هديّة :
قد علم في هديّة الخامس أنّ الأثنينيّة في علمه تعالى إنّما هي باعتبار التعليم وعدمه ، وأنّ الإشكال لا يندفع إلّا بتخصيص التعليم بالمحتوم على ما عرفت.
(لا يكذب) على المعلوم من الإفعال أو التفعيل ؛ يعني لا يجعل نفسه كاذبا عند الملائكة والرُّسل ، ولا ملائكته عند الرسل ، ولا رسله عند الناس .
قال برهان الفضلاء :
«لم يُطلع عليه أحدا من خلقه» كوقت ظهور القائم عليه السلام «فما علّمه ملائكته ورسله في ليالي القدر فإنّه سيكون». والبداء إنّما هو في المخزون الموقوف عنده تعالى ، إمّا مستلزم لمحو ظنّ الإمام ، أو إثبات علمه على ما سبق بيانه .
وقال الفاضل الإسترابادي بخطّه :
«العلم علمان» إلى آخره . الحاصل : أنّ التقدير ـ وهو النقش في اللوح المحفوظ ـ قسمان : قسمٌ مكتوب فيه: إن شئت ، وقسمٌ ليس بمكتوب فيه ذلك .
والثاني هو المحتوم. واللّه سبحانه وتعالى يُعلِّم أنبياءه المنقوش بقسميه على ما نقش ، ولا يُعلّمهم ما ليس بمنقوش من الاحتمالات الثلاثة التي سيكون في القسم الأوّل من النقش ، ثمّ إذا صار أحد الاحتمالات الثلاثة محتوما يصير منقوشا ، وحينئذٍ يعلّم أنبياءه النقش الثاني أيضا . ۱ انتهى بيانه.
مؤيّد لبياننا في دفع الإشكال في هديّه الخامس .
وقال السيّد الأجلّ النائيني رحمه الله :
لعلّ المراد به تقسيم العلم إلى علم علّمه الملائكةَ والرّسلَ للتبليغ فما فيه من الأخبار سيكون ، وعلم لم يأمر بتبليغه كالمعدود من الغيب. وهذا علمٌ مخزون لم يُنزله على أحد للتبليغ ، والمُفاض منه ومن الداخل فيه على النفوس العِلْويّة وما يتلوها يجري فيه التقدّم والتأخّر .
«فما علّمه ملائكته ورسله» للتبليغ والإرسال «فإنّه سيكون» ولا يدخله التغيّر ؛ لأنّ دخول التغيّر فيما يبلّغه منه سبحانه ينجرّ إلى تكذيب المخبر به والحكيم لا يفعل ما ينقض غرضه ، وينجرّ إلى تكذيب ملائكته ورسله ، أو تكذيب نفسه ، تعالى عن ذلك علوّا كبيرا . ۲
أقول : أنت خبير بأنّ الإشكال المذكور في هديّة الخامس لا يندفع ببيانات هؤلاء الفضلاء كما ينبغي إلّا بتمحّلات بعيدة فيها ، على ۳ أنّ المنسوخ من الأحكام بالتبليغ قبل النسخ وبعده فالأولى ما بيّناه من تخصيص التعليم موافقا لهذا الحديث الصريح في أنّ ما أخبر به مَلَك أو حجّة من حجج اللّه سيكون ألبتّة ولا يتغيّر بالبداء قطعا ، فالإخبار ببعض العلم قد يتغيّر لمخزونيّة تمامه ففيه البداء ، وللحجّة إذن الإخبار بالمعلّق بالمشيئة معلّقا بها صريحا أولا . وأمّا التعليم يعني الإخبار بتمامه فمحتوم لا يتغيّر أبدا. والعلم بأنّ إخبارا بأمر كذا إخبارٌ ببعض علمه أو تعليم بتمامه خاصّ بالمعصوم. وإنّما لا نكذّب المُخْبِر لو أخبر بالأوّل الذي فيه البداء فتخلّف وتغيّر؛ لأنّ حجّيّته ثابتة بالنصّ ، ودلالاتها المذكورة مفصّلة في أحاديث كتاب الحجّة ، وستعرفها ببيانها إن شاء اللّه تعالى .
وقال بعض المعاصرين ـ بناءً على الأصل الثابت عنده من الفلاسفة والقدريّة ـ :
العلم علمان؛ وذلك لأنّ صور الكائنات كلّها منتقشة في اُمّ الكتاب المسمّى باللّوح المحفوظ تارةً ـ وهو العالم العقليّ والخلق الأوّل ـ وكتاب المحو والإثبات اُخرى ، وهو العالم النفسيّ والخلق الثاني. وأكثر اطّلاع الأنبياء والرسل على الأوّل وهو محتوم من المحو والإثبات ، وحكمه محتوم بخلاف الثاني فإنّه موقوف. ۴
قد عرّفنا لك تحقيقه في معنى البداء في هديّة الأوّل فلا تنس إن شاء اللّه تعالى .
1.الحاشية على اُصول الكافي ، ص ۱۲۶.
2.الحاشية على اُصول الكافي ، ص ۴۷۷ ـ ۴۷۸.
3.في «ب» و «ج» : - «على» .
4.الوافي ، ج ۱ ، ص ۵۱۲.