هديّة :
المراد ب(العالم) إمّا صاحب الزمان عليه السلام ، فالحديث مرسل عن سفير من سفرائه عليه السلام ؛ إذ المعلّى بن محمّد لا يروي عن المعصوم بلا واسطة . وإمّا أبو محمّد العسكري عليه السلام ، أو واحد من آبائه عليهم السلام .
(كيف علم اللّه ؟) يحتمل الفعل والمصدر .
(قال : علم) يعني بعلمه الأزليّ المحيط بالجميع بحيث لا يشذّ عنه شيء .
إنّ الأصلح ممّا هو ممكن الوقوع اُمور : كنظام فلك الشمس من الممثّل والخارج المركز ، أو من الممثّل والحامل الموافق المركز والتدوير ، وله سبحانه أن يفعل أيّها شاء ويترك أيّها شاء ، وهذا معنى إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل لكن شاء ففعل . والمرجّح هو المشيئة الحادثة ، فما (شاء) منها (أراد) إيجاده ، ثمّ (قدّر) بحكمته قَدْره ووزنه ووقته وغير ذلك من الأوصاف . ثمّ (قضى) وحكم فأوجب ، ثمّ (أمضى) وحتم فأوجد وترك التتمّة ، يعني وأراد ما شاء وشاء ما علم للظهور .
(والعلم متقدّم المشيئة) أي العلم الأزليّ المشيئة الحادثة .
(والمشيئة في المنشأ) على اسم المفعول من الإنشاء ، أي في إنشاء ما شاء إنشاءه ممّا هو ممكن الوقوع .
وفي بعض النسخ : «في المُشاء» على اسم المفعول من «شاء يشاء» كالمنال من نال ينال . صار مشيوء مشيا كما صار مرموي مرمىً ، فنقلت فتحة الياء إلى ما قبلها ثمّ حذفت الياء بالتقاء الساكنين لمنافرة الألف المتجانسة للفتحة عن الياء المتجانسة للكسرة .
و«المشاء» بضمّ الميم اسم مفعول من أشاءه بمعنى ألجأه ، ولا يجيء كالمجيء مِنْ شاء .
(قبل عينه) أي وجوده العيني .
(قبل قيامه) أي تمكّنه في مكانه .
(قبل تفصيلها) أي تفريق بعضها عن بعض بالتمييز ، وتوصيل بعضها إلى بعض بالتأليف بحسب وجودها العيني وأوقاتها المعيّنة .
(والقضاء) المتلبّس (بالإمضاء ، هو المبرم) المحكم لا رادّ له .
(ومادبّ ودرج) أي مشى وتحرّك .
(وغير ذلك) ابتدائيّة ، أي وغير ما هو المبرم بالقضاء بالإمضاء (ممّا يدرك بالحواسّ) إذا وجد .
و«من» في (ممّا لا عين له) تعليليّة ، و«ما» كافّة .
و(المفهوم) بمعنى المعلوم المعيّن ، أو المعنى المفهوم ذهنا والمدرك حسّا .
ولعلّ في هذه الفقرة إشارة إلى الفرق بين البداء والتبديل ، فالبداء قبل الوجود العيني ، والتبديل أعمّ ، فله سبحانه التبديل بعد العين وصفا وصورةً أو عينا بالكلّيّة . وفي القرآن في سورة محمّد : «وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْما غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ»۱ ، وفي الدُّعاء : «ولا تبدّل اسمي ولا جسمي» . ۲
و«تعريف الصفات» بمعنى تعيينها .
(شرح عللها) أي وجوهها وحكمها ومصالحها وفوائدها .
(ذلك تقدير العزيز العليم) اقتباس من سورة الأنعام ، ويس ، وفصّلت . ۳ و«العزيز» دلالة على جبّاريّته تعالى بالقهر والغلبة على كلّ شيء ، وعلى حكمته وعدالته .
قال السيّد الأجلّ النائيني رحمه الله :
الظاهر من السؤال أنّه كيف علم اللّه ؟ أبعلم مستند إلى الحضور العيني والشهود في وقته لموجود عينيّ أو في موجود عيني أو في موجود عيني كما في علومنا ، أو بعلم مستند إلى الذات سابق على خلق الأشياء ؟
فأجاب عليه السلام : بأنّ العلم سابق على وجود المخلوق بمراتب ، وقال : «علم وشاء وأراد وقدّر وقضى وأمضى » .
ف «العلم» : ما به ينكشف الشيء . و«المشيئة» : ملاحظته بأحوال مرغوب فيها يوجب فينا ميلاً دون المشيئة له سبحانه ، لتعاليه عن التغيّر والاتّصاف بالصفة الزائدة . و«الإرادة» : تحريك الأسباب نحوه وبحركة نفسانيّة فينا ، بخلاف الإرادة فيه سبحانه .
و«التقدير» : ۴ التحديد ، وتعيين الحدود والأوقات . و«القضاء» هو الإيجاب . و«الإمضاء» هو الإيجاد . «فامضي ما قضى» أي فاوجد ما أوجب ، وأوجب ما قدّر ، وقدّر ما أراد .
«والعلم متقدّم على المشيئة» وهو الأوّل بالنسبة إليها . «والمشيئة ثانية ، والإرادة ثالثة ، والتقدير واقع» وقوعا سابقا «على القضاء» والإيجاب المتلبّس «بالإمضاء» والإيجاد .
«وللّه تبارك وتعالى البداء فيما علم متى شاء» فإنّ الدخول في العلم أوّل مراتب السلوك إلى الوجود العيني ، وله البداء ؛ لعدم ۵ الإيجاد فيما علم ۶ أن يبدوا ، وفيما أراد وحرّك الأسباب نحو تقديره متى شاء وقبل القضاء والإيجاب ، فإذا وقع القضاء والإيجاب متلبّسا «بالإمضاء» والإيجاد «فلا بداء» ، فعلم أنّ في المعلوم العلم قبل كون المعلوم وحصوله في الأذهان والأعيان ، وفي المُشاء المشيئة قبل عينه ووجوده العيني .
وفي أكثر النسخ «المنشأ» ولعلّ المراد الإنشاء قبل الإظهار كما في آخر الحديث ، وفي المراد الإرادة قبل قيامه والتقدير لهذه المعلومات قبل تفصيلها وتوصيلها وحضورها العيني في أوقاتها «والقضاء بالإمضاء هو المبرم» الذي يلزمه وجود المَقْضيّ .
وقوله : «من المفعولات» يحتمل تعلّقه بالمبرم ، ويكون قوله «ذوات الأجسام» ابتداءَ الكلام .
ويحتمل كونه من الكلام المستأنف وتعلّقه ۷ بما بعده ، والمعنى أنّ هذه الأشياء المحدثة للّه فيه البداء قبل وقوع أعيانها ، فإذا وقع العين فلا بداء . ۸
وقال الفاضل الإسترابادي :
قوله : «وبتقديره كان القضاء » أي التقدير واقع في اللوح المحفوظ على نهج القضاء المتلبّس بالإمضاء ، ف«على» نهجيّة لا استعلائيّة .
وفي كلامه عليه السلام إشارة إلى شيئين : الأوّل : أنّ التقدير مشتمل على كلّ التفاصيل الموجودة في الخارج . والثاني : أنّ الإمضاء لا ينفكّ عن القضاء ، ومعنى القضاء هو النقش الحتمي . ۹
وقال بعض المعاصرين ـ بناء على أصل ثابت عنده ـ :
المشيئة والإرادة والقدر والقضاء والإمضاء كلّه من أسماء علمه الأزلي ، كلّ اسم باعتبار حال من الأحوال المختلفة سبحانه . وفي الأخبار أنّ القضاء بمعنى الحكم والإيجاب متأخّر عن القدر .
«فالعلم بالمعلوم قبل كونه» إشارة إلى أنّ لهذه الموجودات الواقعة في الأكوان المادّية لها ضرب من الوجود والتحقّق في العلم الإلهي قبل تحقّقها في العالَم الكوني . ۱۰
والحقّ أنّه إشارة إلى العلم الأزلي الذي لا يتغيّر ولا يتبدّل أبدا بحال من الأحوال من الزيادة والنقصان والانعدام والتجدّد وغير ذلك ، كتعلّق الإيجاد بمعلوم دون معلوم ، والكلّ من معلوماته سبحانه .
وقال برهان الفضلاء سلّمه اللّه تعالى :
«علم وشاء» يعني قال عليه السلام : علم اللّه تعالى هذا النظام قبل أن يوجد ، ولم يوجد كلّه دفعةً ـ كما زعمت الفلاسفة من أنّ وجود الأجسام والحوادث والأزمنة ليس على الترتيب من حيث الصدور ، بل الترتيب الذي يشاهد إنّما هو بالنظر إلى الزمانيّات ؛ لكون الزمان الصادر عن واجب الوجود دفعة ، ويسمّونها دفعة دهريّة هو ماض وحال ومستقبل بالنسبة إلى الزمانيّ ـ بل أوجد تدريجا بمراتب .
فبعد العلم «شاء» يعني خلق ماءً ليصير مادّة خلق الأجسام بهذا النظام .
ثمّ «أراد» والإرادة : تأكيد المشيئة ، يعني جعل بعض ذلك الماء عذبا ليخلق منه الجنّة وأهله ، وبعضه ملحا اُجاجا ليخلق منه النار وأهله .
ثمّ «قدّر» والتقدير : تأكيد الإرادة بفعل آخر ، كخلقه السماوات والأرض بحيث يوجد الليل والنهار والفصول والأهلّة وغير ذلك لفائدة الأرزاق وغير ذلك .
ثمّ «قضى» والقضاء : فعل التتمّة ، كخلق المكلّف وبعث الرّسل وإنزال الكتب .
ثمّ «أمضى» والإمضاء : بتقيّة الفعل التامّ إلى أوان ترتّب الفائدة المطلوبة منه إليه ، كتبقية هذا النظام إلى الوقت المعلوم .
«وغير ذلك ممّا يدرك بالحواسّ » أي غير ما ذكر ممّا لم يوجد ۱۱ ويدرك من بعد «فللّه فيه البداء» قبل أن يصير موجودا عينيّا ، ولا بداء بعد تحقّقه موجودا عينيّا معلوما مدركا .
«فبالعلم علم الأشياء قبل» إيجادها . «وبالمشيئة» أعطى ريح الوجود صفات الأشياء . يُقال : «عرّفه تعريفا» : صيّره ذا ريح ، من العَرْف بالفتح ، وهو الريح ، طيّبة أو منتنة . وأنشأها «قبل إظهارها» أي مهّد لها بخلق الماء قبل إيجادها بخصوصيّاتها . «وبالإرادة» بين ذوات الأرواح وبينها وبين غيرها . «وبالتقدير» قدّر أقواتها . «وعرّف أوّلها وآخرها» أي أوّل الأشياء وآخرها . «وبالقضاء أبان للناس» أماكن الأشياء ممتازة من السماوات والأرض والنجوم والعناصر والجبال والمعادن والأنهار وغير ذلك ممّا علم اللّه «ودلّهم» على منافعها ، «وبالإمضاء» أوضح الأغراض من إيجادها وأبان شغلها ، ومآلها كمثال أهل الجنان وأهل النيران «ذلك تقدير العزيز العليم» .
1.محمّد (۴۷) : ۳۸ .
2.راجع الكافى ، ج ۳ ، ص ۴۶۹ ، باب صلاة فاطمه عليهاالسلام و ... ، ح ۷ ؛ و ج ۴ ، ص ۴۰۷ ، باب الطواف واستلام الأركان ، ح ۱ ؛ الوسائل ، ج ۸ ، ص ۱۰۶ ، ح ۱۰۱۸۲ .
3.الأنعام (۶) : ۹۶ ؛ يس (۳۶) : ۳۸ ؛ فصّلت (۴۱) : ۱۲ .
4.في المصدر : «القدر» .
5.في المصدر : «بعدم» .
6.في المصدر : + «متى شاء» .
7.في «ب» و «ج» : «تعليقه» .
8.الحاشية على اُصول الكافي ، ص ۴۸۱ ـ ۴۸۲ .
9.لم نعثر عليه في الحاشية المطبوعة .
10.الوافي ، ج ۱ ، ص ۵۱۸ ، بتفاوت .
11.في «ألف» : «يوجد» بدون «لم» .