الهديّة الحادية عشرة:
(وأنّك تعلم) بفتح الهمزة، أي وذكرت فيما سألت أنّك تعلم أنّ اختلاف الرواية عن أئمّتنا عليهم السلام في تلك الاُمور ليس من اختلافهم عليهم السلام في العلم، ومعدنه واحدٌ، وكلّهم عليهم السلام عاقل عن اللّه ، ولا يمكن الاختلاف في علم اللّه سبحانه، بل من اختلاف عللها وأسبابها من التَقايا وغير ذلك؛ لحِكَمٍ ومصالح شتّي، واختلاف السائلين مذهبا وفهما واستطاعةً للعمل، وغير ذلك من الحِكَم والمصالح ، وهم عليهم السلام أعلمُ بها.
و«المفاوضة»: الاشتراك في كلّ شيء كالتفاوض، ومنه: مفاوضة القوم في الأمر، بمعنى تكلّمهم فيه بالمجاراة، والمتابعة، والمشاركة، و«الشِركة المفاوضة»: مشاركة الشريكين في المال أجمع.
والظاهر أنّ المراد ب «المتعلّم»: المبتدي من المقلّدين، وهو يكتفي بظاهر حكم الحديث بسماعه من منتهبهم. وب «المسترشد»: المنتهي منهم. وبالأخير ۱ : المفتي بعلمه، أو ظنّه المرخّص فيه في علمه وعمل غيره بحكمه على ما سيفصّل إن شاء اللّه تعالى.
و«الباء» في (ويقبل بهم إلى مراشدهم) للتعدية.
والمراد (بالآثار الصحيحة عن الصادقين عليهم السلام ): الأخبار المضبوطة المتواترة بالثقات من أصحابنا الإماميّة، وكتبهم المحفوظة المتواترة بضبطهم رضوان اللّه عليهم.
وب (السُّنن القائمة): مضامين تلك الأخبار. وأحكام تلك الآثار متواترة بتواترها، مضبوطة مثلها بحيث عليها العمل دائما. وبها يؤدّى ما فرض اللّه وما سنّه الرسول صلى الله عليه و آله ، وتواترا بتواترها كتواترها بتواتر تلك الأخبار.
ولاختلاف الأشخاص في الأعصار حفظا وضبطا يحتاج تواتر مضامين الأخبار في الصدور إلى تواتر كتبها في الدّهور، كتواتر الكتب بتواتر الثقات في السنين والشهور. فلا يقال: إذا تواترت المضامين فما الحاجة إلى تأليف الكتاب المبين للمتعلّم، والمسترشد، ومن يريد علم الدِّين؟
ولمّا لم يكن جميع الأحكام مضبوطة متواترة بحيث لا يشذّ عنها حكم؛ وكان في المضبوط المتواتر محكم متواتر ومتشابه متواتر، وكذا ناسخ ومنسوخ، وعامّ وخاصّ، كما في القرآن الخاصّ علمه بقيّمه المعصوم المنصوص، العاقل عن اللّه ، وهو متواتر بأجمعه، ومحكماته متواترةٌ بتواتر محكمات السنّة المتواترة بأجمعها.
والحكم في متشابهاته المتواترة موقوف على معالجات الحكم في متشابهات السنّة ؛ إذ المعنى لقوله عليه السلام : «اعرضوها على كتاب اللّه » وازنوهما أحكام محكماته المضبوطة المتواترة بتواتر محكمات السنّة المضبوطة بأجمعها بالكتب المضبوطة بالثقات من أصحابنا.
صارت ۲ الأحكام المضبوطة المتواترة بتواتر الكتب المضبوطة بالثقات منّا على قسمين:
أحدهما: ما خصّ باسم المتواتر والمحكم؛ لعدم ما يخالفه في حكمه ويعارضه في تواتره، وانتفاء التشابه الموجب للاختلاف في متنه، وثبوت كثرة رواته بحيث يمتنع عادةً تواطؤهم على الكذب.
والثاني: ما خصّ باسم الخبر الواحد؛ لثبوت ما يخالفه ويعارضه كذلك، أو التشابه الموصوف في متنه، فلا يفيد للقطع لذلك، ولذلك لا يسمّى بالمتواتر. ويفيد الظنّ؛ لتواتره كمعارضه، فيسمّى كمعارضه بالخبر الواحد، فلابدّ ولا حرج في الدِّين من العلاج المشافهي من الحجّة المعصوم، أو المضبوط المتواتر ۳ بالمحكمات من الأخبار المضبوطة المتواترة بكتبها المضبوطة كذلك بالثقات من أصحابنا الإماميّة قدس سرهم ، كما صرّح به وأفاد طاب ثراه هنا وغيره من أصحابنا في كتبهم الأخباريّة والاُصوليّة، وسيذكر أحاديث العلاج في أواخر ۴ أبواب كتاب العقل إن شاء اللّه تعالى.
وأمّا ما لم يكن من الأحكام مذكورا أصلاً، أويكون وهو غير مضبوط ومتواتر بثقات منّا، وغير مردود بمعارض مقبول عندنا، فمشكوكُه ساقط كَمَوْهُومِه إذا كان في غير العبادات، وأمّا في العبادات، فالعامل به مأجور للنصّ، وقد تواتر قولهم عليهم السلام : «من بلغه ثواب من اللّه على عمل فعمل ذلك العمل التماس ذلك الثواب اُوتيه، وإن لم يكن الحديث كما بلغه». ۵ وسيذكر بنظائره في بابه من أبواب كتاب الإيمان والكفر.
فظهر أنّ الحكم بعدم التنافي بين قطعيّة الحكم للعلاج المضبوط المتواتر، وظنّية، الطريق لمكان التواتر ووجود المعارض إنّما هو في غير العبادات، وأنّ في العبادات لا منافاة بين قطعيّة الحكم ووهميّة الطريق فضلاً عن شكّيّته، فضلاً عن ظنّيته، وأمّا مظنونه فحكمه في العلاج حكم المتشابه المضبوط المتواتر على ما وصف . وقد صرّح طاب ثراه في الجملة بالعلاجات المضبوطة المتواترة بقوله: «فاعلم يا أخي أرشدك اللّه » إلى آخره.
(تمييز شيء) أي تحقيقه وتبيينه والعمل به، أو الحكم به برأيه، إلّا على إطلاق الحجّة المعصوم و رخصته بقوله عليه السلام :
(اعرضوهما): أي الروايتين المختلفتين عنّا.
(على كتاب اللّه ) يعني على محكمات كتاب اللّه المضبوطة بمحكمات السنّة المضبوطة المتواترة.
(فما وافق) منهما (كتاب اللّه ) الموصوف (فخذوه). الظاهر يعني لعملكم به، ولعمل غيركم بإفتائكم بشرط استجماع شرائط الإفتاء من العدالة، والفضل الممتاز، وغيرهما المضبوط في كتب أصحابنا الاُصوليّين.
(وقوله عليه السلام : دعوا ما وافق القوم) أي منهما، إذا لم يكن لأحدهما موافق من محكمات الكتاب المضبوطة بمحكمات السنّة القائمة ما وافق مذاهب العامّة أو مذاهب مطلق غير الخاصّة، (فإنّ الرُّشد) وإصابة الصواب (في خلافهم).
و«الرشد»: خلاف الغيّ، ومنه: سر راشدا مهديّا.
(وقوله عليه السلام : خذوا بالمجمع عليه): بيان لعلاج ما لم يكن من الأحكام له مأخذ من السنّة القائمة لا من محكماتها ولا من متشابهاتها، سواء كان له معارض كذلك أو لا، فالأخذ بالمجمع عليه على الأوّل، وبه على الثاني إذا كان مجمعا عليه؛ (فإنّ المجمع عليه) في الفرقة الناجية (لاريب) في استقامته؛ لدخول الحجّة المعصوم بتقديرٍ من اللّه سبحانه في إجماعهم ألبتّة؛ لمثل قوله صلى الله عليه و آله : «لا تجتمع اُمّتي على الخطأ» ۶ ، واجتماع الهالكة من الاُمّة ليس على الصواب بالاتّفاق.
وللمجمع عليه الذي لا مأخذ له من السنّة القائمة ـ لا من محكماتها ولا من متشابهاتها ـ أمثلة كثيرة، منها: إجماع الفرقة ۷ على كراهة الصلاة في قباء مشدود إلّا في الحرب.
(ونحن لا نعرف من جميع ذلك إلّا أقلّه). بيان لعلاج توهّم من توهّم أنّ العلاجات المذكورة لا تنفع ـ كما ينبغي ـ الرعيةُ؛ لأنّ فضلاءهم وإن كانوا ممتازين في الفضل لا معرفة لهم بجميع الروايات عنهم عليهم السلام ، ولا بجميع المذاهب في الأديان المختلفة، ولا بجميع المُجْمَع عليه عند أصحابنا الإماميّة؛ بأنّ الأحوط والأوسع ردّ علم ذلك كلّه إلى الإمام عليه السلام إن أمكن، أو التوقّف إذا لم يلزم حرج في الدِّين، وإلّا فقبول ما وسّع عليه السلام من الأمر والعلاج فيه بالعَرضْ على محكمات الكتاب المضبوطة بمحكمات السنّة القائمة، فإن لم ينفع للعلّة المعلومة فبالمخالفة للمذاهب الباطلة، فإن لم ينفع لما علم فبالأخذ بالمجمع عليه، فإن لم ينفع لمكان الحكمين المختلفين المضبوطين المتواترين المخالفين للمذاهب الباطلة، وهما مجمعٌ عليهما في أصحابنا الإماميّة فبالأخذ بأيّهما شاء المفتي من باب التسليم، فوَسِعَه لعمله وعمل غيره بفتواه بشرط استجماعه شرائط الإفتاء، ومنها قطعُه لزومَ الحرج في سكوته أو ظنّه ذلك. واللّه أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
قال برهان الفضلاء سلّمه اللّه تعالى:
«وذكرت أنّ اُمورا قد أشكلت عليك» شروع بعد الجواب عن السؤال الأوّل في الجواب عن السؤال الثاني من تذاكره عبارة عن سفراء صاحب الزمان عليه السلام و«مَنْ» في «ممّن تثق ابتدائيّة، و«من تثق»: عبارة عن صاحب الزمان عليه السلام .
«من جميع فنون علم الدِّين» أي من جميع أقسام المسائل التي ينفع علمها أو الاعتراف بها أكثر الناس في يوم الدِّين، وهي ثلاثة:
القسم الأوّل: مسائل اُصول الدِّين، ومنكرها كافر بمحض الإنكار، ومخلّد في النار كمَن أنكر توحيده تعالى.
القسم الثاني: مسائل فروع الفقه وهي التي يبيّن فيها بلا واسطة حلال الأفعال الشخصيّة وحرامها، وليست من اُصول الدِّين، فمنكر واحدة منها ليس بكافر بمحض الإنكار إلّا أن تكون من ضروريّات الدِّين، ويكون إنكارها مستلزما لإنكار واحد من اُصول الدِّين، كوجوب الحجّ على مَن استطاع إليه سبيلاً.
والقسم الثالث: مسائل اُصول الفقه، وهي التي يبيّن فيها حلال الأفعال الكلّيّة وحرامها؛ ليبيّن بواسطة بيانها حلال الأفعال الشخصيّة وحرامها، كوجوب العمل في الغير المعلوم من مسائل فروع الفقه بظاهر القرآن بلا إفتاء وقضاءٍ، والعملُ بظاهر القرآن فعل كلّي. وبهذه المسألة يعلم كلّ فعل شخصيّ يبيّنه ظاهر القرآن. وبيان هذه الأقسام الثلاثة سيجيء بطريق آخر في الأوّل من باب صفة العلم في كتاب العقل إن شاء اللّه تعالى.
ثمّ اعلم أنّ الإقرار باُصول الدِّين، والعلم باُصول الفقه إنّما يحصل لمن كان علمه بظاهر القرآن ونحوه موافقا للعهد والميثاق الذي أخذه اللّه على العباد من الدخول في الدِّين بعلمٍ وبصيرةٍ ويقينٍ ـ كما بيّنه المصنّف طاب ثراه في الجواب عن السؤال الأوّل ـ فيالمسائل ۸ التي لا تكون من الأقسام الثلاثة، وتكون لها تعلّق بمسائل فروع الفقه، ككون ۹ القبلة في مصر فلان إلى جبل فلان، وفلان عادل أم لا، ونحو ذلك من المسائل التي لا حاجة لأكثر الناس إلى علمها، وتسمّى بالمحالّ للحكم الشرعي، والاختلاف ظنّا يجوز في محلّ الحكم الشرعي ولايجوز في ۱۰ نفس الحكم الشرعي.
والمراد ب «الآثار الصحيحة» الأخبار التي تعمل بها الإماميّة من لدن ظهور الأئمّة الاثني عشر عليهم السلام وإن لم يكن القطع بصحّتها حاصلاً لهم، فالخبر إن كانت رواته في الكثرة بحيث لا يجوّز العقل معها كذبه كوجود مكّة يسمّى بالمتواتر، وإن كانت رواته في الكثرة لا بهذه الحيثيّة يسمّى بالخبر الواحد، والخبر الصحيح يكون من كلا القسمين.
وقال جمعٌ من الأصحاب: إنّ صحّة الخبر الواحد قد تعلم بالقرائن. وهذا محلّ إشكال عند شيخ الطائفة ۱۱ وعلم الهدى ۱۲ .
والمراد ب «السنن القائمة» مسائل اُصول الفقه، أي المعلومة منها القائمة لغير المعلومة منها. وب «فرض اللّه »: بيان المسألة من مسائل فروع الفقه.
ويظهر ممّا قلنا: أنّ القول بأنّ «بالآثار الصحيحة» دلالة على صحّة أحاديث الكافيجميعا، بمعنى أنّ لنا علما بأنّها عن الحجج المعصومين عليهم السلام لا يحسن، كما يظهر جدّا من شرح «فمهما كان فيه من تقصير» إلى آخر الخطبة.
فإن قلت: فعلى هذا لا علم لأحدٍ بمسائل اُصول الفقه التي في كتاب الكافي؛ لأنّها أخبار آحاد، وذكرت أنّه لا يجوز العمل بها بدون العلم بها.
قلنا: مسألة واحدة من مسائل اُصول الفقه حاكمة على سائرها؛ لأنّها معلومة بالتواتر لمن له تتبّع مّا للأحاديث، وتلك المسألة هي أنّ العمل بظاهر القرآن وبالحديث الصحيح جائز في مسائل اُصول الفقه، والعلم بهذه المسألة بمنزلة العلم بسائر مسائل اُصول الفقه التي لم تكن معلومة على حدةٍ، وهذا معنى حكومة هذه المسألة.
و«التمييز»: الترجيح.
والمراد هنا الإفتاء، والحكم بمضمون شيء وليس شاملاً للعمل المحض؛ بقرينة «فردّوه».
و«ما» في «ممّا اختلف» موصولة، وعبارة عن حقوق اللّه تبارك وتعالى، كالوضوء والصلاة من العبادات المحضة الشاملة للتصديق بإمامة الإمام الحقّ أيضا مع عدم دخول ذلك في محلّ سؤال الأخ.
والمراد ب «العلماء» رسول اللّه وأوصياؤه عليهم السلام .
و«إلاّ» استثناء متّصل من «برأيه».
و«ما» موصولة أيضا.
و«الإطلاق»: التحليل. من «الطلق» بالكسر، بمعنى الحلال.
والمراد ب «العالم» هنا رسول اللّه صلى الله عليه و آله كان عالما بأنّ القوم بعده يفترون عليه الكذب بالرواية في الإمامة مثل : «اقتدوا باللّذَين من بعدي أبي بكر وعمر». ۱۳
فلإرشاد المؤمنين إلى الإمام الحقّ قرّر رسول اللّه صلى الله عليه و آله ثلاثة أوجه للتمييز بين الأحاديث المختلفة في الإمامة بلا بيان ترتيب بينها؛ إشارةً إلى أنّ كلّاً منها برهان برأسه. فهذه الوجوه الثلاثة ليست من قبيل الوجوه المذكورة في مقبولة عمر بن حنظلة، وستذكر في آخر باب اختلاف الحديث، الباب الثاني والعشرين من كتاب العقل، والترتيب فيها منظور ومخصوص بصورة التنازع في الدِّين والميراث ونحو ذلك. وهذه الوجوه الثلاثة مخصوصة بمسألة التصديق بإمامة الإمام الحقّ، وهو من العبادات المحضة:
بيان ۱۴ [الوجه] الأوّل: عرض الروايات المختلفة في الإمامة على محكمات الكتاب من آية الولاية ۱۵ ، والتطهير ۱۶ وغيرهما ۱۷ .
وبيان [الوجه] الثاني: ملاحظة موافقة القوم ؛ يعني أكثر قريش أو أكثر الأصحاب، ومخالفتهم لمحكمات الكتاب في الولاية، فإنّ من المحكمات ما يدلّ على أنّ أكثر قومه صلى الله عليه و آله يرتدّون بعده، ويختارون الباطل والعمل بظنّهم في الإمامة وسائر الأحكام، قال اللّه تعالى في سورة الأنعام: «إِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللّه ِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَا يَخْرُصُونَ»۱۸ ، وفي سورة الزخرف: «وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ * وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ»۱۹ .
ومن روايات العامّة الموافقة لمثل الآيتين رواية البخاري في صحيحه في باب «وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍشَهِيدٌ»۲۰ عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله أنّه قال: «ألا وأنّه يُجاء برجال من اُمّتي فيؤخذ بهم ذات الشمال، فأقول: ياربّ اُصيحابي، فيُقال: إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول كما قال العبد الصالح: «وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ» ، فيُقال: إنّ هؤلاء لم يزالوا ۲۱ مرتدّين على أعقابهم منذ فارقتهم». ۲۲
بيان [الوجه] الثالث: موافقة المجمع عليه.
والروايات في الثلاثة خاصّة بالعامّة، والتي في إمامة أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه مجمعٌ عليها في الفريقين، كحديث الثقلين ۲۳ ، وحديث غدير خمّ ۲۴ ، «وأقضاكم عليّ».
ومناقبه عليه السلام في رواياتهم أكثر من أن يُحصى، كروايات مطاعن الثلاثة عند الخاصّة.
«ونحن لا نعرف من جميع ذلك إلّا أقلّه». «نحن»: عبارة عن أخباري الإماميّة. و«من»: تعليليّة. و«الجميع»: عبارة عن الوجوه الثلاثة وأمثالها ممّا سيذكر في كتاب العقل في باب الأخذ بالسنّة وشواهد الكتاب. و«إلّا»: للاستثناء المفرّغ. وضمير «أقلّه» لما اختلف الرواية فيه عن العلماء، وهو مسألة الإمامة التي اختلاف الرواية فيه أوّلاً.
يعني: ونحن لا نعرف ولا نميّز بوسيلة جميع ما ذكر من الوجوه الثلاثة إلّا أقلّ ما اختلف الرواية فيه، وهو مسألة الإمامة، «ولا نجد شيئا أحوط، ولا أوسع من ردّ علم ذلك كلّه»؛ أي علم كلّ ما سألت عنه «إلى العالم»؛ يعني: الصاحب عليه السلام .
«وقبول ما وسّع من الأمر فيه» أي بعض الأمر فيه.
«بقوله بأيّهما أخذتم من باب التسليم وسعكم» أي بأيّ الروايتين المختلفتين في باب العبادات المحضة.
واعلم أنّ هذا التخيير باختصاصه بالعبادات المحضة لا ينافي ما يجيء في كتاب العقل في التاسع والعاشر والحادي عشر من الباب الثاني والعشرين، باب اختلاف الحديث من العمل بترجيح قول الأخير في صورة اختلاف الرواية عن الإمامين، أو عن إمامٍ واحد في زمانين. وقد استند الصدوق في الفقيه في باب الرجلين يوصى إليهما، فينفرد كلّ واحدٍ منهما بنصف التركة إلى ذلك الترجيح ۲۵ .
ووجه عدم المنافاة: أنّ ذلك الترجيح إنّما هو في صورة العلم بقول الإمام الحيّ، أو ببقاء دولة ظالم كان قول الأخير في زمانه، وذلك الترجيح لا يجري في مثل عصرنا. واللّه أعلم.
ولتمام بيان برهان الفضلاء سلّمه اللّه تعالى هنا طُول ذكرنا طَرَفا ليظهر خلاصة مطلبه، ولم نذكر تمامه؛ لنبوّه ۲۶ جدّا عن ظاهر ثقة الإسلام من أوّل بيان السؤال بجوابه إلى آخره؛ ولإجماع الأصحاب على أنّ المعالجات المذكورة هنا وفي مثل مقبولة عمر بن حنظلة إنّما هي لدفع عامّة علّة الاختلاف، وقلع تمام مادّة النزاع، ونفي الحرج المنفيّ في الدِّين في محكمات الكتاب المبين على ما بيّناه أوّلاً في بيان المتن المتين. الحمد للّه ربّ العالمين وصلّى اللّه على محمّدٍ وآله الطاهرين.
وقال الفاضل الاسترآبادي رحمه الله بخطّه:
قوله: «وذكرت» إلى آخره، قلت في قوله طاب ثراه : «وذكرت أنّ اُمورا قد أشكلت عليك لا تعرف حقائقها لاختلاف الرواية فيها»: تصريح بأنّه طلب منه ما يرتفع به إشكاله وحيرته، فلو فرضنا أنّ كتاب الكافي مشتمل على ما علم وروده عنهم عليهم السلام وعلى ما لم يعلم ـ ولا يخفى أنّ المصنّف لم يذكر هنا قاعدة بها يميّز بين البابين ـ لزاد هذا الكتاب إشكالاً وحيرة، وكلام المصنّف ـ طاب ثراه ـ صريح في أنّه صنّف له ما يرتفع به إشكاله وحيرته. فعلم من ذلك أنّ قصده ـ طاب ثراه ـ من قوله : «بالآثار الصحيحة»: أنّ كلّ ما في كتابه كذلك. وأيضا في قوله رحمه الله: «ما يكتفي به المتكلّم، ويرجع إليه المسترشد» دلالة صريحة على ما ذكرناه؛ فإنّ المتعلّم كيف يكتفى بما يتحيّر فيه فحول العلماء المتبحّرين، وفيما نقلناه في حواشي تمهيد القواعد من السيّد المرتضى قدس سره في حال أحاديث المرويّة في كتبنا تأييد لما ذكرناه، فافهم.
وقوله: «فاعلم يا أخي أرشدك اللّه » إلى آخره؛ الدلالة على أنّه لا يجوز في باب التراجيح رعاية الوجوه العقلية المذكورة في كتب الخاصّة والعامّة، بل يجب فيه أيضا التمسّك بما وضعوه عليهم السلام لخلاصنا من الحيرة، وهي أربعة أبواب.
«أعرضوهما على كتاب اللّه ». قلت: المستفاد من الروايات المتواترة عنهم عليهم السلام ـ كما سيجيء في أبواب متفرّقة من هذا الكتاب، وهي مذكورة أيضا في غير هذا الكتاب، ككتاب الاحتجاج وكتاب كمال الدِّين وتمام النِّعمة وكتاب المحاسن وغيرها ـ أنّ وجه الخلاص من الحيرة في باب الروايات المتخالفة أحد الوجوه الخمسة، والمذكور في كلام المصنّف ـ طاب ثراه ـ هنا أربعة منها وترك الخامس؛ اعتمادا على مجيئه بعد ذلك في مقبولة عمر بن حنظلة وغيرها، وهو التوقّف والتثبّت، أو لأنّه بصدد بيان الوجوه المجوّزة للعمل، والوجه الخامس ليس كذلك.
وأمّا قولهم عليهم السلام : «بأيّهما أخذت من باب التسليم وسعك» فالمراد به ما بيّناه في حواشي تمهيد القواعد، وهو أن يكون العمل من باب التسليم لأمر أهل البيت عليهم السلام ؛ أي أنّهم مفترضوا ۲۷ الطاعة، فيُقال: هذا ورد منهم عليهم السلام وكلّ ما ورد عنهم ۲۸ يجوز العمل به، لا من باب أنّ هذا حكم اللّه في الواقع؛ لجواز أن يكون وروده من باب التقيّة. وقد نقلنا في الحواشي المذكورة روايات فيها دلالة على أنّ المراد ما ذكرناه، إن شئت فارجع إليها. ۲۹ انتهى كلام الفاضل الاسترآبادي رحمة اللّه عليه.
ولقد أنصف وأظهر ما هو الحقّ في بيان علاج الحيرة الناشئة من الاختلاف في الرواية عموما من غير التخصيص بمحالّ الأحكام الشرعيّة والعبادات المحضة، وإن كان هو الأحوط لولا لزوم الحرج المنفيّ بالسكوت والتوقّف والتثبّت مع تأليفه الفوائد المدنيّة في ردّ الاجتهاد، واجتهاده في بيان إبطال الاجتهاد بروايات متواترة من المتواترة والآحاد. جزاه اللّه خيرا في خير مواقف المعاد على رؤوس الأشهاد.
وقال السيّد الأجلّ النائيني رحمه الله:
قوله طاب ثراه: «ممّا اختلفت الرواية فيه». المراد بالروايات المختلفة: التي لا يحتمل الحمل على معنى يرتفع به الاختلاف بملاحظتها جميعها، وكون بعضها قرينة على المراد من البعض، لا التي يترآءى فيه الاختلاف في بادئ الرأي. وطريق [العمل] ۳۰ في المختلفات الحقيقيّة كما ذكره ـ بعد شهرتها واعتبارها ـ العرض على كتاب اللّه ، والأخذ بموافقه دون مخالفه، ثمّ الأخذ بمخالف القوم وحمل الموافق على التقيّة، ثمّ الأخذ من باب التسليم بأيّهما تيسّر ۳۱ .
وقال السيّد السند أمير حسن القائني رحمه الله:
«من باب التسليم» أي من باب الانقياد؛ لروايتهم عليهم السلام لا من جهة أنّه مطابق لحكم اللّه كما ذهب إليه المصوّبة وقالوا: إنّ حكم اللّه تابع لرأي المجتهد؛ إذ لو طابقت إحدى الروايتين لحكم اللّه تخالفه الاُخرى لا محالة. فهذه أربعة من الوجوه مجوّزة للعمل بالروايات المختلفة، ووجه خامس سيجيء ذكره، وهو التوقّف والتثبّت.
والحقّ أنّ اختلاف الرواية إن كان في حقّ اللّه المحض فالوجه العمل بأحد الوجوه الأربعة؛ وإن كان في حقّ الناس كالحدود والمعاملات فالوجه التوقّف.
قال ثقة الإسلام طاب ثراه:
وَقَدْ يَسَّرَ اللّه ُ ـ وَلَه الْحَمْدُ ـ تَأْلِيفَ مَا سَأَلْتَ ، وَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ تَوَخَّيْتَ ، فَمَهْمَا كَانَ فِيهِ مِنْ تَقْصِيرٍ فَلَمْ تُقَصِّرْ نِيَّتُنَا فِي إِهْدَاءِ النَّصِيحَةِ ؛ إِذْ كَانَتْ وَاجِبَةً لِاءِخْوَانِنَا وَأَهْلِ مِلَّتِنَا ، مَعَ مَا رَجَوْنَا أَنْ نَكُونَ مُشَارِكِينَ لِكُلِّ مَنِ اقْتَبَسَ مِنْهُ ، وَعَمِلَ بِمَا فِيهِ فِي دَهْرِنَا هذَا ، وَفِي غَابِرِهِ إِلَى انْقِضَاءِ الدُّنْيَا ؛ إِذِ الرَّبُّ ـ عَزَّوَجَلَّ ـ وَاحِدٌ ، وَالرَّسُولُ مُحَمَّدٌ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ ـ صَلَوَاتُ اللّه ِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ ـ وَاحِدٌ ، وَالشَّرِيعَةُ وَاحِدةٌ ، وَحَلَالُ مُحَمَّدٍ حَلَالٌ ، وَحَرَامُهُ حَرَامٌ إِلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ .
وَوَسَّعْنَا قَلِيلاً كِتَابَ الْحُجَّةِ وَإِنْ لَمْ نُكَمِّلْهُ عَلَى اسْتِحْقَاقِهِ ؛ لِأَنَّا كَرِهْنَا أَنْ نَبْخَسَ حُظُوظَهُ كُلَّهَا .
وَأَرْجُو أَنْ يُسَهِّلَ اللّه ُ ـ عَزَّوَجَلَّ ـ إِمْضَاءَ مَا قَدَّمْنَا مِنَ النِّيَّةِ ، إِنْ تَأَخَّرَ الْأَجَلُ صَنَّفْنَا كِتَابا أَوْسَعَ وَأَكْمَلَ مِنْهُ ، نُوَفِّيهِ حُقُوقَهُ كُلَّهَا إِنْ شَاءَ اللّه ُ تَعَالى ، وَبِهِ الْحَوْلُ وَالْقُوَّةُ ، وَإِلَيْهِ الرَّغْبَةُ فِي الزِّيَادَةِ فِي الْمَعُونَةِ وَالتَّوْفِيقِ . وَالصَّلَاةُ عَلى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ وَآلِهِ الطَّاهِرِينَ ۳۲ الْأَخْيَارِ .
وَأَوَّلُ مَا أَبْتَدِئُ بِهِ وَأَفْتَتِحُ بِهِ كِتَابِي هذَا كِتَابُ الْعَقْلِ وَفَضَائِلِ الْعِلْمِ ، وَارْتِفَاعِ دَرَجَةِ أَهْلِهِ ، وَعُلُوِّ قَدْرِهِمْ ، وَنَقْصِ الْجَهْلِ ، وَخَسَاسَةِ أَهْلِهِ ، وَسُقُوطِ مَنْزِلَتِهِمْ ؛ إِذْ كَانَ الْعَقْلُ هُوَ الْقُطْبَ الَّذِي عَلَيْهِ الْمَدَارُ ، وَبِهِ يُحْتَجُّ ، وَلَهُ الثَّوَابُ ، وَعَليْهِ الْعِقَابُ ، وَاللّه ُ المُوَفِّقُ .
1.يعني : «من يريد علم الدين و...».
2.جواب لقوله: «لمّا لم يكن».
3.في «الف»: «التواتر».
4.في الأصل: + «من»، والمناسب ما اُثبت.
5.الكافي، ج ۲، ص ۸۷ ، باب من بلغه ثواب من اللّه علي عمل، ح ۲. وراجع أيضا ح ۱؛ والمحاسن، ج ۱، ص ۲۵، باب ثواب من بلغه ثواب شيء...، ح ۱ و ۲.
6.شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، ج ۲۰، ص ۳۴؛ المحصول للرازي، ج ۴، ص ۲۰۷؛ المستصفى، ج ۱، ص ۱۳۸.
7.في هامش المخطوطة: «قوله: منها إجماع الفرقة على كراهة الصلاة في قباء مشدود، قال المفيد في المقنعة: ولا يجوز لأحد أن يصلّي وعليه قباء مشدود إلّا أن يكون في الحرب، فلا يتمكّن أن يحلّه، فيجوز ذلك لاضطرار. وقال الشيخ بعد نقله عبارة المفيد: ذكر ذلك عليّ بن الحسين بن بابويه، وسمعناه من الشيوخ مذاكرة، ولم أعرف به خبرا مستندا. وقال صاحب المدارك بعد نقله العبارتين: وحاول الشهيد في الذكرى الاستدلال عليه بما رواه العامّة عن النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم أنّه قال: «لا يصلّي أحدُكم وهو متحزّم»، و هو فاسد؛ لأنّ شدّ القباء غير التحزّم». وانظر: المقنعة، ص ۱۵۲؛ تهذيب الأحكام، ج ۲، ص ۹۴؛ مدارك الأحكام، ج ۳، ص ۲۰۸.
8.متعلّق بقوله : «إنّما يحصل».
9.في «ب» و «ج»: + «سمت».
10.في «ب» و «ج»: - «محلّ الحكم الشرعي ولايجوز في».
11.عدّة الاُصول، ج ۱، ص ۱۲۶.
12.الذريعة، ج ۲، ص ۵۱۸.
13.الدرّ المنثور، ج ۲، ص ۲۳؛ ذيل الآية ۲۵۷ من البقرة (۲)؛ الصواعق المحرقة، ج ۱، ص ۲۱۹؛ مجمع الزوائد، ج ۹، ص ۴۸۴، ح ۱۵۶۰۶.
14.في «ب ، ج»: - «بيان».
15.المائدة (۵): ۵۵.
16.الأحزاب (۳۳): ۳۳.
17.كآية اُولي الأمر، النساء (۴): ۵۹.
18.الأنعام (۶): ۱۱۶.
19.الزخرف (۴۳): ۵۷ و ۵۸.
20.المائدة (۵): ۱۱۷.
21.في «ب» و «ج»: - «لم يزالوا».
22.صحيح البخاري، ج ۴، ص ۱۶۹۱، ح ۴۳۴۹. وفي صحيح مسلم، ج ۴، ص ۲۱۹۴، ح ۲۸۶۰؛ و سنن الترمذي، ج ۵ ، ص ۳۲۱، ح ۳۱۶۷.
23.صحيح مسلم، ج ۴، ص ۱۸۷۳، ح ۲۴۰۸؛ سنن الترمذي، ج ۵ ، ص ۶۶۳ ، ح ۳۷۸۸؛ مسند أحمد، ج ۵ ، ص ۱۸۱، ح ۲۱۶۱۸، و ص ۱۸۹، ح ۲۱۶۹۷؛ و ج ۳، ص ۱۷، ح ۱۱۱۴۷. وراجع: شرح إحقاق الحقّ، ج ۹، ص ۳۰۹ ـ ۳۷۵.
24.راجع: الغدير، ج ۱، ص ۵ ـ ۱۵۷.
25.الفقيه، ج ۴، ص ۲۰۴، ذيل الحديث ۵۴۷۲.
26.نبابصره عن الشيء نُبُوّا ونُبِيّا... يقال: نبا عنه بَصَره ينبو، أي تجافى و لم ينظر إليه. لسان العرب، ج ۱۵، ص ۳۰۱ (نبا).
27.ما أثبتناه هو الصحيح وفي النسخ : «مفترضون».
28.في «ب» و «ج»: - «وكلّ ما ورد عنهم».
29.الحاشية علي اُصول الكافي، المطبوع ضمن ميراث حديث شيعه، الدفتر الثامن، ص ۲۷۸ ـ ۲۷۹.
30.أثبتناه من المصدر.
31.الحاشية علي اُصول الكافي، ص ۳۹.
32.في «ب ، ج»: + «الطيّبين».