المقدّمة السادسة:
نظير تصريح ثقة الإسلام أبو جعفر محمّد بن يعقوب الكليني ـ طاب ثراه ـ في خطبة الكافي بأمثال قوله: ويأخذ منه من يريد علم الدِّين والعمل به بالآثار الصحيحة عن الصادقين عليهم السلام ۱ تصريح الشيخ الصدوق رئيس المحدّثين أبو جعفر محمّد بن عليّ بن بابويه رحمهمااللهفي خطبة الفقيه بأنّ ما ذكره فيه حجّة بينه وبين اللّه . ۲
قال الفاضل الاسترآبادي مولانا محمّد أمين صاحب الفوائد المدنيّة رحمه الله:
والسرّ في ذلك أنّ الصحيح عند قدماء أصحابنا الإخباريّين ـ رضوان اللّه عليهم ـ ما علم بقرينةٍ وروده عن المعصوم، وتلك القرائن كانت عندهم وافرة؛ لقرب عهدهم بهم عليهم السلام لا المعنى المصطلح عليه بين أصحابنا المتأخّرين الاُصوليّين، الموافق لاصطلاح العامّة المذكور في فنّ الدراية. ۳
وقد صرّح المحقّق نجم الدِّين أبو القاسم جعفر بن الحسن بن يحيى بن سعيد الحلّي رحمه اللهفي اُصوله: بأنّ شيخ الطائفة ورئيسهم أبا جعفر محمّد بن الحسن الطوسي رحمه اللهيعمل بخبر الواحد العدل الإمامي غير المحفوف بقرينة ۴ . ويعلم من ذلك أنّ طريقة رئيس الطائفة في هذا الباب طريقة قدماء أصحابنا الإخباريّين رحمهم الله.
ومحمّد بن عليّ بن شهرآشوب المازندراني رحمه الله قد نقل في كتاب معالم العلماء عن الشيخ المفيد قدس سره أنّه قال:
صنّفت الإماميّة من عهد أمير المؤمنين صلوات اللّه عليهم إلى عهد الزكي أبي محمّد العسكري عليه السلام أربعمائة كتاب تُسمّى الاُصول ، وهذا معنى قولهم: فلان له أصل ۵
.
يعني أنّ الكتب التي استقرّ الأمر في قيام السُنّة على اعتبارها والتعويل عليها وتسميتها بالاُصول هي هذه الأربعمائة، لا أنّ كتبهم منحصرة فيها، فإنّها أكثر من أن تُحصى.
ورجال الصادق عليه السلام من الخاصّة والعامّة على ما أفاده المفيد قدس سره في إرشاده، ۶ أربعة ۷ آلاف رجل ۸ .
فالأخبار المضبوطة بالكتب المعتبرة المتواترة متواترة كلّها، لكن قد يخصّ ما يفيد اليقين منها بأحكامه ـ لكثرة رواته بحيث يمتنع تواطؤهم على الكذب؛ أو لعدم الاختلاف فيه لتشابهه من جهة ـ باسم الخبر المتواتر، وما يفيد الظنّ منها ـ بقابليّة تشابهه علاجا من المعالجات المضبوطة عن الأئمّة عليهم السلام كما ستعرف إن شاء اللّه تعالى ـ باسم خبر الواحد أو الخبر الواحد.
وفي السنّة ـ كالكتاب ـ محكم ومتشابه، ناسخ ومنسوخ، عامّ وخاصّ .
وكان المتعارف بين قدماء أصحابنا الإماميّة رضوان اللّه عليهم إطلاق الصحيح على كلّ حديث معتضد بما يقتضي الاعتماد عليه، ومقترن بما يوجب الوثوق به والركون إليه.
إمّا لتواتره مطلقا في السنّة القائمة، بصراحة أحكامه المعلوم، أو تأويل تشابهه المعروف.
وإمّا لتواتر وجوده في كثير من الاُصول الأربعمائة المشهورة المتداولة بينهم نقلاً عن مشايخهم بطرقهم المتّصلة بأصحاب العصمة صلوات اللّه عليهم . أو في أصل منها أو أزيد بطرق مختلفة وأسانيد عديدة معتبرة. أو في أصل معروف الانتساب إلى أحد من العصابة الذين أجمعوا على تصديقهم كزرارة، ومحمّد بن مسلم، والفضيل بن يسار . أو على تصحيح ما يصحّ عنهم كصفوان بن يحيى، ويونس بن عبد الرحمن، وأحمد بن محمّد بن أبي نصر. أو على العمل بروايتهم كعمّار الساباطي، ونظرائه.
وإمّا لتواتر اندراجه في أحد الكتب التي عُرِضت على أحدٍ من الأئمّة عليهم السلام فأثنوا على مؤلّفيها، مثل كتاب عبيداللّه الحلبي الذي عرض على الصادق عليه السلام ۹ ، وكتاب يونس بن عبد الرحمن ۱۰ ، وكتاب الفضل بن شاذان المعروضين على الزكيّ أبي محمّد العسكري عليه السلام ۱۱ .
وإمّا لأخذه من أحد الكتب التي شاع بين السلف الوثوق بها والاعتماد عليها، سواء كان مؤلّفوها من الإماميّة مثل كتاب الصلاة لحريز بن عبداللّه السجستاني، وكتب بني سعيد، وعليّ بن مهزيار ؛ أو من غير الإماميّة مثل كتاب حفص بن غياث القاضي العامّي، والحسين بن عبداللّه السعدي، وكتاب القبلة لعليّ بن الحسن الطاطري.
لكن المتأخّرين من علمائنا الإماميّة رضوان اللّه عليهم لمّا رأوا أنّه ليس بدٌّ من تحصيل الترجيح عند تعارض الخبرين المعتمد عليهما على طريقة القدماء ـ بالرجوع إلى حال الرجال في الجرح والتعديل، وابتناء الحكم على ما هو الأرجح لو لم يكن ما يعارضه هو الأحوط في المذهب، ولم يلزم بترك ما هو الأرجح حرجٌ ـ اصطلحوا ۱۲ على تنويع الحديث المعتبر في صحيح، وحسن، وموثّق، وضعيف.
فجميع سلسلة السند إن كان إماميّين ممدوحين بالتوثيق سمّوه صحيحا، أو إماميّين ممدوحين بدون التوثيق كلّاً أو بعضا مع توثيق الباقي سمّوه حسنا، وإن كانوا كلّاً أو بعضا غير إماميّين مع توثيق الجميع سمّوه موثّقا ، وإلّا ضعيفا.
والمشهور أنّ أوّل مَن اصطلح على ذلك وسلك هذا المسلك العلّامة الحلّي قدس سره .
وقد أشاروا عليهم السلام في الأحاديث الواردة عنهم في التراجيح والمعالجات عند التعارض والتشابه الموجبين للاختلاف إلى ذلك بقولهم عليهم السلام : «فالحكم ما حكم به أعدلهما وأورعهما وأصدقهما في الحديث» ۱۳ ، وهذا وجه من وجوه التراجيح المنصوص عليها.
ولا شكّ أنّ بعد استقرار الاعتبار بالكتب المضبوطة المتواترة اشتداد الحاجة عند التعارض والتشابه إنّما هو إلى غير المعالجة بالجرح والتعديل من وجوهها الاُخر.
وقد ذكر ثقة الإسلام في خطبة ۱۴ الكافي أربعة منها، وسيذكر خامسها في المقدّمة الثانية عشر في شرحها إن شاء اللّه تعالى، مع أنّ في العلاج بالجرح والتعديل وشرائطهما آراء كثيرة وأقوال مختلفة لا يحصل للنفس منها اطمئنان بما كان منها أبين رجحانا أو أثبت برهانا ، فالجري على قانون القدماء وطريقتهم أولى وأسهل لنفي الحرج المنفيّ.
وقد جرى ثقة الإسلام في الكافي، والصدوق في الفقيه في إطلاق الصحيح على ما يعتمد عليه ويركن إليه كما عرفت على ما ذكر من حكمهما بالصحّة؛ لكون جميع ما في الكتابين مستخرجا من الكتب المضبوطة المعتبرة التي عليها المعوّل وإليها المرجع.
وقد قال صاحب الاستبصارين في كتاب عدّة الاُصول: إنّ ما اُورده في كتابي الأخبار إنّما آخذه من الاُصول المعتمد عليها. ۱۵
وجرى العلّامة والشهيد في مواضع من كتبهما على طريقة القدماء، مع أنّهما الأصل في اصطلاح المتأخّرين ، وقد سلك على ذلك المنوال كثير من فحول علماء الرجال، فحكموا بصحّة حديث بعض الرواة الغير الإماميّة كعليّ بن محمّد بن رَباح وغيره؛ لِما لاح لهم من القرائن المقتضية للوثوق بهم والاعتماد عليهم مع عدم كونهم من الذين انعقد الإجماع على تصحيح ما يصحّ عنهم وتصديقهم، بل معظم المتأخّرين يسلكون كثيرا ـ كالعلّامة والشهيد ـ طريقة القدماء ، فيصفون بعض الأحاديث التي في سندها من يعتقدون أنّه واقفيّ، أو فطحيّ، أو ناووسيّ، أو نحوهم بالصحّة؛ نظرا إلى اندراجه فيمن أجمعوا على تصحيح ما يصحّ عنهم وتصديقهم، بل يصفون مراسيل هؤلاء، ومقاطيعهم ومرافيعهم، وأسانيدهم إلى الضعفاء والمجاهيل بالصحّة؛ لذلك. فقيل في وجه وصفهم طائفة من المراسيل بالصحّة كمراسيل ابن أبي عمير ما شاع بينهم: أنّه كان لا يرسل إلّا عن الموثوق به ۱۶ .
وقيل: بل وجهه أنّ كتبه ذهبت حين كان في الحبس وكان يحفظ أربعين مجلّدا كانت رواياته فيها مسندة ، فحدّث بها مَن حَفِظَها، وأمّا التي ذهبت في أيدي الناس فهي معلومة الاتّصال والإسناد إجمالاً وإن فاتته طرق الإسناد على التفصيل ۱۷ ، ومنهم مَن أنكر ذلك فقد قال المحقّق في المعتبر: إنّ ابن أبي عمير يرسل عن أربعين من أصحاب الصادق عليه السلام فيهم المجاهيل والضعفاء ، فإذا أرسل احتمل الجميع. ۱۸
وقال بعض المتأخّرين: إنّ المرسل الذي يرويه عن المعصوم من لم يدركه بواسطة أو بغير واسطة، سواء نسي الواسطة أو تركها، أو أبهمها بقوله: عن رجل، عمّن أخبره، عن بعض أصحابنا مضطربٌ ۱۹ غير معتمد عليه، كالمقطوع الذي لم يبلغ إسناده إلى المعصوم ، بل ينتهي إلى بعض الوسائط، وكالمضطرب المرويّ تارةً على وجه واُخرى على آخر مخالف له .
وأمّا المضمر المروي من الثقات المشهورين من رجالهم عليهم السلام ، فإن كان الإضمار فيه للاعتماد على القرينة الواضحة، أو التقيّة، أو لقطع بعض خبر عن بعضه مع التصريح في المقطوع الأوّل باسم المعصوم ثمّ الإضمار في الثاني بقوله: وسألته، فهو غير مضطرب قطعا بالاضطراب الذي يوجب ترك العمل به، وكذا المرويّ عن أحد تارةً بواسطة واُخرى بدونها؛ لجواز تعدّد السماع، وإلّا فاضطراب ۲۰ حاله بحاله.
وبالجملة، هنا عليل وطبيب، فالعليل: كلّ خبر من طريق أصحابنا الإماميّة مضبوط متواتر بكتبهم المضبوطة المتواترة كالأربعة الجامعة لأكثر الأربعمائة، متشابه من جهة فعليّة التشابه الموجب للاختلاف.
والطبيب: كلّ إماميّ عدل، فاضل بالفضل الممتاز، مستجمع لشرائط القضاء والإفتاء، عارف بالأمراض والأدوية حاذق، في المعالجة بها على ما أطلقه المعصوم ورخّصه في ارتكاب المعالجة بالعلاج المعلوم، وعليه كمال الاحتياط ونهاية الاجتهاد فيه، وهو مؤمن بأنّ الطبيب الحاذق ضامن.
والعلاج المرخّص فيه أقسام: منها: العرض على محكمات كتاب اللّه ، المضبوطة عبارةً، ومضمونا بمحكمات السنّة القائمة، والأخذ بالموافق، والأخذ بمخالف ما يوافق مذاهب العامّة والرشد في خلافها، والتمسّك بالمجمع عليه، فإنّه لا ريب فيه، والقبول لما وسّع المعصوم من الأمر فيه بقوله: «بأيّهما أخذتم من باب التسليم وَسِعَكم». ۲۱
والأحوط من كلّ ذلك التوقّف والسكوت لو لم يلزم الجرح المنفيّ.
وبالعلاج الصحيح في زمن الغيبة لا يحصل إلّا صحّة الظنّ، وقطعيّة الحكم لا ينافي ظنّية الطريق، لكن في العبادات لا ينافيها وهميّة الطريق أيضا فضلاً عن شكّيّته؛ ۲۲ لما سيذكر في بيان الخطبة إن شاء اللّه تعالى .
1.الكافي، ج ۱، ص ۲۵، المقدّمة.
2.الفقيه، ج ۱، ص ۲، المقدّمة.
3.راجع: الفوائد المدنيّة، ص ۱۰۹.
4.معارج الاُصول، ص ۱۴۲.
5.معالم العلماء، ص ۳.
6.في «ج»: - «في إرشاده».
7.في النسخ: «أربعمائة» وما أثبتناه من المصدر.
8.الإرشاد، ج ۲، ص ۱۷۹.
9.الفهرست للطوسي، ص ۱۰۶، الرقم ۴۵۵؛ رجال ابن داود، ص ۲۱۷، الرقم ۹۰۳.
10.رجال النجاشي، ص ۴۴۶، الرقم ۱۲۰۸؛ خلاصة الأقوال، ص ۱۸۴، الرقم ۱؛ رجال ابن داود، ص ۳۸۰، الرقم ۱۷۰۸.
11.رجال الكشّي، ص ۵۴۲ ، ح ۱۰۲۷؛ رجال ابن داود، ص ۲۷۲، الرقم ۱۱۷۹.
12.جواب «لمّا».
13.الكافي، ج ۱، ص ۶۷ ، باب اختلاف الحديث، ح ۱۰، الفقيه، ج ۳، ص ۸ ، ح ۳۲۳۲.
14.في النسخ: «الخطبة»، والمناسب ما اُ ثبت.
15.حكاه عنه في الوافي، ج ۱، ص ۲۳. ولم أجده في العُدّة. و قال في معجم رجال الحديث في ذيل هذا الكلام نقلاً عن الوافي : «أنّا لم نجد في كتاب العدّة هذه الجملة المحكيّة عنه».
16.عدّة الاُصول، ج ۱، ص ۱۵۴؛ الوجيزة، ص ۵.
17.راجع: الرواشح السماويّة، ص ۱۱۴، الراشحة ۱۶، رجال الكشّي، ص ۵۸۹ ، ح ۱۱۰۳؛ رجال النجاشي، ص ۳۲۶، الرقم ۸۸۷ .
18.المعتبر، ج ۱، ص ۱۶۵. وفيه : «ولو قال: مراسيل ابن أبي عمير يعمل بها الأصحاب منعنا ذلك؛ لأنّ في رجاله من طعن الأصحاب فيه، وإذا أرسل احتمل أن يكون الراوي أحدهم».
19.خبر «إنّ».
20.في «الف»: «فاضطرب».
21.راجع: الكافي، ج ۱، ص ۸ و ۹ المقدّمة، وص ۶۶ و ۶۸ ، باب اختلاف الحديث، ح ۷ و ۱۰، و ص ۶۹ ، باب الأخذ بالسنّة وشواهد الكتاب، ح ۱ ـ ۵. وسائل الشيعة، ج ۲۷، ص ۱۰۶، باب وجوه الجمع بين الأحاديث المختلفة و... .
22.في «الف»: «تنكّبه».