هديّة :
هذا الخبر رواه الشيخ رحمه الله أيضا في التهذيب تارةً بهذا الإسناد ۱ ، واُخرى باُخرى ۲ ، كما في الكافي في كتاب القضاء ۳ . وذكر في الكافي هناك مكان محمّد بن الحسين : محمّد بن الحسن ، وفي التهذيب : محمّد بن الحسن بن ميمون أو شمّون . ورواه الصدوق رحمه اللهأيضا في الفقيه، عن داود بن الحصين، عن عمر بن حنظلة عن أبي عبداللّه عليه السلام قال : قلت في رجلين اختار كلّ واحدٍ منهما رجلاً ۴ . الحديث.
(في دين) بفتح الدال.
«التحاكم إلى السلطان» : رفع أمره إليه . والمراد هنا : السلطان الغير الإمامي وقضاة المخالفين، وفي حكمهم في هذا فسّاق قضاة الإماميّة وكلّ حاكم مرتشٍ يحكم على المحقّ.
ولا بأس على حامل المتخاصمين على الصلح، أو العفو، أو الإبراء أو نحو ذلك .
و(الطاغوت) : مبالغة في الطاغي، أو الطغيان، وهو الشيطان وكلّ رئيس طاغٍ.
(وما يحكم له) على المعلوم أو خلافه .
و«السّحت» بالضمّ وبضمّتين : الحرام، وما خبث من المكاسب .
وآية : «يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّـغُوتِ» في سورة النساء ۵ .
وفي الحديث قال أمير المؤمنين عليه السلام : «كلّ حَكَمٍ حكمَ بغير قولنا أهل البيت فهو طاغوت » ۶ ثمّ قرأ هذه الآية.
و«الكفر بالطّاغوت» : التبرّي منه، والقطع بأنّه ليس أهلاً للتحاكم إليه.
ولا خلاف أنّ المحقّ الإمامي ـ سواء كان خصمه إماميّا أو لا ـ حكمه ذلك مع الإمكان والاختيار ، وأمّا إذا اضطرّ ـ وهو على نفسه بصيرة ـ فلا .
وكذا لا خلاف في أنّ الحَكَم العدل الإماميّ إذا اضطرّ إلى أخذ حقّ المحقّ بقوّة الجائر ولا يمكنه التوقّف جاز له ذلك .
(قال : ينظران) من المجرّد أو الإفعال؛ أي يجعلان ناظرا في أمرهما.
(من كان منكم) من عدول رواة أحاديث أهل البيت عليهم السلام عارفا بالحلال والحرام وسائر أحكام الدِّين.
(فليرضوا) على الغيبة؛ أي الشيعة.
في بعض النسخ : «واختلفا فيما حكما، وكلاهما اختلف في حديثكم» مكان (واختلفا في حديثكم ) ۷ .
والمراد ب (المجمع عليه) هنا : المشهور، بمعنى المتّفق عليه من أكثر الأصحاب، لا المجمع عليه المصطلح عليه اليوم بين أصحابنا ، والكلام في الحديث وروايته لا القول والإفتاء، ولذا قال عليه السلام ۸ : (ويترك الشاذّ الذي ليس بمشهور عند أصحابك) .
ومن إفادات الشهيد الثاني في شرح درايته :
أنّ المراد بالشهرة في الخبرين : شهرة الحديث الكائنة بين قدماء أصحابنا الإخباريّين الذين لا يتعدّون النصّ في شيء من الأحكام دون شهرة القول الحادثة بين المتأخّرين من أهل الرأي والتخمين ۹ .
(فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه) يعني إذا لم يعارضه المجمع عليه المصطلح عليه عند المتأخّرين . وفي رواية زرارة رواها محمّد بن عليّ بن إبراهيم بن أبي جمهور اللحسائي ۱۰ في كتاب عوالي اللآلي، عن العلّامة الحلّي قدس سرهمرفوعا إلى زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال : سألته فقلت : جُعلت فداك، يأتي عنكم الخبران أو الحديثان المتعارضان، فبأيّهما آخذ؟ فقال عليه السلام : «يا زرارة، خُذ بما اشتهر بين أصحابك، ودع الشاذّ النادر ». فقلت : يا سيّدي، إنّهما مشهوران مرويّان مأثوران عنكم ، فقال : «خُذ بما يقول أعدلهما عندك وأوثقهما في نفسك ». فقلت : إنّهما معا عدلان مرضيّان موثّقان ، فقال : «انظر إلى ما وافق منهما مذاهب ۱۱ العامّة فاتركه وخُذ بما خالفهم، فإنّ الحقّ فيما خالفهم». قلت : ربما كانا معا موافقين لها ۱۲ أو مخالفين، فكيف أصنع؟ فقال : «إذن فخذ فيه الحائطة ۱۳ لدينك واترك ماخالف الاحتياط». فقلت : إنّهما معا موافقان ۱۴ للاحتياط أو مخالفان له، فكيف أصنع؟ فقال : «إذن فتخيّر أحدهما فتأخذ به وتدع الآخر» ۱۵ .
«فتخيّر» على الخطاب المعلوم من التفعيل؛ أي من باب التسليم .
والأخبار كثيرة في هذا المعنى؛ ففي بعضها : «وما لم تجدوه في شيء من هذه الوجوه فردّوا إلينا علمه، فنحن أولى بذلك، ولا تقولوا فيه بآرائكم ، وعليكم بالكفّ والتثبّت والوقوف وأنتم طالبون باحثون حتّى يأتيكم البيان من عندنا » ۱۶
.
ولا يخفى عدم المنافاة بين وجوب التوقّف عند الاشتباه مع الإمكان بحيث لا يلزم منه حرج، وبين العمل بإحدى المعالجات المعهودة المضبوطة عنهم عليهم السلام مع الاضطرار في زمن الغيبة، كالتخيير في العمل من باب التسليم. وليس هذا الحكم والفتوى بأنّه حكم اللّه في الواقع، بل مداواة عنهم عليهم السلام لِعِلَّة الاضطرار ولزوم الحرج.
(وإنّما الاُمور ثلاثة أمرٌ بيِّن رشده) لأنّه مجمعٌ عليه بين أصحابنا ولو بمعنى المشهور المذكور ، وكذا الأمر الثاني .
(وأمرٌ مشكل) أي غير مشهور حكمه، فضلاً عن كونه مجمعا عليه بالمعنى الاصطلاحي.
(يردّ علمه إلى اللّه وإلى رسوله صلى الله عليه و آله ) أي بعرْضه على محكمات الكتاب والسنّة وسائر المعالجات المعهودة عنهم عليهم السلام .
(ومن أخذ بالشبهات) أي بالرأي والتخمين ، من دون التوقّف أو المعالجة المعهودة (ارتكب المحرّمات وهلك من حيث لا يعلم).
(فإن كان الخبران عنكما مشهورين) في بعض النسخ : «عنكم» مكان «عنكما» وهو الظاهر. وفي بعض آخر «عنهما». ۱۷
والمعنى على الأكثر عن الإثنين من أهل البيت عليهم السلام .
ولا منافاة بين المستفاد من الأخبار السابقة الدالّة على وجوب الأخذ بما ورد عنهم عليهم السلام على التقيّة، وبين حكم أمثال هذا الخبر من وجوب ترك ما وافق العامّة؛ لأنّ ذلك إنّما هو في العمل، وهذا في العلم والاعتقاد بأنّه حقّ وإن كان قد يجب العمل بخلافه تقيّة .
(قلت : جعلت فداك، أرأيت إن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب والسنّة) أي عرفا حكمه بحمل كلّ واحد منهما حكم الكتاب الذي محكم ومتشابه معا باعتبارين مثل : «فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ»۱۸ على ما يوافق حكم الخبر الذي عنده .
قال الشيخ أبو علي الطبرسي رحمه الله في كتاب الاحتجاج بعد نقل هذا الحديث :
جاء هذا الخبر على سبيل التقدير؛ لأنّه قلّما يتّفق في الآثار أن يرد خبران مختلفان في حكمٍ من الأحكام، موافقين للكتاب والسنّة، وذلك مثل الحكم في غسل الوجه واليدين في الوضوء، فإنّ الأخبار جاءت بغسلها ۱۹ مرّة مرّة وبغسلها مرّتين ، وظاهر القرآن لا يقتضي خلاف ذلك ، بل يحتمل تلك الروايتين، ومثل ذلك يوجد ۲۰ في أحكام الشرع . ۲۱
وقرأ برهان الفضلاء سلّمه اللّه تعالى : «عزفا حكمه» بالزاي على ما لم يسمّ فاعله، من «العزف» بمعنى المنع، وسنحكيه في نقل بيانه هنا، إن شاء اللّه تعالى .
الجواهري : «عزفت نفسي عن الشيء عزوفا» كضرب ونصر : زهدت فيه وانصرفت عنه. ۲۲
(فإن وافقها الخبران جميعا) أي العامّة . وفي بعض النسخ : «وافقهما» أي طائفتين من العامّة.
(فارجه حتّى تلقى إمامك) أي فأخّره وقِفْ .
قال الشيخ أبو عليّ الطبرسي رحمه الله في كتاب الاحتجاج :
وأمّا قوله عليه السلام للسائل : «أرجه وقِف حتّى تلقى إمامك» أمره بذلك عند تمكّنه من الوصول إلى الإمام ، فأمّا إذا كان غائبا ولا يتمكّن من الوصول إليه والأصحاب كلّهم مجمعون على الخبرين ولم يكن هناك رجحان لرواة أحدهما على رواة الآخر بالكثرة والعدالة، كان الحكم بهما من باب التخيير. يدلّ عليه ما روي عن الحسن بن الجهم عن الرِّضا عليه السلام قال : قلت له : يجيئنا الأحاديث عنكم مختلفة ، قال : «ما جاءك عنّا فاعرضه ۲۳ على كتاب اللّه تعالى وأحاديثنا، فإن كان يشبههما فهو منّا وإن لم يشبههما فليس منّا » قلت : يجيئان الرجلان ـ وكلاهما ثقة ـ بحديثين مختلفين، فلا نعلم أيّهما الحقّ؟ فقال : «إذا لم تعلم فموسّع عليك حتّى ترى القائم عليه السلام فتردّ إليه ». ۲۴
وقال ثقة الإسلام في أوائل الكافي :
يا أخي أرشدك اللّه أنّه لا يسع أحدا تمييز شيء ممّا اختلف الرواية فيه عن العلماء عليهم السلام برأيه إلّا على ما أطلقه العالم عليه السلام بقوله : «اعرضوها على كتاب اللّه فما وافق كتاب اللّه عزّوجلّ فخذوه، وما خالف كتاب اللّه فردّوه» . وقوله عليه السلام : «دعوا ما وافق القوم فإنّ الرُّشد في خلافهم ». وقوله عليه السلام : «خذوا بالمجمع عليه، فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه ». ونحن لا نعرف من جميع ذلك إلّا أقلّه، ولا نجدّ شيئا أحوط ولا أوسع من ردّ علم ذلك كلّه إلى العالم عليه السلام وقبول ما وسّع من الأمر فيه بقوله عليه السلام : «بأيّما أخذتم من باب التسليم وسعكم». ۲۵
«ولا نجد شيئا» إلى آخره، معناه أنّ الواجب علينا حينئذٍ التوقّف إن أمكن، وإلّا فالتخيير من باب التسليم في العمل دون الإفتاء والحكم القطعي بأنّه حكم اللّه الواقعي .
قال برهان الفضلاء سلّمه اللّه تعالى :
تسمّى هذه الرواية بمقبولة عمر بن حنظلة؛ لقبول جميع الأصحاب إيّاها، وكونها مدارا لعملهم في المتشابهات . وحاصلها : أنّ العمل بواحد من الخبرين المختلفين الصحيحين إنّما هو فيما فيه التنازع، لا فيما لا يكون فيه ذلك، وليس للفقيه اختيار أصلاً فيما فيه التنازع، بل له أن يرجّح العمل بواحدِ منهما بواحدٍ من الأسباب الستّة للترجيح على الترتيب الذي يذكر هنا ، فإن لم يمكن بشيء منها يجب التوقّف، ولا اختيار لأحد فيما لا نزاع فيه كما مرّ في الثامن والتاسع من هذا الباب .
و«الدَّين» : المال في الذمّة بأجلٍ معيّن، فإذا كان بلا أجل معيّن فهو قرض .
و«الطاغوت» : الشيطان. والمراد هنا من كان مطاعا في باطله كالشيطان، كالحاكم في المسائل الدينيّة بظنّه .
و«السّحت» : الرشوة . والمراد هنا الحرام الشبيه بالرشوة في عقابها ونكالها .
«قال : يُنظران» على المعلوم من الإنظار، أي يجعلان ناظرا في أمرهما من كان متّصفا بأوصاف أربعة :
الأوّل : أن يكون من عدول المؤمنين، وبهذا أشار بقوله عليه السلام : «من كان منكم ».
الثاني : أن يكون مكثرا من تتبّع أحاديث أهل البيت عليهم السلام وبهذا أشار بقوله : «ممّن قد روى حديثنا ». والرواية في الأصل : الإكثار من أخذ الماء، ومنه الراوية للكبير من القِرَب. ووجه الشبه في استعمال الرواية في الإكثار من نقل الحديث المُحيي للقلوب ، والراوية لمكثره ظاهر .
الثالث : أن يكون من المتدبّرين في معاني الأحاديث في الحلال والحرام بحيث يعرف أنّ القضيّة المتنازع فيها متفرّعة على أي حديث منها؛ إذ بقلّة التدبّر فيها يحصل الاشتباه كثيرا ، وبهذا أشار بقوله : «ونظر في حلالنا وحرامنا ».
الرابع : أن يكون عارفا بأنّ جميع أحاديث الأئمّة عليهم السلام حقّ لا ريبَ فيه وإن كان بعضها على التقيّة، أو لمصلحة اُخرى، وبهذا أشار بقوله : «وعرف أحكامنا ».
وقوله : «وهو على حدّ الشرك باللّه » يعني وهو فوق مرتبة الشرك : إذ المشرك يقبل حكم اللّه مع حكم من أخذه شريكا له سبحانه، وتركُ ما أمر اللّه به استكبارا أسوء من الشرك كما يجيء في كتاب الإيمان والكفر في الثاني عشر من باب الكفر.
أو المعنى، وهو في مرتبة الشرك.
في قوله : «قلت : فإن كان كلّ واحد اختار رجلاً من أصحابنا ـ إلى قوله ـ : ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر» بيان أربعة ـ على الترتيب ـ من الوجوه الستّة لترجيح أحد الحديثين الصحيحين المختلفين على الآخر فيما فيه التنازع.
ويتوهّم في قوله : «قال : قلت : فإنّهما عدلان مرضيّان ـ إلى قوله ـ : وهلك من حيث لا يعلم» أنّ فيه بيان الوجه الخامس من وجوه الترجيح، وليس كذلك، بل فيه بيان أنّ الترجيح المذكور هنا اُحيل إلى ما ذكر؛ فإنّ بعد معرفة ما ذكر لا إشكال هنا، وبيان الترجيح الخامس إنّما هو في قوله : «قلت : فإن كان الخبران عنكما ـ إلى قوله ـ : ففيه الرّشاد ».
و في بعض النسخ : «عنكم» مكان «عنكما ».
و«العزف» بفتح المهملة وسكون المعجمة : المنع . والمعنى: إن كانا ممنوعين من الحكم من الكتاب والسنّة .
وفي قوله : «فقلت : جعلت فداك، فإن وافقها الخبران جميعا ـ إلى قوله ـ : فيترك ويؤخذ بالآخر» بيان الوجه السادس من وجوه الترجيح .
وفي بعض النسخ : «فإن وافقهما» بضمير التثنية لطائفتين من العامّة .
و«الاقتحام» : الدخول في الشيء من غير رويّة .
وقال الفاضل الاسترآبادي رحمه الله :
هذا الحديث وحديث أبي سعيد الزهري المتقدّم يدلّان على وجوب التوقّف عند تعادل الحديثين المتعارضين، وبعض الأحاديث المتقدّمة كان صريحا في التخيير في العمل بأيّهما شاء ، ويمكن الجمع بينهما بحمل التخيير على واقعة لم تكن متعلّقة بحقوق الآدميّين، وحمل وجوب التوقّف على واقعة تكون كذلك .
ثمّ قال : أقول : هذا الحديث وحديث أبي سعيد الزهري المتقدّم في باب النوادر، وحديث سماعة المتقدّم تدلّ على وجوب التوقّف عند تعادل الحديثين المتناقضين، وبعض الأحاديث المتقدّمة كان صريحا في التوسعة؛ أي التخيير في العمل من جهة التسليم . ويمكن الجمع بينهما بحمل التخيير على واقعة لم تكن متعلّقة بحقوق الآدميّين كالوضوء والصلاة، وحمل وجوب التوقّف على واقعة متعلّقة بحقوق الآدميّين كدَيْنٍ أو ميراث . ومعنى قوله عليه السلام : «من جهة التسليم» من باب تسليم أمرِنا ووجوب طاعتنا على الرعيّة، لا من باب ما اشتهر بين أهل الرأي ـ أي الاجتهاد الظنّي ـ من تخيير المجتهد في العمل عند تعادل الأمارتين، وتخيير المقلّد كذلك، فإنّ لهم حينئذٍ قولين : أحدهما التخيير، والآخر التوقّف . ۲۶
وقال السيّد الأجلّ النائيني رحمه الله :
«بينهما منازعة في دين أو ميراث» ذكر الدَّين والميراث إمّا على سبيل التمثيل. والمراد المنازعة مطلقا، أو المراد السؤال عن المنازعة في الدين أو الميراث، أي النزاع في الوارثيّة، أو في قدر الإرث في غير المجمع عليه بين المسلمين، أو في ثبوت الإرث بحصول ظنّ الحاكم به بإقامة الشهود مع عدم علم المدّعي؛ ففي جميع هذه الصور لا يجوز الأخذ بحكم الجائر، ويكون المأخوذ حراما، بخلاف الأعيان ومنافعها مع علم المدّعي؛ فإنّه وإن حرّم الأخذ بحكم الجائر لكن لا يحرم المأخوذ الذي هو حقّه المعلوم له عليه، وحرمة المأخوذ في تلْك الصور لا ينافي صحّة المقاصّة في الدَّين المعلوم ثبوته وحقّيّته له . والمعنيّ بحرمة ۲۷ المأخوذ : كونه غير جائز التصرّف فيه بعد الأخذ، وبحرمة الأخذ : عدم جواز إزالة يد المدّعى عليه واستقرار اليد عليه.
«فتحاكما إلى السلطان وإلى القضاة» أي السلطان الجائر وقُضاته.
«في حقّ أو باطل» يحتمل العموم والشمول للأعيان والديون والمواريث وغيرها.
«فإنّما يأخذ سحتا» إن حمل على أنّه يأخذ أخذا سحتا؛ أي حراما ، فعلى عمومه، وإن حمل على أنّه يأخذ مالاً سحتا، أي حراما عليه أن يتصرّف فيه، فمخصّص بما لا يكون المدّعي به عينا معلوم الحقّيّة للمدّعي، فإنّ له التصرّف في المأخوذ حينئذٍ، بخلاف ما إذا كان ثابت الحقّيّة عنده بحكم الحاكم، أو مظنون الحقّيّة، أو مشكوكها وكان ۲۸ المدّعى به دَينا، فالاستحقاق في العين والتعيين في الدّين بحكم الطاغوت لا يوجب جواز التصرّف.
«من كان منكم ممّن قد روى حديثنا» اعتبر في المتحاكم إليه ـ بعد كونه على طريقة النجاة وسبيل الحقّ والرشاد، آخذا ۲۹ من روايات أهل البيت عليهم السلام ـ كونه ۳۰ ناظرا في حلالها، وحرامها، عارفا بالأحكام التي يستنبط منها. والموصوف بهذه الصفات هو المعبّر عنه بالفقيه عند السلف، وبالمجتهد في هذه الأعصار عند الإماميّة، وإن كان المجتهد في العصر الأوّل بينهم مستعملاً في العامل بالقياس والرأي ، ولذلك منعوا عن الاجتهاد . فالمجتهد عبارة عن العارف بالأحكام الشرعيّة الفرعيّة معرفةً مستندة إلى النظر في الحلال والحرام على ما في الأدلّة من الكتاب والروايات والأحاديث بعد الجمع والترجيح .
وفي قوله : «وعرف أحكامنا» دلالة إلى بلوغه مرتبةَ معرفةِ جميع الأحكام، والقدر ۳۱ المعتدّ به بحسب الوسع معرفةً بالفعل، أو بالقوّة القريبة منها ۳۲ بحيث يصحّ إطلاق المعرفة عليه . وتلك المعرفة يحصل بعد الفطنة القويمة، وبعد العلم بأساليب الكلام بممارسته ملاحظة الأحاديث، ونهج بيانهم للأحكام، وملازمة العلماء ذوي البصائر والاستمداد منهم .
وقد سعى السلف في جميع ما يستمدّ به في معرفة أساليب الكلام ومعانيها وترجيح الأخبار وجمعها ـ شكر اللّه مساعيهم، وجزاهم أحسن الجزاء ـ ولكن لا يغني ما أتوا به من تلك الممارسة والملازمة، فلا يعتمد قبلهما على تحدّسه بالمراد. وإذا حصل له تلك المعرفة اطّلع من جانب اللّه بإلهام وإعلام على جواز عمله بما يفهمه من الروايات. ذلك فضل اللّه يؤتيه من يشاء .
وأمّا القاصرون من المتزاولين لأقوال الفقهاء المكابرين مع العلماء الممارين للسفهاء فيضلّون عن السبيل بادّعاء ما ليس لهم والدخول فيما حُظر عليهم، ولا ينتفعون بمساعيهم، فما هم إلّا كباسط كفّيه إلى الماء، وليس ببالغٍ فاه، ويضلّون الناس ويحسبون أنّهم يحسنون صنعا . أعاذنا اللّه من فتنهم ۳۳ والتصنّع بصنعتهم ، وهدانا اللّه إلى اتّباع المهتدين من عباده الهادين إلى سبيل الرّشاد.
«والرادّ على اللّه على حدّ الشرك باللّه » أي على مرتبة من الضلالة لا مرتبة فيها أشدّ منها، والمرتبة المتجاوزة منها مرتبة الشرك باللّه ؛ لأنّه بردّه على اللّه يخرج من الإيمان، وباستخفافه بحكم اللّه يخرج عن التحافظ على الإسلام والانقياد الظاهري، فلم يبق له إلّا الإسلام الضعيف الغير المتحافظ عليه وحفظ الدّم والمال به، والمرتبة التي بعدها الشرك باللّه ، فيخرج من انحفاظهما لا بجزية لأهل الذمّة من المشركين.
«الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث» أي من يكون حديثه أصحّ من حديث الآخر بأن ينقله من أعدل أو أكثر من العدول أو الثقات.
وظاهر هذه العبارة الحكم بترجيح حكم الراجح في الصفات الأربع جميعها . ويحتمل الترجيح بحسب الرجحان في واحدة من الأربع أيّها كانت .
وعلى الأوّل يكون حكم الرجحان بحسب بعضها دون بعض مسكوتا عنه.
[وعلى الثاني يكون حكم تعارض الرجحان في بعضٍ منها للرجحان في بعض آخر مسكوتا عنه.] ۳۴
والاستدلال على الأولويّة والرجحان بالترتيب الذكري ضعيف . والمراد أنّ الحكم الذي يجب قبوله من الحكمين المذكورين حكم الموصوف بما ذكر من الصفات الأربع، ويفهم منه وجوب اختياره لأن يتحاكم إليه ابتداءًا، وأنّ ترجيح الأفضل لازم في الصور المسكوت عنها . ومن هاهنا ابتدأ في الوجوه المعتبرة للترجيح في القول والفُتيا .
«قال: قلت : فإنّهما عدلان مرضيّان» أي فإنّ راويين ۳۵ لحديثكم العارفَين بأحكامكم عدلان مرضيّان، لا يفضّل واحد منهما على صاحبه في شيء من الصفات المذكورة، فإذا كان كذلك فبحكم أيّهما يؤخذ؟
فأجاب عليه السلام وبيّن له وجها آخر للترجيح بقوله : «ينظر إلى ما كان من روايتهم عنّا في ذلك الذي حَكَما بِه، المجمع عليه من أصحابك؛ أي المشهور روايته بين أصحابك «فيؤخذ» بأشهرهما روايةً، «ويترك الشاذّ الذي ليس بمشهور عند أصحابك، فإنّ المجمع عليه»؛ أي المشهور في الرواية لا ريب فيه.
وفي قوله : «لا ريب فيه» إشارة إلى أنّ المناط غلبة الظنّ بصحّة الرواية، واستناد الحكم بالرواية الصحيحة .
والمراد ب «البيّن رشده» : الظاهر حقّيّته؛ لغلبة الظنّ أو العلم بصحّة الرواية المتضمّنة له، أو دلالة الكتاب عليه .
وب «البيّن غيّه» : الظاهر بطلانه؛ لغلبة الظنّ أو العلم بصحّة الرواية المتضمّنة له، أو دلالة الكتاب عليه .
والأمر المشكل : ما لا يغلب الظنّ بحقّيّته أو بطلانه فضلاً عن العلم من أدلّته من الكتاب والسنّة؛ لعدم وضوح دلالة الكتاب وصحّة الحديث، أو دلالته ، فهذا لا يحكم فيه ولا يفتى، «بل يرد علمه إلى اللّه وإلى الرسول صلى الله عليه و آله ».
«فمن ترك الشبهات» إلى آخره، أعمّ مأخذا ممّا ذكره عليه السلام بقوله : «يردّ علمه إلى اللّه »؛ لشموله العمل، واختصاصِ ذلك بالحكم والفُتيا.
«فمن ترك الشبهات» أي فُتيا وحكما وعملاً «نجا من المحرّمات»؛ فإنّ الفُتيا بالمشتبه حرام، وكذا الحكم به، وكذا العمل به على أنّه مطلوب .
«ومن أخذ بالشبهات» فُتيا أو حكما أو عملاً «ارتكب المحرّمات، وهلك من حيث لا يعلم»؛ لأنّه حينئذٍ متعبّد لهواه وللشيطان، وهو على حدّ الشرك باللّه .
وفي «فمن ترك الشبهات نجا من المحرّمات» دلالة على فضل ترك ما هو مشتبه الحرمة.
وإن كان الخبران عنكما مشهورين» الظاهر أنّ المراد ب «الخبران» عن الصادق والباقر عليهماالسلاموالخطاب للصادق وأبيه عليهماالسلام . وتخصيصهما بالذِّكر والخطاب؛ لاشتهار الروايات عنهما، وشيوعِ الأخذ عن أهل البيت في زمانهما دون السابقين؛ لشدّة التقيّة حينئذٍ، وتعلّقِ الأغراض بالأخذ عن غيرهم وتركهم.
وإذا كان الخبران مشهورين غلب الظنّ بصحّتهما، فلا يخلوان من موافقة الكتاب والسنّة، أو موافقة العامّة للتقيّة، فيكون أحدهما موافقا للكتاب والسنّة، والآخر موافقا للعامّة وآرائهم، فيؤخذ بالموافق لهما ويترك الموافق للعامّة .
والمراد بموافقة الكتاب والسنّة : احتماله الدخول في المراد من الكتاب والسنّة الثابتة، والكون من محاملهما .
«أرأيت إن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب والسنّة» أي وجد كلّ منهما ما حكم به موافقا للكتاب والسنّة، وكان أحد الخبرين موافقا للعامّة والآخر مخالفا لهم، فالترجيح للمخالف للعامّة؛ فإنّه جمع بحمل الموافق للمخالف على التقيّة.
«فإن وافقها الخبران جميعا» أي وافق كلّ خبر بعضا من العامّة.
«ينظر إلى ما هم أميل، حكّامهم وقضاتهم» أي ينظر إلى ما حكّامهم وقضاتهم إليه أميل. و«حكّامهم» بدل من الضمير المنفصل في «ما هم». ويترك الموافق لهم ومختارهم؛ لكونه أولى بالتقيّة، ويؤخذ ويفتى ويحكم بالذي لا يميل إليه حكّامهم وقضاتهم.
«فإن وافق حكّامهم الخبرين» أي كان ميل الحكّام إلى ما في الخبرين من الحكم سواءً، ولا يكونون إلى أحدهما أميل.
«وأرجه» أي أخّر الفُتيا والحكم بما في أحدهما، ولا تُفْت ولا تحكم بأحدهما «حتّى تلقى إمامك، فإنّ الوقوف عند الشبهات» وترك الفُتيا والحكم فيها بترجيح أحد الطرفين مع الاشتباه «خيرٌ من الاقتحام» والدّخول «في الهلكات» بالترجيح والفتوى والحكم من غير مرجّح.
و«الهلكات» : جمع هلكة ـ محرّكة ـ بمعنى الهلاك . والمراد الدخول في الضلال وما يوجب العقاب والنكال . عصمنا اللّه بلطفه عن الاقتحام فيما يوجب سخطه، وصلّى اللّه على محمّد وآله المعصومين . ۳۶
1.التهذيب، ج ۶ ، ص ۲۱۸، ح ۵۱۴ ، إلى قوله : «على حدّ الشرك باللّه عزّوجلّ».
2.التهذيب، ج ۶ ، ص ۳۰۱، ح ۸۴۵ .
3.الكافي، كتاب القضاء والأحكام، باب كراهية الارتفاع إلى قضاة الجور، ح ۱۴۶۱۶، إلى قوله: «على حدّ الشرك باللّه عزّوجلّ».
4.الفقيه، ج ۳، ص ۸ ، ح ۳۲۳۳.
5.النساء (۴) : ۶۰ .
6.دعائم الإسلام، ج ۲، ص ۵۳ ، ح ۱۸۸۳؛ وعنه في المستدرك، ج ۱۷، ص ۲۴۴، ح ۲۱۲۴۰.
7.كذا في المخطوطين، ولعلّ الصحيح هكذا : «وفي بعض النسخ : وكلاهما اختلف في حديثكم» مكان «وكلاهما اختلفا في حديثكم».
8.في «ب» و «ج»: - «ولذا قال عليه السلام ».
9.راجع: شرح الدراية المطبوع ضمن رسائل في دراية الحديث، ج ۱، ص ۱۸۰ ، وفيه : «المشهور : وهو ما شاع عند أهل الحديث، بأن نقله رواة كثيرون...». وما حكاه المصنّف نقلاً عن الشهيد الثاني ليس بتمامه من كلام الشهيد قدس سره، بل من كلام صاحب الوافي. راجع : الوافي، ج ۱، ص ۲۹۲.
10.كذا في جميع النسخ، والمشهور : «الأحسائي». وفي خاتمة المستدرك، ج ۱، ص ۳۳۴، نقلاً عن الرياض في باب الكنى : «أبي جمهور اللحساوي... ويقال تارة : الأحسائي، واللحسائي».
11.في المصدر : «مذهب».
12.في المصدر : «لهم».
13.في «الف»: «الحائط».
14.في المصدر : «مواف۲ض وكذا : «مخالفين».
15.عوالي اللآلي، ج ۴، ص ۱۳۳، ح ۲۲۹؛ وعنه في المستدرك، ج ۱۷، ص ۳۰۳، ح ۲۱۴۱۳.
16.عيون أخبار الرضا، ج ۲، ص ۲۴، باب ماجاء عن الرضا عليه السلام ، من الأخبار المنثورة، ح ۴۵؛ وعنه في البحار، ج ۲، ص ۲۳۳، ح ۱۵ .
17.في «ب» و «ج»: - «من دون التوقّف... وفي بعض آخر عنهما».
18.المائدة (۵) : ۶ .
19.في المصدر في الموضعين : «بغسلهما».
20.في المصدر : «يؤخذ».
21.الاحتجاج، ج ۲، ص ۱۰۸، باب احتجاج أبي عبداللّه عليه السلام في أنواع شتّى من... .
22.الصحاح، ج ۴، ص ۱۴۰۳ (عزف).
23.في المصدر: «فقسه».
24.الاحتجاج، ج ۲، ص ۱۰۹، باب احتجاج أبي عبداللّه عليه السلام في أنواع شتّى من... .
25.الكافي، ج ۱، ص ۸ و ۹ .
26.الحاشية على اُصول الكافي، ص ۹۸ ـ ۹۹.
27.في جميع النسخ : «لحرمة» وما أثبتناه من المصدر.
28.في المصدر : «أو كان».
29.في المصدر : «كونه آخذا».
30.في المصدر : - «كونه».
31.في المصدر: «أو القدر».
32.في المصدر : «منه».
33.في «ب» و «ج»: «فتنتهم».
34.ما بين المعقوفتين أضفناه من المصدر.
35.في المصدر : «الراويين».
36.الحاشية على اُصول الكافي، ص ۲۲۲ ـ ۲۳۰.