الحديث الثالث ۱
۰.روى في الكافي عن العدّة، عن البرقي،۲عن إسماعيل بن مهران، عن أبي سعيدٍ القمّاط، عن الحلبي، عن أبي عبداللّه عليه السلام قال :«قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام : أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِالْفَقِيهِ حَقِّ الْفَقِيهِ؟ مَنْ لَمْ يُقَنِّطِ النَّاسَ مِنْ رَحْمَةِ اللّه ِ، وَلَمْ يُؤْمِنْهُمْ مِنْ عَذَابِ اللّه ِ، وَلَمْ يُرَخِّصْ لَهُمْ فِي مَعَاصِي اللّه ِ، وَلَمْ يَتْرُكِ الْقُرْآنَ رَغْبَةً عَنْهُ إِلى غَيْرِهِ؛ أَلَا لَا خَيْرَ فِي عِلْمٍ لَيْسَ فِيهِ تَفَهُّمٌ، أَلَا لَا خَيْرَ فِي قِرَاءَةٍ لَيْسَ فِيهَا تَدَبُّرٌ، أَلَا لَا خَيْرَ فِي عِبَادَةٍ لَيْسَ فِيهَا تَفَكُّرٌ».
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرى: «أَلَا لَا خَيْرَ فِي عِلْمٍ لَيْسَ فِيهِ تَفَهُّمٌ، أَلَا لَا خَيْرَ فِي قِرَاءَةٍ لَيْسَ فِيهَا تَدَبُّرٌ، أَلَا لَا خَيْرَ فِي عِبَادَةٍ لَا فِقْهَ فِيهَا، أَلَا لَا خَيْرَ فِي نُسُكٍ لَا وَرَعَ فِيهِ».
هديّة :
(القمّاط): بنّاء بيت القصب، و «القمط» بالكسر: ما يشدّ به قصبات بيت القصب. وككتاب: الخرقة التي تلفّ على الصبيّ، وحبل يشدّ به رِجْل الدواب .
(لم يقنّط) على المعلوم من التفعيل . وكذا لم يؤمّنهم. أمن من كذا كعلم، وأمنه غيره كنصر، كآمنه إيمانا، وأمّنه تأمينا. وللتأمين معنى آخر، وهو التكلّم بعد الدّعاء بكلمة «آمين» من أسماء الأفعال، بمعنى استجب.
لعلّ عليه السلام أشار بكلّ فقرة من الفقرات الأربع إلى بطلان مذهب من المذاهب الباطلة، أو أكثر في الاُصول والفروع.
فبالاُولى: إلى بطلان مذهب المعتزلة في قولهم بإيجاب الوعيد، وتخليد صاحب الكبيرة في النار . ومذهب الخوارج المضيّقين على أنفسهم في التكاليف الشرعيّة، كالصوفيّة القدريّة بالرياضات المخترعة، والرهبانيّة المبتدعة.
وبالثانية: إلى بطلان مذهب المرجئة القائلين بتأخير العمل عن الإيمان، بأنّ الإيمان مجرّد التصديق بما جاء به النبيّ صلى الله عليه و آله . ومن يجري مجراهم، كمن يقول: صحّة الاعتقاد تكفي للنجاة ومن ورائي الشفاعات. نعم، صحّة الاعتقاد بدون العمل ـ مع أنّ العمل من الإيمان باتّفاق أصحابنا الإماميّة ـ توجب النجاة لو لم يوجد فرصة للعمل، كمن أسلم ومضى. وأمّا التارك أصلاً مع الفرصة، فإن وفّق للتوبة ولو قبل المعاينة بنَفَسٍ فلا يدخل النار، ويعلم اللّه حاله في عقبات البرزخ. وإن لم يوفّق للتوبة ومضى بصحّة الاعتقاد ، فإمّا من الداخلين في النار بغير الخلود فيها كما قيل، أو من المخلّدين ؛ لأنّ عدم التوفيق للتوبة علامة الخذلان، وزوال الإيمان التصديقي بغلبة الشيطان. أو من الذين للّه فيهم المشيئة، إن شاء عذّبهم وإن شاء غفر لهم.
وبالثالثة: إلى بطلان مذهب الأشاعرة والحنابلة ومن يشبههم شبه الملامتيّة من الصوفيّة القدريّة وسائر أصنافهم.
وبالرابعة: إلى بطلان مذهب المتفلسفة الذين أعرضوا عن القرآن وحملة علمه، وحاولوا اكتساب العلم والعرفان من كتب قدماء الفلاسفة، ومذهب أصحاب الآراء والمقاييس، كالحنفيّة وغيرهم من فرق العامّة .
(ألا لا خير في علمٍ ليس فيه تفهّم) أي تيقّن، بأنّ العلم بالمتشابهات لا يحصل إلّا بتوسّط الحجّة المعصوم العاقل عن اللّه ؛ لانحصار الأعلميّة في اللّه ، فلا قطع في مشتبه في هذا النظام العظيم إلّا بما أخبر به مدبّره الحكيم، والحكيم لئلّا يكون على اللّه حجّة بعد الرّسل لا يحتجّ على عباده إلّا بالمعصوم الممتاز عن الجميع حسبا ونسبا .
(ألا لا خير في قراءة ليس فيها تدبّر) من التدبّر فيه: أنّ حجّيّة القرآن ـ والبضع والسبعون متمسّكون به ـ لا تستقيم إلّا بقيّم له من اللّه معصوم عاقل عن اللّه ممتاز عن الجميع في جميع المكارم والأخلاق حسبا ونسبا؛ فإنّ كلّ إمام من الاثني عشر عليهم السلام في زمانه كان كذلك باتّفاق المؤالف والمخالف ، «وَ لَـكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَـفِرِينَ » . ۳ وحديث : «إنّي تاركٌ فيكم الثقلين» ۴ قد صحّ عند البضع والسبعين .
(ألا لا خير في عبادةٍ ليس فيها تفكّر) أي التفكّر المبني على استحكام هذا النظام المحيّر للعقلاء، من التفكّر فيها أنّها لا تصحّ إلّا بالوجه الصحيح المقطوع بصحّته، ولا قطع إلّا بما ثبت عن الحجّة المعصوم العاقل عن اللّه . ألا يرى أنّ الرسوم المخترعة في العبادة من عبّاد الصوفيّة القدريّة لا يفضي إلّا إلى ترك العبادة والارتداد بخيالات واهية صادرة من ملكة الاختلاف، وأفكار باطلة ناشئة من سنخ الكفر والنفاق .
(وفي رواية اُخرى) كلام ثقة الإسلام.
(ألا لا خير في عبادة لا فقه فيها) بيانه بَيِّنٌ ممّا بيّنا.
وجواب شيخ كبير من مشايخ الصوفيّة عن مسألة الشكّ بين الثلاث والأربع وحكمه بالاستئناف على الاستحسان مشهور.
وفي «النّسك» بمعنى العبادة لغات. فتح النون، وضمّها، وكسرها وسكون السين، وبضمّتين
(لا ورع فيه) أي عمّا نهي عنه في الشريعة الغرّاء، القائمة إلى قيام الساعة، القاصمة ظهر الزنادقة والملاحدة لعنهم اللّه ، كسّر اللّه ظهرهم بقهره بأيدي شيعة آل محمّد صلى الله عليه و آله .
قال برهان الفضلاء سلّمه اللّه تعالى :
«العدّة» في سند هذا الحديث عبارة عن: عليّ بن إبراهيم، وعليّ بن محمّد بن عبداللّه بن اُذينة، وأحمد بن عبداللّه بن اُميّة، وعليّ بن الحسن .
و «برقة رود»: قرية من قرى قمّ، والنسبة إليها «برقيّ» بسكون الرّاء.
و «مهران» بكسر الميم، ولا ينصرف.
و «القمّاط»: بيّاع القِماط ككتاب، وهو ما يلفّ على الصبيّ قبل زمان المهد.
و «الحلبي» هو عبيد اللّه بن عليّ بن أبي شعبة الحلبي.
«ألا اُخبرّكم» من التخبير: بسيار دانا كردن كسى را به چيزى به نشان هاى درست.
و«لم يقنّط» على المعلوم من التفعيل، من القنوط، وهو ضدّ الرجاء. ويجيء في باب الكبائر في كتاب الإيمان والكفر: «الكبائر: القنوط من رحمة اللّه ، والإياس من روح اللّه ، والأمن من مكر اللّه »، الحديث.
وقد يُفرَّق بين «الرحمة» بإيصال النفع، كإعطاء الولد على إبراهيم عليه السلام في أواخر سنّ سارة؛ وبين «الرَوْح» ـ بالفتح ـ بدفع الضرر، كإزالة حزن يعقوب برؤية يوسف عليهماالسلام
ويمكن أن يكون المراد من «عذاب اللّه » هنا: مكر اللّه المذكور في سورة الأعراف ؛ قال اللّه تعالى : «فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللّه ِ إِلَا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ»۵ .
وقد يستعمل «الرحمة» في إمام الهدى ، و «العذاب» في إمام الضلالة ؛ قال اللّه تعالى في سورة الأعراف : «قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ» . ۶
والترخيص في المعاصي يلزم على عدّة طائفة من الفِرَق الهالكة، منها: المرجئة القائلون بأنّ الإيمان محض التصديق بما جاء به النبيّ صلى الله عليه و آله ، والعمل ليس منه ولا يلازم له؛ وأنّ قوّة إيمان فسق الفسّاق رتبةً كقوّة إيمان جبرئيل وميكائيل.
«رغبةً عنه»: مفعول له. و «الرغبة» إذا تعدّت ب «عن» بمعنى النفرة. وترك القرآن رغبةً عنه إلى غيره صنيعة طائفتين من أهل الضلال: أهل الآراء وأهل ۷ المقاييس القائلون بالظنون ، وهم عامّة العامّة ومن يجري مجراهم في القضاء والإفتاء؛ والصوفيّة القائلون بأنّ العلم الحاصل بالمكاشفة أعلى وأقوى من العلم الحاصل من قول الأنبياء .
و «ألا» في المواضع حرف الاستفتاح والتنبيه .
و «في» فيها بمعنى «مع» .
وقال السيّد الأجلّ النائيني رحمه الله :
«حقّ الفقيه» أي حقيقة الفقيه. و «حقّ الفقيه» بدل عن «الفقيه» وما بعده خبرُ مبتدإٍ محذوف ؛ أي هو «من لم يقنّط الناس». ويحتمل أن يكون «حقّ الفقيه» مبتدأ وما بعده خبر.
والمراد أنّ الفقيه حقيقةً ليس إلّا من هو عالم بالمراد بما ورد في الوعيد والوعد والعفو بملاحظة بعضها مع الآخر حتّى يتبيّن له المراد. ومن يقتصر على ملاحظة البعض دون الباقي ويعتمد على ما يفهمه بتلك الملاحظة فيؤدّيه إلى أن يقنّط الناس من رحمة اللّه ، أو يؤمّنهم من عذاب اللّه ، أو يرخّص لهم في معاصي اللّه ، فبمجرّد علمه بالمسائل الشرعيّة الفروعيّة لا يكون فقيها.
وكذا حقيقة الفقيه لا يكون إلّا لمن أخذ بكتاب اللّه وتفكّر فيه ولم يرغب عنه إلى غيره؛ فإنّ التارك لكتاب اللّه لا يكون فقيها وإن كان حافظا للأحاديث، ضابطا لها، فإنّ معرفة الأحاديث وفهمها لا يتمّ إلّا بمعرفة كتاب اللّه والتفكّر فيه. وأمّا مَن ترك التفكّر في كتاب اللّه ، ثمّ قاس على الأحاديث، فعدوله عن الحقّ أكثر.
ويحتمل أن يكون قوله : «ألا لا خير في علمٍ ليس فيه تفهّم» ناظر إلى ما ذكره أوّلاً ؛ فإنّ مَنْ كان يتفهّم يعلم أنّ الوعيد للتقريب من الإطاعة، والتقنيط يبعّد عنها ، فمن يقنّط لم يكن في علمه تفهّم .
و «ألا لا خير في قراءة ليس فيها تدبّر» ناظر إلى ما ذكره ثانيا؛ فإنّ من يتدبّر في قراءته للكتاب والقصص المذكورة فيه ـ من نزول العذاب عند المعاصي ـ علم أنّها نزلت لئلّا يأمنوا من عذاب اللّه ، ولم يجترئوا على المعاصي، ولم يرخّصوا لأنفسهم فيها.
و «ألا لا خير في عبادة ليس فيها تفكّر» ناظر إلى ما ذكره ثالثا من قوله : «ولم يترك القرآن رغبةً عنه»؛ فإنّ من تمسّك بالقرآن وعمل بما فيه كان آخذا بما يتعبّد به من مأخذه بالتفكّر ، ومَن ترك التمسّك به ورغب عنه إلى غيره كان آخذا له من غير مأخذه الذي كان يجب أن يأخذ منه تاركا لأخذه كما ينبغي بالتفكّر .
«وفي رواية اُخرى». اختلاف هذه الرواية مع الرواية السابقة في الفقرة الثالثة هو اختلاف في العبارة ، والمراد واحد. وزيادة الفقرة الرابعة هنا تدلّ على أنّ الفقرة الثانية ناظرة إلى الأمن من عذاب اللّه ، والرابعة ناظرة إلى الرخصة في المعاصي
و «النسك»: الطاعة والعبادة، وكلّ ما يتقرّب به.
و «الورع» في الأصل: الكفّ عن المحارم و التحرّج منه ، ثمّ استعمل في الكفّ عن التسرّع إلى تناول أعراض ۸ الدنيا حسب ما يليق بالمتورّع ، فمنه واجب ، و هو الكفّ عن المحرّمات، وهو ورع العامّة ؛ لأنّ الاجتناب عن المحرّم على الكلّ؛ ومنه ندب، وهو الوقوف عند الشبهات، وهو ورع الأوساط؛ ومنه فضيلة، وهو الاقتصار على الضروريّات، وهو ورع الكاملين. والمراد به هنا الأوّل ، ويحتمل الثاني؛ فإنّه مع فقدانه لا يكون خير يعتدّ به. ۹ انتهى .
قال اللّه تبارك وتعالى : «قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدا» . ۱۰
لا شكّ أنّ كلمات قيّم القرآن، وهو القرآن الناطق إنّما هي بأمر اللّه ، وهو لسان اللّه الناطق في خلق اللّه .
1.في «الف»: - «الحديث الثالث».
2.في الكافي المطبوع: «عن أحمد بن محمّدٍ البرقي».
3.الزمر (۳۹): ۷۱.
4.حديث الثقلين متواتر بين الفريقين و تعرّض لنقله أرباب الصحاح و السنن و المسانيد ، و رووه بأسانيد مختلفة و ألفاظ متفاوته عن كثير من الصحابة. راجع: نهج الحقّ ، ص ۲۲۵ ـ ۲۲۸؛ صحيح مسلم ، ج ۴ ، ص ۱۸۷۳ ، ح ۲۲۴۰۸. مسند أحمد ، ج ۴ ، ص ۳۶۶ ، ح ۱۹۲۸۵؛ سنن البيهقي ، ج ۲ ، ص ۱۴۸ ، ح ۲۶۷۹؛ كنزالعمّال ، ج ۱ ، ص ۳۱۵ ، ح ۸۹۸ .
5.الأعراف (۷): ۹۹.
6.الأعراف (۷): ۱۵۶.
7.في «ب» و «ج»: - «أهل».
8.في «ب» و «ج»: «أغراض».
9.الحاشية على اُصول الكافى¨ ، ص ۱۱۳ ـ ۱۱۵.
10.الكهف (۱۸): ۱۰۹.