الحديث الرابع عشر
۰.روى في الكافي عن الْحُسَيْنِ بْنُ الْحَسَنِ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زَكَرِيَّا الْغَلاَبِيِّ ، عَنِ ابْنِ عَائِشَةَ الْبَصْرِيِّ رَفَعَهُ : أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام قَالَ فِي بَعْضِ خُطَبِهِ :«أَيُّهَا النَّاسُ ، اعْلَمُوا أَنَّهُ لَيْسَ بِعَاقِلٍ مَنِ انْزَعَجَ مِنْ قَوْلِ الزُّورِ فِيهِ ، وَلَا بِحَكِيمٍ مَنْ رَضِيَ بِثَنَاءِ الْجَاهِلِ عَلَيْهِ؛ النَّاسُ أَبْنَاءُ مَا يُحْسِنُونَ ، وَقَدْرُ كُلِّ امْرِئٍ مَا يُحْسِنُ ، فَتَكَلَّمُوا فِي الْعِلْمِ؛ تَبَيَّنْ أَقْدَارُكُمْ» .
هديّة :
(الغلابي) بالمعجمة والمفردة : نسبة إلى بني غلاب ـ كسَحاب ـ قبيلة بالبصرة ، و(محمّد بن زكريا الغلابي )مولاهم؛ ذكره العلّامة ـ طاب ثراه ـ في كتابي الخلاصة والإيضاح ۱ .
و «الانزعاج» : الانقلاع عن المكان، والقلق والاضطراب.
و «الزّور» : الكذب والباطل والبهتان.
يعني : لا يغتمّ العاقل (من قول الزور فيه)؛ لأنّ الربّ الديّان المُجازي بالعدل الذي لا يعزب عنه مثقال ذرّة في الأرض ولا في السماء ۲ ، حكم بين كلّ ظالم ومظلوم، وكلّ مفتر ومبرّاءٍ.
(ولا بحكيمٍ مَن رضي بثناء الجاهل عليه) أي على فعله المذموم عند العقلاء، أو لمسرّته من الثناء وإن كان على مكرمة لا تكون فيه، وكلاهما ينافي الحكمة.
«الناس أبناء ما يحسنون» على المعلوم من الأفعال؛ أي يحبّونه كما يحبّون آبائهم ، إنّ «كُلُّ حِزْبِ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ»۳ يقال : أحسن الشيء، أي تعلّمه : فَعَلِمَه حسنا.
و(العلم) من معاني الإحسان ، فمعنى «وقدر كلٌّ امرى ءٍ ما يحسن» : ما يعلمه حسنا .
قال أمير المؤمنين عليه السلام :
الناس من جهة التمثال أكفّاءأبوهم آدم والاُمّ حوّاء
لا فضل إلّا لأهل العلم أنّهمعلى الهدى لمن استهدى أدلّاء
وقيمة المرء ما قد كان يحسنهوالجاهلون لأهل العلم أعداء
فقم بعلمٍ ولا تبغ له بدلاًفالناس موتى وأهل العلم أحياء۴
(تبيّن) بحذف إحدى التائين جُزِم في جواب الأمر، وقد مرّ مرارا أنّ المراد من العلم ما هو المأخوذ عن الحجّة المعصوم العاقل عن اللّه سبحانه .
قال برهان الفضلاء سلّمه اللّه تعالى : «ليس بعاقل من انزعج من قول الزور فيه»؛ لأنّ قول الزور قيل في اللّه وفي حججه ، فالانزعاج والانقلاع من المكان منه نوع من التكبّر، وهو علامة الجهل.
«ولا بحكيم من رضى بثناء الجاهل عليه» أي بالثناء الصدق، والرضا بصدوره عن الجاهل بظنّه الميل إلى الجاهل ، فينبغي الاحتراز عنه .
و«الأبناء» هنا استعارة لجماعة يُعرفون بشيء كما يُعرف الأبناء بالآباء . و«ما» موصولة ومضاف إليه . و«الإحسان» بمعنى كثرة الممارسة لفعل وإيقاعه حسنا .
و«في» في «فيالعلم» للتعليل. وتعريف «العلم» للعهد الخارجي، يعني العلم بمحكمات الآيات البيّنات ، أو المراد علم الدِّين.
و«تبيّن» على المضارع المعلوم للغائبة من باب التفعّل بحذف إحدى التائين، ومجزوم بالأمر . و«أقداركم» مرفوع وفاعل .
وقال السيّد الأجلّ النائيني رحمه الله :
«ليس بعاقل من انزعج» أي من قلق وخرج عن مكانه من «قول الزور» أي الكذب والميل عن الحقّ مدحا كان أو ذمّا «فيه» أو في عدوّه؛ لأنّه إذا كان فيه كمال ونفاه الكاذب، لم يحصل له به منقصة، ولم يحصل للنّافي إلّا منقصة واستحقاق للعذاب، وإذا كان فيه منقصة لم يحصل له بإثبات الكمال من الكاذب الكمالُ، ولم يدفع ۵ به عنه منقصة ، وكذا في عدوّه ، والعقل يمنع من الانزعاج بما يحكم بعدم ضرّه، وبما يحكم بعدم نفعه.
«ولا بحكيم من رضى بثناء الجاهل عليه» لأنّ الحكيم عارف بأسباب الأشياء ومسبّباتها، ويعرف أنّ التخالف وعدم التناسب يوجب التنافر في الطبائع، وأنّ الجاهل لا يميل إلّا إلى مشاكله، فلا يثني إلّا على الجاهل، أو من يعتقد جهله ومناسبته له، أو من يستهزئ به باعتقاده، أو من يريد أن يخدعه ، والحكيم لا يرضى بشيء من ذلك، والحكمة لا يجامع الرضا بثناء الجاهل، والعقل لا يجامع الانزعاج من قول الزور، وبالرضا يعرف انتفاء الحكمة، وبالانزعاج انتفاء العقل .
«الناس أبناء ما يحسنون» أي ينبغي أن يكون افتخار الناس بما يعلمون ۶ ، وهو يُحسن الشيء إحسانا، أي يعلمه ، والشائع افتخار الأبناء بآبائهم ۷ ، أو المراد أنّه كما أنّ نظام حال الابن وصلاحه بالأب، كذا نظام حال الناس وصلاحهم بما يعلمونه ۸ .
1.خلاصة الأقوال، ص ۲۵۹، الرقم ۱۰۴؛ إيضاح الاشتباه، ص ۲۵۷، الرقم ۶۱۱ .
2.اقتباس من الآية : ۶۱ من سورة يونس (۱۰).
3.المؤمنون (۲۳) : ۵۳ ؛ الروم (۳۰) : ۳۲.
4.ديوان الإمام عليّ، ص ۲۴.
5.في المصدر : «يرفع».
6.في المصدر : «بما يحسنون، أي يعملون».
7.في المصدر : + «فهم أبناء مايعلمون، أي ينبغي أن يكون افتخارهم به».
8.الحاشية على اُصول الكافي، ص ۱۷۷ ـ ۱۷۸.