هديّة :
(إلى الرجل) يعني أبا الحسن الثالث الهادي عليه السلام .
عالم بالأشياء قبل خلقها ، كعلمه بها بعد خلقها .
(لأنّ معنى يعلم يفعل) تقرير لدليل الشبهة بأنّ العلم قبل الإيجاد محال ؛ إذ لابدّ للعلم أزلاً بالشيء من تحقّقه أزلاً ؛ لأنّ العلم لا ينفكّ عن المعلوم ، فأجاب عليه السلام بما مفاده أنّ علمه تعالى عين ذاته ، وانكشاف الممكنات المعدومة لا يوجب وجودها في الأزل .
وقال برهان الفضلاء :
«لأنّ معنى يعلم يفعل» يعني لأنّ مصداق يعلم أن يفعل ، فيجوز النصب بالإعمال والرّفع بالإهمال . ثمّ قال :
وهذا الدليل بناؤه على مقدّماتٍ ثلاث : الاُولى: أنّ العلم بلا شيء محض محال . والثانية : أنّ الشيئيّة منحصرة في الوجود ذهنا أو خارجا . والثالثة : أنّ ما سوى اللّه موجود بالإيجاد ، سواء كان موجودا في نفسه في الذّهن ، أو موجودا في نفسه في الخارج .
فالإمام عليه السلام أجاب بما أجاب من غير توجّه إلى دفع الشبهة ؛ لظهور دفعها بمنع المقدّمة الاُولى .
والمعتزلة أجابوا عن هذه الشبهة بمنع المقدّمة الثانية؛ لقولهم بثبوت المعدومات في الخارج .
وقال الفاضل الإسترابادي :
قد ذكر ابن سينا شبهة عجز عن جوابها، وكان قول السائل : «فقد أثبتنا في الأزل شيئا» إشارة إليها ، وهي أنّ علمه تعالى في الأزل متعلّق بكلّ مفهوم ، فلابدّ للمفهومات من وجود أزلي ، فوجودها في الأزل إمّا خارجيّ أو ذهني ، وعلى التقديرين هي قائمة بأنفسها أو بغيرها . وعلى تقدير قيامها بغيرها فهي قائمة بذاته تعالى أو بغيره تعالى ، والكلّ محال . فذكر صاحب المحاكمات احتمالاً في الوجود الذهني ، وهو أن يكون وجود ذهني من غير قيام الموجود الذهني بشيء .
وجواب الشبهة منحصر في التمسّك بهذا الاحتمال بأن يقال : ذاته تعالى وجود ذهني لكلّ المفهومات الغير المتناهية من غير قيام الوجود بها ، ومن غير قيامها بشيء ، ومن غير قيامها بنفسها .
وتوضيحه: أنّه تعالى علم بتلك المفهومات ، ووجودها الذهني عين علمه تعالى ، وليست للمفهومات بحسب هذا الوجود تشخّصات بها يمتاز بعضها عن بعض ، ولا يتّصف في هذا الوجود بشيء من صفاتها ، وإلّا لزم تعدّد الموصوفات في الأزل ، وهو محال . ثمّ قال :
وأقول: بعد أن ثبت بالأدلّة العقليّة والنقليّة أنّه علمه تعالى أزليّ متعلّق في الأزل بجميع المفهومات ، وانحصر جواب الشبهة في الاحتمال الذي ذكره صاحب المحاكمات ، صار ذلك الاحتمال ثابتا بالبرهان . والمستفاد من كلامهم عليهم السلام أنّ علمه ۱ تعالى من صفات الذات وأنّه قديم ، فبطل ما زعمه جمعٌ من أنّ له تعالى علمين : أزليّ إجماليّ حصوليّ هو عين ذاته تعالى ، وتفصيليّ حضوريّ هو عين سلسلة الممكنات التي خلقها اللّه تعالى . ۲
وقال السيّد الأجلّ النائيني :
«لأنّ معنى يعلم يفعل» يحتمل وجهين :
أحدهما : أنّ تعلّق علمه تعالى بشيء يوجب وجود ذلك الشيء وتحقّقه ، فلو كان لم يزل عالما ، كان لم يزل فاعلاً وكان معه شيء في الأزل في مرتبة علمه ؛ أعني ذاته ، أو غير مسبوق بعدم زمانيّ ، وهذا على تقدير كون علمه فعليّا .
وثانيها : أنّ تعلّق العلم بشيء يستدعي انكشاف ذلك الشيء ، وانكشاف الشيء يستدعي نحو حصول له ، وكلّ حصولٍ ووجودٍ لغيره سبحانه مستندا إليه تعالى ، فيكون من فعله ، فيكون معه في الأزل شيء من فعله .
فأجاب عليه السلام : بأنّه لم يزل اللّه عالما ، ولم يلتفت إلى بيان فساد متمسّك نافيه ؛ لأنّه أظهر من أن يحتاج إلى البيان ؛ فإنّه على الأوّل مبنيّ على كون العلم فعليّا ، وهو ممنوع ، ولو سلّم فلا يستلزم فعليّة العلم عدم انفكاك المعلوم عنه عينا ، بمعنى عدم مسبوقيّته بعدمٍ زمانيّ ، أو كون المعلوم في مرتبة العالم .
وعلى الثاني مبنيّ على كون الصور العلميّة صادرةً عنه صدور الاُمور العينيّة ، فيكون من أقسام الموجودات العينيّة ومن أفعاله سبحانه ، وهو ممنوع ، فإنّ الصور العلميّة توابع غير عينيّة لذات العالِم ، ولا يحصل لها عدا الانكشاف لدى العالِم ، ولا حظّ لها من الوجود والحصول العيني أصلاً ، ولا مسبوقيّة لها إلّا بذات العالِم ، لكنّها ليست في مرتبة ذاته ، ولا يجب فيها نحو التأخّر الذي للأفعال الصادرة عن المبدأ بالإيجاد . ۳
أقول : قد سمعت وفهمت أقوال هؤلاء الفضلاء المتبحّرين ، وأيقنت أنّ مفاد بياناتهم في دفع تلك الشبهة يؤول إلى أمر واحد ، وهو الإقرار بالعجز عن دركهم كيفيّة علمه تعالى بمعلوماته ، وذلك لاجتهادهم جدّا في الفرار عن القياس ، ولا يمكنهم درك شيء بحقيقة كيفيّة إلّا بالقياس إلى ما هو معلوم لهم حقيقةً ، مثل كيفيّة علم المخلوق ، وعلم المخلوق غير ذاته ، وعلم الخالق تعالى عين ذاته ؛ ولذا اكتفى عليه السلام في الجواب بما هو الثابت المقطوع به عن الحجّة المعصوم العالم العاقل عن اللّه ، فأشار بل صرّح فيه بأنّ علم المخلوق بكيفيّة علمه تعالى محال ، كعلمه بكيفيّة ذاته وحقيقة كنهه تعالى وعلمه سبحانه عين ذاته ، سبحان من لم يزل ربّا عالما ، تعالى شأنه عمّا يقولون .
1.كذا في المصدر ، وفي المخطوطة : «أنّه» بدل «أنّ علمه» .
2.الحاشية على اُصول الكافي ، ص ۱۱۷ .
3.الحاشية على اُصول الكافي ، ص ۳۶۳ ـ ۳۶۴ .