هديّة :
(لا يفلح) على المعلوم من الإفعال، أي لا ينجو من لا يعرف أنّ النجاة بدون معرفة الإمام محال؛ يعني الحجّة المعصوم العاقل عن اللّه ـ وقد انحصرت الأعلميّة بما هو الحقّ في هذا النظام العظيم في مدبّره العليم الحكيم جلّت ثناؤه وتقدّست أسماؤه ـ وأنّ الإمام روح لقالب هذا النظام ، فامتنع خلوّه ـ ما دام دَوَرانه ـ عن الإمام.
(ولا يعقل من لا يعرف يعلم) أي لا معرفة لمن لا علم له بالمسائل الدينيّة بتوسّط الإمام.
(وسوف ينجب من يفهم) أي يعدّ من النجباء في الآخرة من يفهم بإفهام الإمام الأنام ما يحتاجون إليه.
و«النجابة» بالفتح : كرامة الذات، والنجيب ، وكهمزة : الكريم الحسب . نجب كحسن ، وأنجب : عدّ نجيبا . رجل منجب ، وامرأة منجبة ، ومنجاب : ولدت النجباء.
(ويظفر من يحلم) أي بأعدائه في الجهاد الأكبر ، أو بمطالبه المشروعة في الدنيا والآخرة . «ظفر بعدوّه» كعلم ، وأظفره اللّه ، وظفره تظفيرا. و«حلم» كحسن ، من الحلم ـ بالكسر ـ وهو العقل والأناة. والمعنى الأوّل يناسب التفسير الأوّل للظفر ، كالثاني الثاني.
(والعلم جنّة) أي العلم المأخوذ بتوسّط الإمام جنّة للقلب الممتحن بالجهاد الأكبر وفتنه .
(والصدق عزّ) في الدنيا والآخرة، والكذب تقيّة ليس بكذب .
(والجهل) بعدم معرفة الإمام (ذلّ) ومغلوبيّة.
(والفهم مجد) أي بإفهام الإمام.
(والجود نجح)؛ في بعض النسخ المعتبرة : «والجود بالمال» و«النّجح» بالضمّ، كالنجاح بالفتح : الظفر بالحوائج ، نجح ۱ كنصر .
و«المجلبة» بالفتح : من أسماء المكان من باب نصر وضرب للكثرة .
«والعالم بزمانه) أي بأطوار زمانه ، وأوضاع أبناء دهره .
«هجم عليه» كنصر دخل بغتةً فأحاطه وغشيه.
و(اللّوابس): الملبسات من الشبهات ، والأغاليط ، وخطوات الشيطان كالتي ألقت المخالفين في المهالك من المناقب المذكورة في كتبهم لطواغيتهم ، كالاصطحاب، والمعاونة والمجاورة وغير ذلك.
(والحزم): إحكام الأمر وضبطه قبل أن يتطرّق إليه فساد «سوء الظنّ» بما هو مخالف ظاهرا لما هو مقطوع بحسنه واجب حتّى تظهر حقيقته ، وتظهر ؛ إذ لا يدفع اليقين بالشكّ ، ومن احتاط فضبط أمره على تقدير مساءة معاشره مثلاً قبل ظهور حقيقة حاله له ، وعاشر معه بمقتضى حسن ظنّه به فهو حازم.
ولا منافاة بين مساءة الظنّ بترك الإضرار والاحتياط منه .
(وبين المرء والحكمة نعمة العالم ، والجاهل شقيّ بينهما)، يعني الواسطة المصلح الموجب للمواصلة بين المرء وما هو العلم حقّا إنّما هو التشيّع ومعرفة الإمام، فجرى عليه السلام في التعبير عن التشيّع بالنعمة على نسق القرآن، ونظير قوله تبارك وتعالى: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي»۲ كثير في الكتاب الكريم .
ووجه إضافتها إلى العالم بمعنى الإمام ظاهر .
و«الجاهل» أي غير الشيعة أجنبيّ بمعزل عنهما . وللعبارة وجوه سنذكر طائفة منها إن شاء اللّه تعالى .
(واللّه وليّ من عرفه) كما عرّف به نفسه ، وأخبر به الحجّة المعصوم العاقل عنه سبحانه. والعبارة كناية عن أنّ وليّ اللّه إنّما هو المؤمن باللّه واليوم الآخر ، على ما هو الحقّ عقلاً عن الحقّ ، وأنّ عدوّ اللّه غير الموصوف حكاية أمر البسطامي من القدريّة بأمر اللّه سبحانه مريديه أن يضربوه بالسكاكين والخناجر عند وجده وتكلّمه بكلمات الكفر .
وكذا حكاية رؤيا الحلّاج منهم حصنا حصينا لا خلل فيه إلّا بقدر رأسه الذي سيقطع ويوضع في ذلك الخلل لسدّه.
وفي قوله عليه السلام : (وعدوّ من تكلّفه) إشارة لطيفة إلى تكلّف القدريّة العرفان بالاتّصال والاتّحاد.
(والعاقل غفور). في بعض النسخ المعتبرة : «والعالم» مكان «والعاقل». عبّر ۳ عليه السلام عن الحليم بالغفور كناية ؛ للمبالغة ، وأكّد بصيغتها .
و«الختور»: فعول من الختر ، وهو الغدر والخديعة. قال في القاموس: أو أقبح الغدر كالختور بالضمّ . ۴
وضبط في بعض النسخ بالثّاء المثلّثة من الخثورة ، وهي نقيض الرقّة . لبن خثور خاثر جدّا ، أي غليظ بيّن الغلظة.
(خشن) ككرم .
و«عنصر الشيء» بالضمّ أصله. والمراد هنا السجيّة والطبيعة.
و«الكبد» بالفتح ويكسر ، وككتف يذكّر ويُؤنّث . كأنّه هنا تعبير عن القلب؛ إيماءً إلى أنّ الجاهل لا قلب له ، وأكثر إطلاق القلب إلى محلّ الإيمان. قال اللّه تعالى: «إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ»۵ .
(ومن فرّط تورّط) أي من قصّر في طلب الخير والنجاة بطاعة مفترض الطاعة وقع في ورطات الشرّ والهلاك.
و«التثبّت» كالتوقّف لفظا ومعنىً.
و(التوغّل): الدّخول في الشيء مستعجلاً بتمام البدن.
(فيما لا يعلم) أي فيما لا علم له به عن الإمام الحقّ.
و«الجدع» بالجيم والمهملتين : قطع الأنف ، وهو كناية عن الخزي والذلّ .
(ومن لم يعلم) عن الإمام (لم يفهم) ما هو الحقّ في هذا النظام .
(يهضّم) على المضارع المجهول من التفعيل ، أو الماضي المعلوم من التفعّل ، أي يهلك أو هلك.
(كان ألوم) أي ملوما جدّا .
«ندم» كعلم ندامةً بالفتح ، أي كان أحرى أن يكفّ من اهتمامه بالمخالفة ، وزيادة الاهتمام بها توجب اشتداد العقوبة وتضاعفها.
قال برهان الفضلاء:
«والجود» بالمال «نجح»؛ أي سيّما في زمن التقيّة ؛ دفعا لضرر الأعداء .
و«المجلبة» بالفتح : للمكان ، من باب ضرب ونصر ، للكثرة والمبالغة .
و«اللّوابس»: إشارة إلى شبهات المخالفين بخدمات المرتدّين من الأصحاب في إقامتهم وظعنهم وإعانتهم الإسلام بأموالهم وأنفسهم ، ومواصلتهم مع النبيّ صلى الله عليه و آله ، ومضاجعتهم في جوار مقبرته وغير ذلك من مدائحهم المذكورة في كتب أهل الضلال، كما يجيء في كتاب الروضة بعد حديث نوح عليه السلام : «واللّه »، ما أعجب ممّن هلك كيف هلك ، ولكن أعجب ممّن نجا كيف نجا؟!» ۶ يعني ممّن هلك بعد مضيّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، ولكن أعجب ممّن نجا من فتن ذلك الامتحان العظيم. قال اللّه تبارك وتعالى في سورة السبأ: «وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَا فَرِيقا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ»۷ .
«وبين المرء والحكمة» برفع المضاف و«نعمة العالم» بفتح النون، أي تنعّم الإمام وسروره.
«والجاهل شقيّ بينهما» بإضافة الشقيّ إلى البين ، يعني المواصلة بين المرء. والحكمة سرور الإمام .
والمراد بالحكمة ، أخذ العلم عن الإمام ، وترك العمل بالظنّ فيما يجري فيه وفي دليله الاختلاف من دون مكابرة وتعاند .
والبارز في «تكلّفه» لمصدر «عرفه» .
«لم يسلم» على المعلوم من باب علم .
«لم يكرم» على المعلوم من باب حسن ، أو المجهول من الإفعال.
«يهضّم» على الماضي المعلوم من التفعّل .
«ألوم»: افعل التفضيل للمفعول .
«أن يندم» في تقدير : بأن يندم.
وقال الفاضل الاسترآبادي رحمه الله بخطّه :
«بين المرء والحكمة نعمة العالم» قصده عليه السلام الإشارة إلى ما سيجيء مفصّلاً في كلامهم عليهم السلام من انقسام الناس إلى ثلاثة أقسام: عالمٌ ربّاني ، ومتعلّم منه ، وصاحب الجهل. وإلى أنّ العالِم نعمة عظيمة بين المتعلّم وبين الحكمة ؛ لأنّه يحلّيه بحلية الحكمة، وصاحب الجهل شقيّ بين المرء وبين الحكمة .
ويمكن أن تكون النعمة مضافة إلى العالم إضافة بيانيّة ، وأن يكون العالم مبتدأ متأخّرا عن خبره ، وهو النعمة.
والموجود في النسخ كلّها : «والجاهل شقيّ بينهما» وهو ضدّ السعيد . ولا يزال يختلج بالبال أنّ هنا سهوا من قلم ناسخ، وأنّ صوابه : «شفيّ عنهما»، وشفا كلّ شيء: حرفه ، على وزن نوي.
والمراد أنّ العالم الربّاني نعمة من اللّه تعالى على المرء الذي يريد تعلّم الحكمة، وصاحب الجهل المركّب كأصحاب الرأي في طرف عنهما ۸ . انتهى .
ما خطر بباله رحمه اللهمن الاحتمال كما ترى.
وقال السيّد السند أمير حسن القايني رحمه الله:
أفاد شيخنا الشيخ محمّد الحائري سبط الشهيد الثاني رحمهما اللّه : إضافة «النّعمة» إلى «العالم» بيانيّة ، يعني وبين المرء والحكمة وجود العالم نعمة ؛ لأنّه يرتبط بينهما بالتعليم والترغيب.
وقال الشيخ بهاء الملّة والدِّين رحمه الله:
«وبين المرء والحكمة نعمة» مبتدأ وخبر ، و«النعمة» بمعنى ما يتنعّم به.
وقوله : «العالم والجاهل شقيّ بينهما» كلام آخر مبتدأ وخبر ، و«الشقي» بمعنى التعبان كما في قوله تعالى: «وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى»۹ .
وحاصل المعنى : أنّ بين المرء والحكمة نعمة ، والجاهل والعالم بين هذه النعمة والحكمة في تعب ؛ لأنّ العالم يميل إلى النعمة، وهو من الحرمان عن الحكمة في ألم وتعب، والجاهل يميل إلى النعمة، وهو من الحرمان عن الحكمة في كلفة ونصب.
وقال الفاضل صدر الدِّين محمّد الشيرازي:
لعلّ المراد أنّ الرجل الحكيم من لدن عقله وتمييزه إلى بلوغه حدّ الحكمة يتنعّم بنعمة العلم ونعيم العلماء ، فإنّه لا يزال في نعمة من أغذية العلوم وفواكه المعارف ؛ فإنّ معرفة الحضرة الإلهيّة لروضة فيها عينٌ جارية ۱۰ ، وأشجارٌ مثمرة قطوفها دانية ۱۱ ، بل جنّة عرضها كعرض السماء والأرض ۱۲ .
والجاهل بين مبدأ أمره ومنتهى عمره في شقاوة عريضة ، وطول أمل طويل ، ومعيشة ضنك ۱۳ ، وضيق صدر ۱۴ ، وظلمة قلب إلى قيام ساعته وكشف غطائه ، وفي الآخرة عذاب شديد. ۱۵
وقال بعض المعاصرة من تلامذة هذا الفاضل الشيرازي:
نعمة العالم بفتح النون يعني أنّ الموصل للمرء إلى الحكمة تنعّم العالم، بعلمه، فإنّه إذا رآه المرء انبعثت نفسه إلى تحصيل الحكمة، أو إضافة النعمة بكسر النون بيانيّة، أي العالم الذي هو نعمة من اللّه سبحانه يوصل المرء إلى الحكمة بتعليمه له إيّاها، والجاهل شقيّ بينهما، أي له شقاوة حاصلة من بين المرء والحكمة أو المتعلِّم والعالم؛ وذلك لأنّه لا يزال يتعب نفسه إمّا بالحسد أو الحسرة على الفوت أو السعي في التحصيل مع عدم القابليّة للفهم. ۱۶
وقال السيّد الأجلّ النائيني رحمه الله:
«لا يفلح من لا يعقل». الفلاح : الفوز والنجاة . والمراد بمن لا يعقل : من لا يتبع حكم العقل ، ولا يكون عقله مستوليا على قوى نفسه ، ولا يعقل ولا يستولي عقله على قوى نفسه من لا يحصّل العلم ولا يصير ذا علم ؛ فإنّه بالعلم من جنوده يحصل له الاستيلاء والغلبة .
«وسوف ينجب من يفهم». النجيب : الفاضل النفيس في نوعه. والمراد أنّه من يكون ذا فهم فهو قريب من أن يصير عالما ، ومن صار عالما فقريب من أن يستولي ويغلب عقله على قوى نفسه وهواه .
وكذا «يظفر من يحلم» ، أي يعقل ، أو يكون ذا أناة ، وهو من آثار غلبة العقل على القوى الغضبيّة والشهوانيّة ، فلا يسرع إلى مقتضاهما، فالظفر بالمقصود والفوز يحصل له عن قريب.
«والعلم جُنّة» أي وقاية من غلبة القوى الشهوانيّة والغضبيّة والدواعي النفسانيّة، ومن أن يلبس عليه الأمر ويدخل عليه الشّبه .
وهذا شروع في ذكر محاسن بعض من جنود العقل، فذكر العلم أوّلاً، ثمّ الصدق من جنوده، فقال: «والصدق عزّ»، أي شرف ، أو قوّة وغلبة. والمراد بالصدق هنا الصدق في الاعتقاد، ولذا قابله بالجهل؛ فإنّ الاعتقاد الكاذب جهلٌ، كما أنّ الاعتقاد الصادق علم.
«والفهم مجد» والمجد نيل الشرف والكرم .
«والجود» بالمال «نجح»، والنجح ـ بضمّ النون والحاء المهملة بعد الجيم ـ : الظفر بالحوائج.
و«المجلبة»: إمّا مصدر ميمي حمله على حسن الخلق ، كما حمل سائر المصادر السابقة على سائر الصفات مبالغة ، أو اسم مكان، والأوّل أوفق بنظائره .
ولمّا ذكر أنّ العقل بجنوده من العلم، والفهم والصدق مناط الفلاح والعزّ والمجد، وكان فيه الدلالة على بطلان الطواغيت؛ لجهلهم وخلوّهم من الفهم والصدق والعلم وانقياد العقل ، بل اتّبعوا أهواءهم ، فادّعوا لأنفسهم ما ليس لهم ، وتركوا الحقّ وأهله وظلموهم ، فكان مظنّة توهّم أنّه كيف يجوز على الجمع الكثير كثرةً لا يخرج عنها إلّا قليلٌ نادر مثلُ هذا الاتّفاق على ترك الحقّ مع ظهوره عليهم أو على أكثرهم ، واتّباع الأهواء والابتداع الآراء الباطلة؟! فأزال عليه السلام هذا الوهم بقوله: «والعالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس» ، أي لايدخل عليه الشبهات.
أو المراد من الهجوم : الدخول بقوّة وغلبة ؛ فإنّ العالم بزمانه يعرف أنّ أهل الزمان مع كثرتهم وبلوغهم أضعاف اُولئك قلّما يرى في جماهيرهم ووجوه مشاهيرهم من لا يستكبر عن الإقرار بالحقّ ولا يتّبع هواه ، حتّى من يبالغ منهم في السداد وإظهار الصلاح والتقوى والفلاح ، فانضمّ فيهم الإضلال إلى الضّلال ، وتقوّى ضلالهم بالإضلال .
وعسى أن يكون الإقرار بالحقّ والانقياد له عند القليل النادر المتروك عندهم، المذموم لديهم ، المحسود لهم ، فيبغضونه للتعازف ۱۷ الذي بينهم ، وينكرونه ؛ تقويةً لباطلهم ، وترويجا له ، كما كان في أسلافهم حذو النعل بالنّعل ، بل البَطَلَة من أهل هذه الأزمان أسوء حالاً وأشدّ خسرانا من اُولئك الظلمة من السابقين ؛ حيث لا ينالون باستكبارهم عن الحقّ ما نالوه من الدنيا، بل شروا الحقّ بثمنٍ بخس؛ تسلية أنفسهم بإخفاء الحقّ والتلبيس على الحمق والوجاهة عندهم .
ثمّ لمّا كان مظنّة أن يقال : الظنّ بالسلف أنّهم مثل أبناء هذه الأزمان بل تجويز ذلك من سوء الظنّ بهم، فقال عليه السلام : «والحزم مساءة الظنّ». الحزم : إحكام الأمر وضبطه والأخذ فيه بالثقة ، والمساءة : مصدر ميميّ .
والمراد أنّ إحكام الأمر وضبطه والأخذ بالثقة وتحصيل العلم فيه يوجب سوء الظنّ بهم ، أو يترتّب على سوء الظنّ بهم وتجويز كونهم مثل هؤلاء ؛ فإنّه لو لم يجوّز ذلك لحسن الظنّ بهم لم يُتّبع ولم يُسْعَ في طلب معرفة الحقّ ، فلا يحصل له العلم بالحقّ ، فمن يريد تحصيل العلم والاعتقاد الجازم الثابت يبني الأمر على تجويز السوء منهم أوّلاً حتّى يتبيّن ۱۸ الأمر بالبيّنة ، ومن يجوّز السوء بهم يوصله ذلك التجويز إلى إحكام الأمر والبناء فيه على الموثوق به الذي يوجب الاعتقاد الجازم الثابت.
ولعلّ المراد بكون الشيء بين المرء والحكمة كونه موصلاً للمرء إلى الحكمة وواسطة في حصولها ۱۹ ، كما في رواية جابر عن النبيّ صلى الله عليه و آله : «بين العبد والكفر ترك الصلاة» ۲۰ ؛ أي ترك الصلاة موصل للعبد إلى الكفر.
والغرض أنّ ما أنعم اللّه به على العالِم من العلم والفهم والصدق على اللّه واسطة للمرء يوصله إلى الحكمة، فإنّ المرء إذا عرف حال العالم اتّبعه وأخذ منه، فيحصل له الحكمة ومعرفة الحقّ والإقرار به والعمل على وفقه. وكذا بمعرفة حال الجاهل وأنّه ۲۱ غير عالمٍ فَهِمٍ صادقٍ على اللّه يترك متابعته والأخذ منه ، ويسعى في طلب العالم فيطّلع عليه ويأخذ منه.
فالجاهل باعتبار سوء حاله باعث بعيد لوصول المرء إلى الحكمة ، فهو شقيّ محروم توصل معرفة حاله المرء إلى سعادة الحكمة ، وهذا الكلام كالتفصيل والتأكيد لما سبقه.
ويحتمل أن يحمل البينيّة في الاُولى على التوسّط في الإيصال ، وفي الثانية على كون الشيء حاجزا مانعا من الوصول ، والجاهل شقيّ مانع من الوصول إلى الحكمة .
ولا يبعد أن يُقال : المراد بنعمة العالم العالمُ نفسُه ، والإضافة بيانيّة ، أو يكون «العالم» بدلاً من قوله «نعمة»، فإنّ العالم من أشرف ما أنعم اللّه بوجوده على عباده .
وقد قيل في معنى هذه العبارة وجوهٌ اُخر بعيدة تركناها محافظة ۲۲ الإطناب .
«من تكلّفه»، أي تكلّف العرفان. والمراد ۲۳ إراءة ما ليس له من المعرفة .
و«الغفور» إمّا من غفره ، بمعنى غطّى عليه ، وعفا عنه . أو من غفر الأمر ، أي أصلحه.
و«الختّور» إمّا من الخَتْر بمعنى المكر والخديعة ، أو من الخَتْر بمعنى خباثة النفس وفسادها.
و«من فرّط تورّط»، أي من عجّل ولم يتفكّر العواقب، بل عمل بمقتضى القوى الشهوانيّة والغضبيّة وقع في الورطة ، أي فيما يعسر الخروج منها.
«ومن خاف العاقبة» . وذلك بتفكّره في العواقب .
«ثبّت عن التوغّل فيما لا يعلم»، أي الدخول فيه باستعجالٍ ، بل لا يدخل فيه إلّا بعد معرفة حاله ، والعلم بمآله.
«جدع أنف نفسه» : قطع، أي جعل نفسه ذليلاً غاية الذلّ .
«ومن لم يعلم»، أي لم يكن عالما بشيء «لم يفهم» لم يميّز بين الحقّ والباطل.
«ومن لم يفهم لم يسلم» أي من ارتكاب الباطل في شيء أصلاً ، أمّا في ارتكاب الباطل فظاهر، وأمّا في ارتكابه الحقّ ـ إن اتّفق ـ فلأنّ القول به بلا علم هلاكٌ وضلالةٌ.
«ومن لم يسلم لم يكرم» على البناء للمفعول ، أي لم يعزّز بل يخذل، أو على البناء للفاعل ، أي لم يكن شريفا فاضلاً.
«ومن لم يكرم يهضم» على البناء للمفعول ، أي يكسر عزّه ويُهان ، أو يُترك مع نفسه ويوكّل أمره إليه.
وفي بعض النسخ «تهضّم» من التفعّل ، أي يكون مطلوبا لنفسه؛ أي ظالما عليها ۲۴ . انتهى.
أنت خبير بأنّ أوجه الوجوه المحتملة فيما هو الصعب المستصعب من كلامهم عليهم السلام ما هو الأوفق بمجاري ما هو الأهمّ من مقاصدهم صلوات اللّه عليهم.
1.في «الف»: - «نجح».
2.المائدة (۴) : ۳ .
3.في «ب» : «عبّر عنه» . ولعلّ الصحيح ما أثبتناه .
4.القاموس المحيط ، ج ۱ ، ص ۴۸۹ (ختر) .
5.ق (۵۰) : ۳۷ .
6.الكافي ، ج ۸ ، ص ۲۷۵ ، ح ۴۱۵ . ولايكون بعد حديث نوح .
7.سبأ (۳۴) : ۲۰ .
8.الحاشية على اُصول الكافي، ص ۸۹ ـ ۹۰ .
9.الأعلى (۸۷) : ۱۱ .
10.إشارة إلى آية ۱۲ من الغاشية (۸۸) .
11.إشارة ، إلى آية ۲۳ من الحاقّة (۶۹) .
12.إشارة إلى آية ۲۱ من الحديد (۵۷) .
13.إشارة إلى آية ۱۲۴ من طه (۲۰) .
14.إشارة إلى آية ۱۲۵ من الأنعام (۶) .
15.شرح الاُصول الكافي، ص ۱۱۶.
16.الوافي ، ج ۱ ، ص ۱۱۹ ـ ۱۲۰ .
17.في المصدر : «للتعارف» بالراء المهملة .
18.كذا في المصدر ، وفي «ب» : «يتبنّى».
19.في المصدر : + «له» .
20.جامع الأخبار ، ص ۷۳ ؛ وعنه في بحار الأنوار ، ج ۷۹ ، ص ۲۰۲ ، ذيل الحديث ۲ . وهذا الحديث مروي في كتب العامة بعبارات مختلفه ، راجع : تفسير ابن كثير ، ج۳ ، ص ۱۷۲ ، ذيل الآية ۶۰ من سورة مريم (۱۹) ؛ الدر المنثور ، ج ۱ ، ص ۷۱۱ ذيل الآية ۲۵۳ من سورة البقرة (۲) .
21.ما أثبتناه من المصدر ، وفي «ب» و «ج» : «فإنّه» .
22.في المصدر : «لمخافة» بدل «محافظة» .
23.في المصدر : + «به» .
24.الحاشية على اُصول الكافي، ص ۷۸ ـ ۸۴ ، بتفاوت في بعض الكلمات ، وبإسقاط وتلخيص في بعض العبارات .