الحديث السادس
۰.روى في الكافي عن عَلِيٍّ۱، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيى ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ زَيْدٍ ، قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام يَقُولُ :«إِنَّ رُوَاةَ الْكِتَابِ كَثِيرٌ ، وَإِنَّ رُعَاتَهُ قَلِيلٌ ، وَكَمْ مِنْ مُسْتَنْصِحٍ لِلْحَدِيثِ مُسْتَغِشٌّ لِلْكِتَابِ ، فَالْعُلَمَاءُ يَحْزُنُهُمْ تَرْكُ الرِّعَايَةِ ، وَالْجُهَلاء ۲ يَحْزُنُهُمْ حِفْظُ الرِّوَايَةِ ، فَرَاعٍ يَرْعى حَيَاتَهُ ، وَرَاعٍ يَرْعى هَلَكَتَهُ ، فَعِنْدَ ذلِكَ اخْتَلَفَ الرَّاعِيَانِ ، وَتَغَايَرَ الْفَرِيقَانِ» .
هديّة :
(إنّ رواة الكتاب كثير) أي الذين صحّحوا ألفاظه وأحسنوا قراءته وحفظه؛ بدليل قول أبي جعفر عليه السلام في رسالة إلى سعد الخير، ويجيء في كتاب الروضة إن شاء اللّه تعالى : «وكان من نَبْذِهم الكتاب أن أقاموا حروفه، وحرّفوا حدوده، فهم يروونه ولا يَرعَوْنه، والجُهّال يُعجبهم حِفْظُهم للرواية، والعلماء يحزنهم تركهم للرعاية».
و«الكثير» : فعيل يستوي فيه التذكير والتأنيث.
«استنصحه» : راعاه جيّدا بطلب ما هو خيره فيه.
و«الاستغشاش» : خلاف الاستنصاح .
حزن لأجله كعلم، وحزنه الأمر ـ كنصر ـ كأحزنه، ف (العلماء يحزنهم ترك الرّعاية) أي في الدنيا ، (والجهلاء يحزنهم حفظ الرواية) أي في الآخرة ، فلا منافاة بين «يحزنهم» هنا و«يعجبهم» هناك.
(فراع يرعى حياته) إمّا للعالم، فالمعنى حياته الباقية؛ أو للجاهل، أي الحياة الدنيا.
وكذا (وراع يرعى هلكته) بالتحريك، أي هلاكه .
قال برهان الفضلاء سلّمه اللّه :
«كم» مبتدأ خبره «مستغشّ» بكسر الغين المعجمة كالصاد في «المستنصح» .
والمراد ب «العلماء»: العالمون بأنّ المطلب الأصلي من ألفاظ القرآن إنّما هو العمل بها، يعني وأنّ تبعة القرآن قليل . وكم من يعدّ الحديث خالصا ويعدّ القرآن غير خالص؛ لكون ذلك الحديث مخالفا لمحكمات القرآن ، فالعلماء يفكّرهم ترك رعاية القرآن فينظرون فيه ويتأمّلون، فيلعنون المخالفين له، كما يفكّر الجهلاء حفظ رواية ألفاظ القرآن فينظرون فيها، فبذلك يحسّنون المخالفين ويقبلون منهم «حياته» أي الباقية .
وقال الفاضل الاسترآبادي رحمه الله :
«فالعلماء يحزنهم ترك الرعاية، والجهّال يحزنهم حفظ الرواية» في الباب الآخر من السرائر عن طلحة بن زيد قال : قال أبو عبداللّه عليه السلام : «العلماء تحزنهم الدراية، والجهّال تحزنهم الرواية» ۳ ـ ثمّ قال ـ : أقول : قوله : «ترك الرعاية» في كثير من النسخ هكذا، ولم يظهر لي معنى صحيحا يوافق آخر الحديث، ويوافق ما عندنا من استعمال العرب، ويوافق الحديث المنقول في آخر السرائر .
ويمكن أن يُقال : «الترك» من الأضداد كما صرّح به في القاموس ۴ . أو يُقال : هنا تصحيف ، والصحيح : «بذل الرعاية» بالباء والذّال المعجمة واللّام ، وفي السّاير كتاب محمّد بن إدريس الحلبي نقل هذا الحديث عن كتاب الصفواني ۵ .
وقال السيّد الأجلّ النائيني رحمه الله :
أراد ب «رواة الكتاب» : رواة القرآن، قراءةً كان أو تفسيرا وب «رعاته» : من يتفكّر فيه، ويتنبّه لمقصوده، ويعمل بمطلوبه . أو المراد برواته : رواة الفرض، أو الحكم ونقلته؛ وبرعاته : الآخذون له من مأخذه، العاملون به على وجهه .
«وكم من مستنصح» أي مستخلص للنقل عن الغشّ.
«مستغشّ للكتاب» بأحد الوجهين المذكورين. وفيه إشارة إلى أنّ استنصاح الحديث لا يستلزم رعاية الكتاب، بل يندر المقارنة .
«أحزنه» و«حزنه» كنصر : إذا جعله محزونا .
والمعنى أنّ العلماء العاملين بعلمهم يحزنهم ترْك الرعاية والتفكّر في الكتاب. والتنبّه لمقصوده، والعمل لمقصوده ۶ بمطلوبه، وفواتها عاجلاً عنهم حيث يعلمون ما في الترك من سوء العاقبة؛ وآجلاً عند ظهور الآيات والعلامات، فيحزنهم ما يترك من مقصودهم الذي هو الرعاية ، والجهّال ـ الذين لا يريدون العلم للعمل، ولا يتفكّرون في المطالب، ولا يختارون حسن العواقب ـ يحزنهم حفظ الرواية، ويصير حفظها من أسباب حزنهم؛ لاشتداد الأمر عليهم بسبب العلم والاطّلاع على الكتاب ونقله والقول به وترك التدبّر فيه والعمل به، فيحزنون بحفظها عاجلاً عند ظهور الآيات، ويحزنهم مطلوبهم من الرواية وحفظها .
والحاصل : أنّ مطلوب العلماء ممّا تركه يوجب حزنهم ويؤدّي إليه، ومطلوب الجهّال ممّا فعله والاهتمام به يوجب حزنهم ويؤدّي إليه . أو المراد بالحفظ الرعاية . [قال في القاموس : حفظ المال: رعاه] ۷ وبالرواية المرويّ، أي يحزنهم رعاية ما يروونه، كما أنّ العلماء يحزنهم ترك الرعاية .
«فراع يرعى حياته، وراع يرعى هلكته» أي فراع ـ وهو العالم ـ يرعى ويحفظ ما فيه حياته ونجاته وحسن عاقبته، وهو التدبّر والتفكّر في الكتاب والعمل بما فيه .
وراع ـ وهو الجاهل ـ يرعى ويحفظ ما فيه هلاكه وسوء عاقبته، وهو رواية الكتاب بلا تدبّر منه وعمل بما فيه. ۸ انتهى.
بيانه بقوله : «وفيه إشارة إلى أنّ استنصاح الحديث لا يستلزم رعاية الكتاب بل يندر المقارنة» بناءً على أنّ محكمات الكتاب التي ثبت أحكامها بالاتّفاق بلا احتمال منسوخيّة واحد منها مستندات للأحكام، ومراجع في الكتاب لردّ المتشابهات من السنّة إليه، والتي منها لا كذلك، فحكمها منوط بحكم المحكمات من السنّة بالاتّفاق، وقد مرّ ذكر المعالجات لمتشابهات السنّة القائمة المتواترة بتواتر الكتب وضبطها .
1.فيالكافي المطبوع: «عن عليّ بن إبراهيم».
2.في الكافي المطبوع: «الجهّال».
3.مستطرفات السرائر، ص ۱۵۰، ح ۶ .
4.القاموس المحيط، ج ۳، ص ۲۹۶ (ترك).
5.صدر العبارة إلى قوله : «تحزنهم الرواية» في الحاشية على اُصول الكافي، ص ۹۵.
6.في المصدر : - «لمقصوده».
7.ما بين المعقوفتين ليس في المصدر.
8.الحاشية على اُصول الكافي، ص ۱۷۲.