هديّة :
الظاهر أنّ (جملة القول) إلى آخره بعد السابع بلا فاصلة كلام ثقة الإسلام ، كما صرّح به معظم الأصحاب . وأمّا احتمال كونه من تمام الحديث فكماترى .
(أنّ كلّ شيئين) أي متقابلين يجتمعان في الوجود وصفا للّه تبارك وتعالى كالرّضا والغضب ، بخلاف الحياة والعلم والقدرة ؛ فإنّ الرّضا يجتمع مع ضدّه وهو السخط في الوجود وصفا للّه سبحانه ، وليس كذلك الحياة والموت والعلم والجهل والقدرة والعجز .
وملخّص كلامه طاب ثراه أنّ كلّ صفة اُذِنّا في إطلاقها عليه سبحانه من غير أن نُمنَع من إطلاق ضدّها عليه تعالى كالرّضا والإرادة فهي من صفات الفعل ومخلوقةٌ بالنصّ والإجماع من العصابة ، وأمّا ما اُذِنّا من الصفات أن نعتقد اتّصافه تعالى به ومُنِعنا من اعتقاد اتّصافه بضدّه فهو من صفات الذات .
وقال الفاضل الإسترابادي رحمه الله :
«جملة القول» إلى قوله : «وضدّ العدل الجور والظلم» من كلام ثقة الإسلام ؛ فإنّ أحاديث هذا الباب مذكور في كتاب التوحيد لمحمّد بن عليّ بن بابويه رحمه اللهوليس فيه : « جملة القول»، بل فيه بيان المعيار المميّز بين صفات الذات وصفات الفعل بوجهٍ قريب من كلام المصنّف . ۱
وحاصل الكلام: أنّ ثقة الإسلام ذكر معيارين للتميز بين صفات الذات وبين صفات الفعل :
أحدهما : أنّ كلّ صفة من صفاته تعالى توجد هي في حقّه ـ تعالى ـ دون نقيضها فهي من صفات الذات ، وكلّ صفة توجد هي ونقيضها في حقّه ـ عزّ وجلّ ـ فهي من صفات الفعل .
وثانيهما : أنّ كلّ صفة يمكن أن تتعلّق بها قدرته تعالى وإرادته فهي من صفات الفعل ، وكلّ صفة ليست كذلك فهي من صفات الذات .
ومعنى قوله : «كان ما لا يريد ناقضا لتلك الصفة» أنّه كان ما لا يريد مستلزما لاجتماع النقيضين ؛ لأنّ صفات الذات نسبتها إلى جميع المتعلّقات واحدة . ۲ انتهى .
في بيانه المعيار الثاني نظر ، وقد ثبت أنّ الإرادة من صفات الفعل .
وقال برهان الفضلاء :
صفات الذّات عين الذات ليس لها وجود في أنفسها بغير وجود الذات ، ولها وجود رابطيّ وإطلاق الوجود على الوجود الرابطيّ مجاز . وصفات الفعل حوادث ، ولها وجود في أنفسها ووجود آخر رابطيّ .
وقوله : «جملة القول في صفات الذات وصفات الفعل» عبارة المصنّف طاب ثراه .
«وصفتَ اللّه بهما» على الخطاب ، واحتراز عن مثل الحياة والموت ؛ إذ وصفه تعالى لا يمكن بكليهما .
«جميعا» خبر ل«كانا» .
«في الوجود» متعلّق ب«جميعا» و«الوجود» : الوسعة والقدرة . والمراد هنا قدرة اللّه تعالى ؛ فإنّها أوسع الأقدار .
«وكانا جميعا» احتراز عن العلم والحياة ؛ إذ ليسا في طرفي [القدرة باعتبار أنّهما ليسا بمتقابلين ، وأيضا احتراز عن العلم وعدم العلم ؛ إذ تصفه تعالى بكلٍّ منهما وهما متقابلان ، إلّا أنّهما ليسا في طرفي] ۳ قدرته تعالى . أمّا وصفه بالعلم فظاهر ، وأمّا وصفه بعدم العلم كما في سورة الرعد : «وَجَعَلُوا للّه ِِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ»۴ ، وهذا لا ينافي بأنّه تعالى عالم بكلّ شيء ؛ فإنّ لصفات الذات قسمين : الأوّل : ما اتّصافه تعالى بنقيضه ممكن كالعلم ، وهو متعلّق بكلّ شيء وعدمه بشريك له تعالى . الثاني : ما لا يكون كذلك كالحياة .
أقول : صفات الذات كلّها في امتناع اتّصافه تعالى بنقائضها متّفقة اللّفظ والمعنى ، وعدم العلم بالشريك عبارة عن المخلوق عن علمه تعالى بعدم الشريك وامتناعه .
وقال السيّد الأجلّ النائيني :
«جملة القول» إلى آخره ، ليس من تتمّة الحديث ، بل كلام صاحب الكافي ـ طاب ثراه ـ للتنبيه على معنى صفات ۵ الذات وصفة الفعل والتميز بينهما . وتلخيص كلامه أنّ كلّ صفة يوصف بها بالنسبة إلى شيء وبمقابلها بالنسبة إلى آخر ، فهي من صفات الفعل وبالنسبة إلى الفعل كالإرادة والرّضا والحبّ ؛ فإنّ في الوجود ما يريده وما لا يريده ، وما يرضاه وما يسخطه ، وما يحبّه وما يبغضه .
وكلّ صفة من صفات الذات لا يصحّ الاتّصاف بمقابلها كالعلم والقدرة والحلم والحكمة والعزّ والمُلك ، ولا يصحّ أيضا أن يسند بالإرادة .
وتحقيقه أنّ ما للذات بذاته من دون أن يكون متحصّلاً بالنسبة إلى غيره من أفعاله فهو صفة الذات ، كالعلم والقدرة والحلم والعزّ والحكمة ، فإنّها وإن كانت ذات نسبةٍ إلى الغير ويتبعها نسبة ، إلّا أنّها ليست متحصّلة المعاني بالنسب .
وما له من الصفات المتحصّلة المعاني بالنسبة إلى فعله فهو من صفات الفعل ، كالإرادة والرِّضا والحبّ ومقابلاتها .
والذي ينبغي أن يُنبَّه عليه في هذا المقام أنّ كون الإرادة من صفات الفعل ، وكونها متحصّل المعنى بالنسبة إلى الغير لا ينافي كونها غير زائدة على الدّاعي ، يعني العلم بالنفع ؛ لأنّه لا يلزم من كون العلم غير متحصّل المعنى بالغير كون العلم بالنفع ـ بما هو علم بالنفع ـ غير متحصّل المعنى بالغير ، كما أنّ الخشب بما هو خشب غير متحصّل المعنى والحقيقة بشيء من العوارض ، وبما هو سرير متحصّل المعنى والقوام بالهيئة السريريّة ، فكما أنّ السرير اسم للخشب بهيئة السّريريّة ، والخشب اسم له بما هو خشب من غير اعتبار شيء آخر فيه ، كذا الدّاعي اسم للعلم بتعقّله بالنفع ، والعلم اسم له من غير اعتبار التعلّق والمتعلّق وإن كان يتبعه ويلزمه التعلّق بمتعلّق .
وأيضا لا ينافي كونها من صفات الفعل كونها من الصفات الحقيقيّة ، فلا يلزم من الحكم بكونها من صفات الفعل كونها خارجة عن الصفات الحقيقيّة ، ومِنْ عدّها في الصفات الحقيقيّة الحكم بخروجها عن صفات الفعل .
وأيضا لا ينافي كونها من صفات الفعل نفي المعاني والصفات الزائدة عينا ؛ فإنّه لا يلزم من كونها صفة الفعل كونها معنىً قائما بالذات حالّاً فيه ولا صفة زائدة عينيّة ، كما لا يخفى . ۶
أقول : لا يخفى عليك أنّ كلّ هذه التحقيقات من هؤلاء المتبحّرين يؤول إلى أمرٍ واحد وهو التميز بين صفات الذات وصفات الفعل بالاعتبارات والاُمور النسبيّة . والفرق بين القديم والحادث إنّما هو بالتباين الكلّي الحقيقي لا بالفرق من وجه دون وجه ، فالأولى من التوجيهات ما بيّناه أوّلاً من الإذن في الإطلاق على ما عرفت ، وعدمه فيه كذلك ، وفوائد نقلنا بياناتهم مع أنّ الغرض الأصلي إظهار شمّة ۷ من شأن أحاديثهم عليهم السلام كثيرة .
قال بعض المعاصرين :
وملخّص كلام صاحب الكافي: أنّ ما يختلف من صفاته سبحانه بالنسبة إلى المخلوقات فهو من صفات الفعل ، وما لا يختلف بالإضافة إليها بل يشمل كلّها على نسقٍ واحد فهو من صفات الذات كالعلم والقدرة . ۸ انتهى .
كأنّه وجد الفرق بين العلم والإرادة بما قاله ، فإن تجده وإلّا فافهم .
قوله (ولا يقدر أن لا يعلم) يعني من أمارة صفات الذات أنّها لا تحمل المقدوريّة عليها ، ولا معنى لحمل اللّامقدوريّة أيضا عليها . وصفات الفعل إمّا يحمل عليها المقدوريّة فقط كالإرادة ، أو هي والمراديّة أيضا كسائر صفات الفعل ، ف«لا» في «لا يقدر» إمّا لتأكيد النفي أو من مقول القول المنفيّ .
قال برهان الفضلاء : «لا» في «لا يقدر» زائدة للتأكيد ، أو ثانيتها من تصرّف النسّاخ .
وقال السيّد الأجلّ النائيني رحمه اللّه تعالى :
«ولا يقدر أن لا يعلم» يحتمل أن يكون كلمة «لا» مؤكّدة للنفي ، فالمعنى : لا يجوز أن يقال : يقدر أن لا يعلم ، كما لا يجوز أن يُقال : يقدر أن يعلم . ويؤيّده ترك كلمة «لا» في قوله : «ويقدر أن لا يكون جوادا» . وفي قوله : «يقدر أن لا يكون غفورا» على أظهر الاحتمالين فيهما .
ويحتمل أن تكون كلمة «لا» في «ولا يقدر أن لا يعلم» من مقول القول الذي لا يجوز . وتوجيهه أنّ القدرة لا ينسب إلّا إلى الفعل نفيا أو إثباتا ، فيُقال : يقدر أن يفعل أو يقدر أن لا يفعل ، ولا ينسب إلى ما لايعتبر الفعل فيه لا إثباتا ولا نفيا . فما يكون من صفات الذات التي لا شائبة للفعل فيها كالعلم والقدرة والملك وغيرها من صفات الذات ، لا يجوز أن ينسب إليها القدرة ؛ فإنّ القدرة إنّما يصحّ استعمالها مع الفعل أو الترك .
فإن قيل : يصحّ أن يقال : إنّه يقدر أن يغفر ويقدر أن لا يغفر ، ويقدر أن يجود بشيء ويقدر أن لا يجود به .
قلنا : فرق بين الجواد والغفور ، وبين فعل الجود والمغفرة ؛ فإنّ معنى الجواد ذات يليق به الجود ؛ أي حصول ما ينبغي وفيضه منه بلا غرض لذاته ، أو من يكون في ذاته بحيث يكون منه إفادة ما ينبغي لا لعوض وإن كانت الإفادة بإرادة . فمرجع الجود إلى التماميّة وفوقها ومناطيّة الانكشاف . وأمّا النسبة التابعيّة المتأخّرة فليست معتبرة فيه إنّما هي تتبعه ، ولذا يعدّ من صفات الذات .
وكذا الغفور من هو في ذاته بحيث يتجاوز عن المؤاخذة لمن يشاء فمرجعه إلى خيريّته وكماله وقدرته . ۹
أقول : فيه ما فيه ، واُشيرُ إليه آنفا .
1.التوحيد ، ص ۱۴۸ ، ذيل الحديث ۱۹ من باب ۱۱ .
2.الحاشية على اُصول الكافي ، ص ۳۱۲ .
3.ما بين المعقوفتين من «ألف» ولم يرد في «ب» و«ج» .
4.الرعد (۱۳) : ۳۳ .
5.في «ألف» والمصدر : «صفة» .
6.الحاشية على اُصول الكافي ، ص ۳۷۳ ـ ۳۷۴ ، بتفاوت يسير .
7.في «ب» و«ح» : «مشمّة» .
8.الوافي ، ج ۱ ، ص ۴۶۱ .
9.الحاشية على اُصول الكافي ، ص ۳۷۵ ـ ۳۷۶ ، بتفاوت .