الحديث الثاني
۰.روى في الكافي بإسناده عَن ابْنِ عِيسى،۱عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ، عَنِ ابْنِ مُسْكَانَ، عَنْ الصَّيْقَلِ،۲قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام يَقُولُ:«لَا يَقْبَلُ اللّه ُ عَمَلاً إِلَا بِمَعْرِفَةٍ، وَلَا مَعْرِفَةً إِلَا بِعَمَلٍ؛ فَمَنْ عَرَفَ، دَلَّتْهُ الْمَعْرِفَةُ عَلَى الْعَمَلِ ، وَمَنْ لَمْ يَعْمَلْ، فَلَا مَعْرِفَةَ لَهُ، أَلَا إِنَّ الْاءِيمَانَ بَعْضُهُ مِنْ بَعْضٍ».
هديّة :
(إلّا بمعرفة) أي بمعرفة هي معرفة حقيقة، فالإبهام للتعظيم، يعني معرفة اللّه الحاصلة بطاعة مفترض الطاعة ومعرفته.
(إلّا بعمل) أي دالّ على أنّ العامل به عارف الإمام. (ولا) لنفي الجنس، أو «الواو» للعطف. والمعنى عليهما ـ لصريح لفظ «البعض» ـ : أنّ كمال الإيمان بالعمل؛ فإنّ الإيمان باللّه يكمل من الإيمان بالرسول، وهو يكمل من الإيمان بالإمام، وهو يكمل من العمل بما اُمر ونهي عنه.
(دلّته المعرفة على العمل) أي العمل على الوجه الصحيح المضبوط عن مفترض الطاعة.
(ومن لم يعمل) أي هكذا.
(بعضه من بعض) يعني أنّ الإيمان ليس مجرّد التصديق كما ذهبت إليه المرجئة، بل العمل من الإيمان على ما ذكرنا ولذا له مراتب.
قال برهان الفضلاء سلّمه اللّه تعالى:
«بمعرفةٍ» أي بمعرفة اللّه ، بترك اتّباع الظنّ في القول والفعل.
و «لا» في «لا معرفة» لنفي الجنس.
والإيمان عبارة عن المركّب من المعرفة والعمل. وقوّته وضعفه على حسب كثرة العمل وقلّته، قال اللّه تعالى في سورة بني إسرائيل: «قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ» . ۳
وقال السيّد الأجلّ النائيني:
«بمعرفةٍ» أي بمعرفةٍ بالعمل وبما يتوقّف عليه المعرفة بالعمل، أو بمعرفة صحيحة مأخوذة عن مأخذها الذي يجب الأخذ عنه كما هو طريقه. وتلك المعرفة تكون للعالم القادر على الأخذ من الأدلّة بالأخذ منها، و تكون للمقلّد العاجز عن الأخذ منها بالأخذ عن العالم فيما يجوز فيه التقليد.
«ولا معرفة إلّا بعمل» إمّا معطوف على «عملاً» و «لا» مؤكّدة للنفي؛ أي لا يقبل اللّه معرفةً متعلّقةً بعملٍ إلّا بعملٍ يتعلّق به المعرفة، أو لا يقبل اللّه معرفة إلّا بعمل يتعلّق بها.
وإمّا معطوف على قوله: «لا يقبل اللّه عملاً» و «لا» لنفي الجنس؛ أي ولا معرفة كاملة تستحقّ أن تعدّ معرفة إلّا بعمل يتعلّق بها، ولا أقلّ من الإقرار باللسان وما في حكمه. فكلّ معرفة لا يتعلّق عليها عمل لا يعتدّ بها ولا يعدّ معرفة؛ حيث لا يترتّب عليها آثار المعرفة ولا يكون مقبولة، فإنّه كما لا يؤثّر هاهنا لا يؤثّر هناك؛ وذلك لعدم استقرارها وتمكّنها في القلب. فالمعرفة المتعلّقة بالمبدأ وصفاته، والرسالة والوصاية متى فارقها الإقرار باللسان وما في حكمه لا يعتدّ بها ولا تكون إيمانا، وكذا المعرفة المتعلّقة بعمل إن كان من المتيقّن ثبوته من الشريعة كالضروريّات الدينيّة إن فارقها الإقرار لا يعتدّ بها ، ولم يكن تلك المعرفة من الإيمان، ولذا يحكم بكفر منكر ضروريّ الدِّين وإن كان عارفا به.
وأمّا الظنّيات من الفروع فالاعتقاد بها معرفتها ۴ الظنّية ليست من الإيمان، إنّما المعتبر في الإيمان الاعتقاد والتصديق بجميع ما جاء به النبيّ صلى الله عليه و آله عموما بهذا العنوان، وخصوصا في المتيقّن ثبوته شرعا كالضروريّات عند ملاحظتها، فإنكارها وإن لم يُخرج من الإيمان، لكن هذه المعرفة الظنّية فائدتها الإقرار والعمل، فبعدمهما يكون وجودها كعدمها، فلا يكون مقبولة ولا معدودة في المعرفة، بل وجودها أسوأ من عدمها؛ لغلبة شرّيّة النفاق والخلاف بين الباطن والظاهر، أو القول والفعل، وتكذيب كلّ منهما الآخر على خيريّتها،
«فمن عرف دلّته المعرفة على العمل، ومن لم يعمل فلا معرفة له» تفصيل وتبيين لما ذكر قبله إجمالاً.
والمراد أنّ المعرفة شأنها ۵ الدلالة والإيصال إلى العمل، والعمل من آثارها المرتّبة عليها، ومن لم يترتّب أثر المعرفة على ما فيه ويظنّه معرفة، فإمّا لعدم كونه معرفة في ذاته، أو لعدم كونه معرفة له، أي ثابتة مؤكّدة الثبوت له، ظاهرةً فيه، غالبةً على أضدادها، فالحالة الحاصلة في الشخص ـ من اجتماع ما للقلب والقوّة العقليّة، وما للقوى الخياليّة والوهميّة، وما للقوى الشهوانيّة والغضبيّة ـ لا كماليّة ولا معدودة معرفة، كالمركّب من المسك والقاذورات لا يشمّ منه إلّا المركّب من كيفيّتهما وهو النتن لا الطيب، فلا يقال لرائحة المِسْك المخلوطة بنتن القاذورات والجيف عند الاختلاط والاضمحلال في كيفيّتها: عَرْفا وريحا طيّبا، ولا يكون مُستعمِل المِسْك على هذا النحو مستعملاً للطيب. كذا المعرفة المنغمرة في الأهواء والمنى والجهالات الدّاعية إلى الشرّ والفساد لا يكون معرفةً، ولا يكون صاحبها على هذا النحو سالكا طريق النجاة، بل الحالة المركّبة من جميع هذه الاُمور أقوى في الإيصال إلى الضلال والهلاك.
«إلّا أنّ الإيمان بعضه من بعض» أي بعضٌ ممّا اعتبر فيه ـ وهو العمل المعتبر في أصله، أو العمل المعتبر في كماله ـ نشأ من بعض، وهو المعرفة الدالّة عليه؛ فإنّ المعرفة التي هي مناط الإيمان أقلّ مراتبها يدلّ على أقلّ مراتب العمل، وهو الإقرار والقول بها؛ وأكملها يدلّ على أكمل مراتب العمل، وهو الموافقة لها قولاً وفعلاً؛ والأوساط على الأوساط، وينشأ من كلّ مرتبة من المعرفة ما يطابقها من مراتب العمل. ۶ انتهى.
لا يذهب عليك أنّ غرضه رحمه الله من الفقرات في قوله: «من اجتماع ما للقلب ـ إلى قوله ـ : وما للقوى الشهوانيّة والغضبيّة مطلق الآثار، كما هو عند الفلاسفة ومن تبعهم في أكثر اُصولهم كالصوفيّة القدريّة؛ فإنّ كلّ واحدٍ من تلك الآثار في تقدير حكمة اللّه وشرعه قسمان: حسن وقبيح، مأمور به ومنهيٌّ عنه، ممدوح ومذموم، بل يجري فيه الأحكام الخمسة.
همه خشمى نه عيب و نقصان استخشم روز جهاد ايمان است
وقال الفاضل الاسترآبادي رحمه الله:
«لا يقبل اللّه عملاً إلّا بمعرفة» سيجيء أنّ للإيمان معنيين: أحدهما موهبيّ لم يكلّف اللّه العباد بتحصيله، وهو المعرفة باللّه وبرسوله. والآخر من أفعالنا الاختياريّة، وهو الانقياد القلبي واللِّساني والجوارح على وفق المعرفة.
ومعنى الإيمان بعضه من بعض: أنّ بعضه ناش من بعض، أي الانتفاع بكلّ جزء من أجزائه الثلاثة يتوقّف على تحقّق الجزئين الآخرين. ۷
وقال بعض المعاصرين في بيان هذا الحديث في آخر كلامه:
فمن لا معرفة له باللّه واليوم الآخر فكيف يعبده؟! ومَن لا عبادة له ولا رياضة شرعيّة كيف يصفّي نفسه ويرقّ قلبه ويطهّر باطنه؟! ۸ انتهى.
1.في الكافي المطبوع: «محمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد بن عيسى».
2.في الكافي المطبوع: «الحسن الصيقل».
3.الإسراء (۱۷): ۸۴ .
4.في المصدر: «و معرفتها».
5.في المصدر: «من شأنها».
6.الحاشية على اُصول الكافي ، ص ۱۳۹ ـ ۱۴۱.
7.الحاشية على اُصول الكافي، ص ۹۴ .
8.الوافي ، ج ۱ ، ص ۲۰۱.