والنهي.
(والزمانة) بالفتح: آفة معروفة [قال] الجوهري: رجل زمن، أي مبتلى بيّن الزمانة. ۷
(بعد ما أكملهم آلة التكليف) من قدر العقل والاستطاعة والتمكّن من الفعل والترك، بصحّة الجوارح وانتفاء الموانع.
(ووضع التكليف عن أهل الزمانة والضرر) أي بقدرهما.
(غير محتملة للأدب والتعليم) يعني كاحتمال أهل الصحّة والسلامة.
(سبب بقائهم) أي سبب صلاح معاشهم ومعادهم.خطبة الكافي
(فلو كانت الجهالة جايزة) أي الجهالة الموصوفة التي يوجبها القول بعدم الحاجة لمكان العقل في مثل هذا النظام العظيم بهذه الآراء المختلفة وهذه الاختلافات إلى الحجج المعصومين العاقلين عن اللّه ، المنحصر فيه الأعلميّة بتدبيره.
و(الآداب): عبارة عن السنن والشرائع، وإنّما في رفعها (فساد التدبير) أي في الاُمور ونظامها؛ لمكان الآراء المختلفة الداعية إلى الاختلاف. أو المعنى : وفي رفعها لزوم القول ببطلان حقّية بداهة الحكم بأنّ الأعلميّة بما في العالم منحصرة في مدبّر نظامه بهذا النسق.
فالمراد من قول أهل الدهر على الأوّل: قول الملاحدة الدهريّة، من البراهمة وغيرهم بعدم الحاجة إلى الأنبياء والحجج؛ لاستقلال العقل في معرفة الأشياء وحقايقها.
وعلى الثاني: قول الصوفيّة القدريّة التابعين للدهريّة في نسبة التقادير والتدابير إلى أعيان الأشياء وحقائقها، ثمّ قالت الدهريّة: إنّما ظهورها بالدهر، وقالت الصوفيّة: ليس للوجود إلّا إفاضة الوجود، على ما نقلنا عن بعض المعاصرين في أواخر الهديّة الاُولى.
(أن يخصّ من خلق من خلقه) أي بالآمريّة والزاجريّة من عنده كلّ من خلق من جملة خلقه (خلقة محتملة) لأمر اللّه ونهيه له، ولا لآمريّة والزاجريّة لغيره من عنده سبحانه.
وبعبارة اُخرى: أن يخصّ الذين خلقهم من خلقه ۸ خلقة محتملة للمطيعيّة والمطاعيّة بالحجّيّة من عنده آمرين وزاجرين.
و«السّدى بالضمّ والقصر وينوّن كالهدى: المهمل. غنم سدى: مهملة بلا راع. [قال ] الجوهري: وبعضهم يقول: سدى بالفتح. وأسديتها: أهملتها. ۹
و(مهملين): خبر بعد الخبر على ضرب من التجريد، أي لئلّا يكونوا بلا راع مهملين.
و(ليعظّموه) أي بالمعرفة الدينيّة التي لا تحصل إلّا بإخبار الحجج المعصومين العاقلين عن اللّه .
(ويوحّدوه) أي يقرّوا له تعالى بالوحدانيّة في جميع خصوصيّاته حتّى وحدانيّة الوحدة بأنّها ليست من باب وحدة العدديّة، تلزمها الاثنينيّة، ووحدانيّة الوحدة فردانيّة القدم، ولا قديم في باب القدم سواه تبارك وتعالى .
(ويقرّوا له بالربوبيّة) أي للعالمين بالخصوصيّات التي عرّف بها نفسه تبارك وتعالى.
(إذ شواهد ربوبيّته دالّة ظاهرة): تعليل لمقدّر مفهوم من التعليلات السابقة، مثل : «وقد تمّت عليهم الحجّة»؛ فإنّ شواهد ربوبيّته من عجائب الآثار والتقادير، وغرائب الصنائع والتدابير التي تحصل بها المعرفة الفطريّة لكلّ ذي شعور البتّة دالّة ظاهرة، وحججه المعصومين المنصوصين الذين لا تحصل المعرفة الدينيّة إلّا بهم.
(نيّرة واضحة) وهم أعلامه اللّائحة.
(تدعوهم إلى توحيد اللّه ) أي الحجج، الإعلام إلى ذلك بالمعرفة الدينيّة.
(وتشهد) أي شواهد ربوبيّته من الأرض والسماء وما بينهما من سائر آثار الصنع وعجائب التدبير سيّما خلقة الإنسان، فتبارك اللّه أحسن الخالقين.
(فندبهم إلى معرفته). ندبه لأمر بالمفردة، كنصر فانتدب: دعاه له فأجاب.
(لئلّا يبيح لهم أن يجهلوه) أي لئلّا يجوّز لهم بترك ندبتهم إلى المعرفة الدينيّة أن يجهلوه جهلاً بخصوصيّاته المعلومة بالمعرفة الدينيّة؛ لأنّ الحكيم قبيحٌ عليه تجويز الجهل به كذلك.
والآية الاُولى في سورة الأعراف ۱۰ . وفي التفسير: ألم يؤخذ على العباد ميثاق كلّ كتاب مُنزلٍ من لدن آدم إلى آخر الزمان أن لا يقولوا على اللّه في المختلف فيه بلا تعصّب وعناد إلّا الحقّ الواقعي الذي لا يجري فيه الشكّ أصلاً؛ لأخذه عن الحجّة المعصوم الممتاز العاقل عن اللّه سبحانه.خطبة الكافي
والآية الثانية في سورة يونس ۱۱ . والثالثة في سورة التوبة. ۱۲
(فكانوا محصورين بالأمر والنهي) أي مضيّقين عليهم في قبول التكليف ، أو محفوظين في حِصار الدِّين ۱۳ .
حصره حصرا كنصر: جعله في حصار وضيّق عليه.
(مأمورين بقول الحقّ) أي المأخوذ عن المعصوم، أو بإطاعة قول المعصوم، وهو العلم واليقين الذي لا سبيل للشكّ إليه أصلاً.
(ولم يكن يحتاج) يحتمل المعلوم وخلافه. والمستتر على الأوّل لِفاعل «أمرهُم».
(لَما بقوا طرفة عين)؛ لمكان الفساد في معاشهم مكان الصّلاح فيه إذا كان لا شريعة في الدنيا ولا طلب الرحمة أصلاً، وقد قدّر اللّه تعالى بقاء الدنيا في مدّتها بالمؤمن باللّه واليوم الآخر ولو كان شخصا واحدا كما كان إبراهيم عليه السلام مدّة اُمّة بانفراده، وللزوم بطلان الحكمة والتدبير كما قيل.
قال برهان الفضلاء سلّمه اللّه تعالى:
«من اصطلاح أهل دهرنا على الجهالة» أي على الحكم ظنّا بغير حكم اللّه سبحانه فيما يجري فيه الاختلاف وفي دليله بلا مكابرة، كمضامين الآيات المتشابهة، سواء كان ذلك الحكم من دليل يجري فيه الشكّ فيه بلا مكابرة، أو بادّعاء صفاء الباطن بالرياضة كما يدّعون الصوفيّة.
و«الأروز» بتقديم الرّاء وتأخير الزّاي: مصدر باب ضرب ونصر وعلم، يعني أن يصير صغيرا ويختفي .
وفي «كاد» إشارة إلى ما في كتاب الحجّة في الثالث في الباب الثامن والسبعين، والثالث عشر في الباب التاسع والسبعين من قوله: «إنّي لأعلم أنّ العلم لا يأرز كلّه ولا تنقطع موادّه». ۱۴
وهذه الشكاية مذكورة عن أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة في خطبته الّتي أوّلها: «أمّا بعد، فإنّ اللّه لم يقصم جبّاري دهر [قطّ] إلّا بعد تمهيلٍ ورخاءٍ». ۱۵
«بجميع اُموره»، أي بجميع ضروريّاته من الصلاة، والصوم، والحجّ، والزكاة وغير ذلك، فيحكمون فيها «على جهة الاستحسان» ويسمّون أحكامهم كذلك بضروريّات الدِّين.
و«النشوء»: الطلوع على صفة.
و«الأدب»: الطريقة الحسنة فعلاً، أو تركا.
و«الفاء» في «فلو كانت الجهالة جائزة» بيانيّة، أو للترتيب الذكري، كما تكون عند الانتقال من مقدّمة تمهيديّة إلى الاستدلال؛ أو من استدلال إلى آخر «والرجوع على قول أهل الدهر» وهو إنكارهم اختيار الصانع، وحدوث العالم على زعمهم امتناع تخلّف المعلول عن علّته التامّة، وأنّ ظهور الأشياء فقط في الدنيا أزلاً وأبدا بالدّهر، كما حكى اللّه سبحانه في سورة الجاثية قولهم: «مَا هِيَ إِلَا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَا الدَّهْرُ»۱۶ .
«فوجب في عدل اللّه وحكمته أن يخصّ من خلق من خلقه» أي كلّ من خلق من جملة أهل الصحّة والسلامة أهلاً للإبلاغ أيضا بأمره ونهيه.
«فكانوا محصورين بالأمر والنهي» أي في حصار الأمر والنهي.
«ولم يكن يحتاج» على المعلوم. والفاعل هو «اللّه » يعني إلى وجوب «بعثة الرُّسل» عليه؛ رعايةً للمصالح، ودفع اعتراض الناس بحجّتهم عليه، كما قال سبحانه في سورة النساء: «رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّه ِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَاللّه ُ عَزِيزا حَكِيما»۱۷ .
«لما بقوا طرفة عين» أي لو لم يكن حكمة التكليف والمنع من العمل بالظنّ فيما يجري فيه الاختلاف فيه وفي دليله بلا مكابرة لكان خلقه العالم عبثا تعالى عن ذلك عُلوّا كبيرا، قال اللّه تعالى: «أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثا»۱۸ .
وقال الفاضل الإسترآبادي رحمه الله بخطّه:
«أنّ يأرز كلّه» سيجيء في باب الغيبة : «فيأرز العلم كما يأرز الحيّة في جحرها». وفي النهاية لابن الأثير، وفي الصحاح للجوهري : «إنّ الإسلام ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحيّة إلى جحرها» أي ينضمّ إليها ويجتمع بعضه إلى بعض فيها. ۱۹
ثمّ قال بخطّه:
وأقول: كأنّه إشارة إلى ما وقع بعده صلى الله عليه و آله في ابتداء الأمر حيث انحصر الإسلام في أهل الكساء وفي جمع قليل من أتباعهم. ۲۰
وقال السيّد الأجل النائيني رحمه الله:
«أن يأرز كلّه»، «الأرز» بتقديم المنقوطة على غيرها جاء بمعنى القوّة وبمعنى الضعف، وهنا بمعنى الضعف. ويحتمل أن يكون «يأرز» بتقديم الغير المنقوطة عليها. وسيجيء في باب الغيبة : «فيأرز العلم كما تأرز الحيّة في جحرها».
وقال الجوهري في معنى : «إنّ الإسلام ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحيّة إلى جحرها، أي ينضمّ إليها ويجتمع بعضه إلى بعض فيها». ۲۱
وقال السيّد السند أمير حسن القائني رحمه الله بعد ضبطه : «أنّ يأرز» كالأكثر:
واحتمال «أن يأزر» بتقديم الزّاي على الرّاء بمعنى: أن يضعف كما ترى ، و«الأزر» القوّة والضعف؛ ضدّ.
ثمّ قال:
«أن يخصّ من خلق من خلقه» في بعض النسخ : «أن يحصر» أي أن يضيّق عليهم، من حصره كنصر: ضيّق عليه وأحاط به، وهو يناسب قوله بعد : «فكانوا محصورين بالأمر والنهي»، والمضبوط أكثر وأنسب بالمقام.

1.في «الف»: - «فيها».

2.النهاية لابن الأثير، ج ۱، ص ۴۱ (أرز).

3.الأحزاب (۳۳): ۱۳.

4.الفرقان (۲۵): ۷۶.

5.الصحاح، ج ۵ ، ص ۲۰۱۷ (قوم).

6.في «الف»: «الإنصاف».

7.الصحاح، ح ۵ ، ص ۲۱۳۱ (زمن).

8.في «الف»: - «خلقه».

9.الصحاح، ج ۶ ، ص ۲۳۷۴ (سدا).

10.الأعراف (۷): ۱۶۹.

11.يونس (۱۰): ۳۹.

12.التوبة (۹): ۱۲۲.

13.في «الف»: + «والدنيا ولاطلب الراحة».

14.الكافي، ج ۱، ص ۳۳۵، باب نادر في الغيبة، ح ۳.

15.نهج البلاغة، ص ۱۲۱، الخطبة ۸۸ .

16.الجاثية (۴۵): ۲۴.

17.النساء (۴): ۱۵۶.

18.المؤمنون (۲۳): ۱۱۵.

19.النهاية لابن الأثير، ج ۱، ص ۴۱ (أرز)؛ الصحاح، ج ۳، ص ۸۶۴ (أرز).

20.الحاشية على اُصول الكافي، ص ۸۲ .

21.الحاشية على اُصول الكافي، ص ۳۵.


الهدايا لشيعة ائمة الهدي ج1
146

قال ثقة الإسلام طاب ثراه:

أَمَّا بَعْدُ ، فَقَد فَهِمْتُ يَا أَخِي مَا شَكَوْتَ مِنِ اصْطِلَاحِ أَهْلِ دَهْرِنَا عَلَى الْجَهَالَةِ ، وَتَوَازُرِهِمْ وَسَعْيِهِمْ فِي عِمَارَةِ طُرُقِهَا ، وَمُبَايَنَتِهِمُ الْعِلْمَ وَأَهْلَهُ ، حَتّى كَادَ الْعِلْمُ مَعَهُمْ أَنْ يَأْرِزَ كُلُّهُ ، وَتَنْقَطِعَ مَوَادُّهُ ؛ لِمَا قَدْ رَضُوا أَنْ يَسْتَنِدُوا إِلَى الْجَهْلِ ، وَيُضَيِّعُوا الْعِلْمَ وَأَهْلَهُ .
وَسَأَلْتَ : هَلْ يَسَعُ النَّاسَ الْمُقَامُ عَلَى الْجَهَالَةِ ، وَالتَّدَيُّنُ بِغَيْرِ عِلْمٍ ، إذْ كَانُوا دَاخِلِينَ فِي الدِّينِ ، مُقِرِّينَ بِجَمِيعِ أُمُورِهِ عَلى جِهَةِ الْاسْتِحْسَانِ وَالنُّشُوءِ ۱ عَلَيْهِ ، والتَّقْلِيدِ لِلْابَاءِ وَالْأَسْلَافِ وَالْكُبَرَاءِ ، وَالْاتِّكَالِ عَلَى عُقُولِهِمْ فِي دَقِيقِ الْأَشْيَاءِ وَجَلِيلِهَا ؟
فَاعْلَمْ يَا أَخِي ـ رَحِمَكَ اللّه ُ ـ أَنَّ اللّه َ ـ تَبَارَكَ وَتَعَالى ـ خَلَقَ عِبَادَهُ خِلْقَةً مُنْفَصِلَةً مِنَ الْبَهَائِمِ فِي الْفِطَنِ وَالْعُقُولِ الْمُرَكَّبَةِ فِيهِمْ ، مُحْتَمِلَةً لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ ، وَجَعَلَهُمْ ـ جَلَّ ذِكْرُهُ ـ صِنْفَيْنِ : صِنْفا مِنْهُمْ أَهْلَ الصِّحَّةِ وَالسَّلَامَةِ ، وَصِنْفا مِنْهُمْ أَهْلَ الضَّرَرِ وَالزَّمَانَةِ ؛ فَخَصَّ أَهْلَ الصِّحَّةِ وَالسَّلَامَةِ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ ، بَعْدَ مَا أَكْمَلَ لَهُمْ آلَةَ التَّكْلِيفِ ، وَوَضَعَ التَّكْلِيفَ عَنْ أَهْلِ الزَّمَانَةِ وَالضَّرَرِ ؛ إِذْ قَدْ خَلَقَهُمْ خِلْقَةً غَيْرَ مُحْتَمِلَةٍ لِلْأَدَبِ وَالتَّعْلِيمِ ، وَجَعَلَ عَزَّ وَجَلَّ سَبَبَ بَقَائِهِمْ أَهْلَ الصِّحَّةِ وَالسَّلَامَةِ ، وَجَعَل بَقَاءَ أَهْلِ الصِّحَّةِ وَالسَّلَامَةِ بِالْأَدَبِ وَالتَّعْلِيمِ . فَلَوْ كَانَتِ الْجَهَالَةُ جَائِزَةً لِأَهْلِ الصِّحَّةِ وَالسَّلَامَةِ ، لَجَازَ وَضْعُ التَّكْلِيفِ عَنْهُمْ ، وَفِي جَوازِ ذلِكَ بُطْلَانُ الْكُتُبِ وَالرُّسُلِ وَالْادَابِ ، وَفِي رَفْعِ الْكُتُبِ وَالرُّسُلِ وَالْادَابِ فَسَادُ التَّدْبِيرِ ، وَالرُّجُوعُ إِلى قَوْلِ أَهْلِ الدَّهْرِ ؛ فَوَجَبَ في عَدْلِ اللّه ِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ وَحِكْمَتِهِ أَن يَخُصَّ مَنْ خَلَقَ مِنْ خَلْقِهِ خِلْقَةً مُحْتَمِلَةً لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ؛ لِئَلَا يَكُونُوا سَدًى مُهْمَلِينَ ؛ وَلِيُعَظِّمُوهُ ، وَيُوَحِّدُوهُ ، ويُقِرُّوا لَهُ بِالرُّبُوبِيَّةِ ؛ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّهُ خَالِقُهُمْ وَرَازِقُهُمْ ؛ إِذ شَوَاهِدُ رُبُوبِيَّتِهِ دَالَّةٌ ظَاهِرَةٌ ، وَحُجَجُهُ نَيِّرَةٌ وَاضِحَةٌ ، وَأَعْلَامُهُ لَائِحَةٌ تَدْعُوهُمْ إِلى تَوْحِيدِ اللّه ِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَتَشْهَدُ عَلى أَنْفُسِهَا لِصَانِعِهَا بِالرُّبُوبِيَّةِ وَاهضِ لهِيَّةِ ؛ لِمَا فِيهَا مِنْ آثَارِ صُنْعِهِ ، وَعَجَائِبِ تَدْبِيرِهِ ، فَنَدَبَهُمْ إِلى مَعْرِفَتِهِ ؛ لِئَلَا يُبِيحَ لَهُمْ أَنْ يَجْهَلُوهُ وَيَجْهَلُوا دِينَهُ وَأَحْكَامَهُ ؛ لِأَنَّ الْحَكِيمَ لَا يُبِيحُ الْجَهْلَ بِهِ وَالْاءِنْكارَ لِدِينِهِ ، فَقَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : «أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَـقُ الْكِتَـبِ أَن لَايَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ إِلَا الْحَقَّ» ، وَقَالَ : «بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ» ، فَكَانُوا مَحْصُورِينَ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ ، مَأْمُورِينَ بِقَوْلِ الْحَقِّ ، غَيْرَ مُرَخَّصٍ لَهُم فِي الْمُقَامِ عَلَى الْجَهْلِ ؛ أَمَرَهُمْ بِالسُّؤَالِ وَالتَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ ، فَقَالَ عَزَّوَجَلَّ : «فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَـآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِى الدِّينِ وَ لِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ» ، وَقَالَ : «فَسْئلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ» .
فَلَوْ كَانَ يَسَعُ أَهْلَ الصِّحَّةِ والسَّلَامَةِ الْمُقَامُ عَلَى الْجَهْلِ ، لَمَا أَمَرَهُمْ بِالسُّؤَالِ ، وَلَمْ يَكُنْ يَحْتَاجُ إِلى بَعْثَةِ الرُّسُلِ بِالْكُتُبِ وَالْادَابِ ، وَكَانُوا يَكُونُونَ عِندَ ذلِكَ بِمَنْزِلةِ الْبَهَائِمِ ، وَمَنْزِلةِ أَهْلِ الضَّرَرِ وَالزَّمَانَةِ ، وَلَوْ كَانُوا كَذلِكَ لَمَا بَقُوا طَرْفَةَ عَيْنٍ.

1.في «ب» و «ج»: «والسبق».

  • نام منبع :
    الهدايا لشيعة ائمة الهدي ج1
    سایر پدیدآورندگان :
    تحقیق : الدرایتی، محمد حسین ؛ القیصریه ها، غلام حسین
    تعداد جلد :
    2
    ناشر :
    دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1388 ش
    نوبت چاپ :
    الاولی
تعداد بازدید : 114380
صفحه از 644
پرینت  ارسال به